قبل أن يبشر نيتشه بأفول الأصنام، كان الفيلسوف الألماني هيجل بشر بنهاية الفن، جاعلا من هذا الأخير أعلى أشكال الحياة، فهو إطار تزيين للتاريخ، فالروح المطلقة بدورها تتجاوز التاريخ وتتجسد عبره، لذا رأى هيجل أن هذا التطابق هو نهاية هذا الفن. الشعر بدوره اتخذ عدة تأويلات وتنظيرات، فأصبح هو الجرح والأنين والسعادة والنظم والممارسة الذاتية، يفارق الذات والوجود والمكان والزمن، ويصنع المفاهيم أينما ارتحل وتوهج، فهو الذي يتمرد على النوعي واليومي لأنه تفكير في الوجود، وانفتاح لتشرق الموجودات ويتأسس الوجود، رغم أن مسألة الوجود أصبحت في طي النسيان كما يقول هيدجر في كتابه “الوجود والزمن”.
إن تصور جعل الإنسان في مركز الكون سرعان ما فقد صولته، بظهور الثقة التي أخذت مركزا لتقول الحقيقة عن الذات نظرا لفشل الوصول لذاته، لأن التفكير يعد ممكنا في أيامنا هذه إلا في النوع الذي خلفه اختفاء الإنسان، كما يقول فوكو في كتابه “الكلمات والأشياء ص 353” إذن كيف نتجاوز ثنائية الذات والموضوع من خلال اللغة؟
فالثقة هي الفهم والتفسير، هي التي تجعل الوجود يدخل الخارج إلى بيت اللغة لكي يستغنى بها الشاعر، لأن الشاعر في علاقته بالثقة هي علاقة حدوث وتوقع، وليست نعتية ولا ظرفية ولا اسمية، فالشيء الماهوي هو الذي يأخذ بعده الأصلي، لأن الشاعر يسكن شعريا، ولكن كيف يمكن أن ينطبق ذلك بشكل دائم على الشاعر محمد بلمو؟ إننا نسكن الأرض المكتظة بالناس، فلا نعرف المكان المناسب لقول الشعر، لذا تبقى الذات الشاعرة البلومية تبحث عن منطقة تكون كحنين وكطيران في الهواء وكهروب داخل حلم عقلاني، بل يظهر لنا كمنطق أدبي وكوسيلة تثقيف داخل هذا النمط، فالشاعر بلمو يفكر في كينونتنا كسكن وكشعر لقصائده، وهي بمثابة السكن لهذه الأنا /الوجودية. ولأن لغته الشعرية هي التي تتكلم مع العالم الخارجي، مستجيبا لما يسمعه ويفهمه، إذ يستوقفنا أمام كينونة الشيء لتعرض علينا الوجود بشكل مباشر، ولتحدد لنا التجربة التي يخوضها بلمو الشاعر مع اللغة، كوجود ينتظر الحمل للتعبير عنه وحمله إلى الجمال والمعجزات. إنه يحاول أن يستوطن العوالم الممكنة (الموت، الحياة، الوجود، البعث …) حتى تكون وتكتسب كينونتها لمواجهة التسلط – والسلطة والكون، وعبر هذه المواجهة تأخذ نبرة تصورية تتعلق بالتفكير والتساؤل إذا ما كان الشعر قادرا على تلخيص هذه الذات من الارتجاج المرتد، على اعتبار أن الشاعر في حواره مع العالم كان يسعى إلى تحقيق إمكانات جديدة لحياة كائن لم يكن بعد، إنه يسعى إلى مجاورة محنة المعاصرة التي عبر عنها في الديوان، وهذه هي الرؤية البنيوية كما عبر عنها ليفي شتراوس في كتابه مدارات حزينة،ص 447 حيث يقول:”إن الشعرية منتشرة بالتأكيد على هاوية الفناء الوشيك”، فالبحث عن حقيقة الوجود عند الشاعر بلمو لا يتأتى إلا من داخل اللغة التي هي علامة موت الإنسان المعاصر. بهذا المعنى نرى أن الشعر يبحث عن الشاعر والوجود يبحث بدوره عن الموجود ذاته، كما يرى هيجل “هيدغر ضد هيجل” ص 36. فالشاعر في هذا الديوان يأخذ البعد اللغوي بعدا استرجاعيا للماضي المقدس (الطفولة – أريج – الموت – الحياة – الاندماج – السمو …) وكتجسيد لبنيوية الإنسان في العالم، وكإيقاع يندمج في جغرافية القصائد الممتدة إلى الأرض المنتظرة، فهي التي تعيد ترتيب تضاريسها وفق إيقاع متنوع يبدعه الشاعر الذي يجوس تحت ظلال اللغة.
إن حاجة الشاعر إلى اللغة مثل حاجته إلى اكتشاف نسيان الطفولة – الأدب – اريج – الكتابة – الحرية، حيث تنتشله هذه التيهات من حالة الوجود الى حالة الكينونة، فاللغة الشعرية البلومبية تسبق هذا الجسد الفاني لاستيطان الكون، لأنه يسعى دوما في دواوينه المدروسة سلفا إلى إعادة المعرفي إلى الكينوني. (كتاب هيدجر ضد هيجل بن عبد العالي ص 54،) وهذا بالضبط ما يهدف إلى تأسيس (الدازين) ذلك الذي يتزامن كحاضر بين المستقبل وما مضى في توحدهما، إن معنى اللغة يكمن في كونها قابلة للتساؤل والتواصل على الدوام، لأن أصالة الشعر عنده تكمن في وضع عناوين لإثارة المشاكل واستفزاز القارئ لا في التماس الحلول لها وله، ولجعله يكابد الدهشة الشعرية، وأن يكون قادرا على الانتظار ولو طال العمر كله.
فقراءة متأنية لما هو مكتوب قد تمكننا من تحصيل فكرة مهمة عن المسار الذي اتخذته رؤاه فيما تعلق بالعقل خاصة، وعليه لا ينبغي فهم الكلمة على أنها استمرار للفكر في حد ذاته، بقدر ما تعنى قراءة جديدة لكل التراث النقدي الموجود على ضوء السياق العام الذي نشأ فيه …
فلا مناص إذن حيث التطرق إلى الفكر، من الحديث عن الشعر لا باعتباره أساس مفهوم التناص فحسب، بل باعتباره مبدأ عاما استطاع أن يؤسس منظورا للغة، حيث انطلق منها لبناء تصوراته النقدية، بل واعتبارها مبدأ عاما للحياة حيث يصرح أن تكون لغة يعني أن تتواصل حواريا كما يقول باختين، ولا يمكن فهم هذا المبدأ بمعزل عن التصور الخاص الذي يؤمن به فيما يخص اللغة، بل أنه أساس فكرة الكتابة ، حيث ينطلق من فكرته حول اللغة الإبداعية، لكي يعتبرها تدخلا بنيويا، إذن لا ينبغي عزل اللغة عن الطابع الايديولوجي والاجتماعي في شعره، من حيث إنها المولد لفعل التواصل، حيث تأتي هذه الأهمية الخاصة للكلمة الشعرية من كونها تملك خصوصية تجعل منها أولى وسائل الوعي الفردي، وهي نتاج وسائل فردية وأداة التعبير الداخلي مثل الوعي، إضافة إلى هذه الخصائص النوعية التي تتمتع بها القصائد، والتي خولتها لأن تكون التأريخ الأساسي لدراسة المؤلف والإيديولوجية والوعي والفكر.
إن واقع الديوان رهين بوظيفته باعتباره علامة لغوية، وهو ما يمنحه أهمية في دراسة هذه القصائد، كونها أكثر قدرة على التمثيل الواقعي والخيالي، حيث أنها العلامات الوحيدة التي لا تتميز بالحيادية اتجاه أي وظيفة إيديولوجية أو فكرية، ما يمكنها من أن تقوم بأدوار فنية إيقاعية وكذا دلالية، باعتبارها أداة للوعي النقدي الذي ينبغي دراسته على أنه علامة /اجتماعية.
لقد تبنى الشاعر بلمو التفاعل الكلي بوعي للكلمة حتى تكتسي هذه الأخيرة دلالة جديدة تنضاف إلى الدلالات الإنسانية، لأن تحول القصائد إلى ملفوظات جعلها تمتلك منطقا داخليا يعبر من خلاله عن حالة نفسية ما، وتتأسس العلاقة الحوارية هنا بين ثقل الكلمة وسلطتها الحالية، وهو ما يجعلها حيوية وديمومة وسط هذا التفاعل المستمر داخل الأنساق الشعرية. فالقصائد إذن هي التفاعل الذي يمنح للكلمة سلطتها المتعددة على امتلاك الأنا الوجودي الداخلي، ويمنحها أيضا توجها جديدا ومضاعفا نحو خطابها وخطاب الآخر المختفي والمظهر، لأن الكلمة حسب كريستيفا un mot plien كونها موجهة إلى الإنسان والكون والممكن والأسطوري والرمزي، لتعيش الذات الشاعرة تعددها وتنوعها الأنطولوجي، فليس من الممكن أن تعمم الشاعر بمعزل عن فكرة التلفظ الشكلي والدلالي، ما دامت كل قصيدة تحيل على قصائد سابقة وتقيم جدلا معها وتقترن بانتقالها من متلق إلى آخر، ومن مجموعة اجتماعية اكتسبتها خلال رحلتها الخيالية إلى أخرى.
إن رحلة الشاعر في هذه القصائد تمكننا بتحديد وضعيتنا دون ربطها بوضعيات أخرى، ما يجعل القصائد تمتلئ بردود أفعال وإجابات على أسئلة وجودية. وكشريك خطابي متجه نحو الموضوع ذاته، فمحمد بلمو جعل أسئلة تتبلور في شكل نظريات، تأثرت بسياقات وفضاءات متنوعة حيث يقول: “يغتال صوتي الرخو/كأن الخمر لا يصحو/ من هوائي/كأني أضحك ملئ الأرض/من جنون القبل ” ص 22
انطلاقا من المقطع يقوم بالدرجة على الوصف والتفصيل حيث تتقدم فيه التفعيلة بشكل مباشر، إذ ينهض على مجموع القيم الصوتية التي تولدها المفردات، يقول في هذا الصدد أيضا: لن توقفوا ناركم ” ص 21
فالبحث في جنيالوجيا الخطاب الشعري الجمالي والغني باعتباره تكثيفا للمعطى النفسي والانفعالي، يقتضي منا بالضرورة البحث عن الدينامية المؤسسة لهذا الفعل الإبداعي الشعري، والبحث أيضا عن مصدر هذه الطاقة الخيالية التي يصفها باشلار بأنها الطاقة الإيجابية في المبدع، وبالتالي فتحليل بلاغة هذه اللغة الشعرية في تضاعيفها الأسلوبية والدلالية تجعلنا نقترب من كل تمظهرات الشعور الباطني لفهم مصدر وضعيته الرمزية واللغوية، والاستعارية والمجازية يقول:
“ستفاجئهم يا قيتاري/ من صلبك / تصمد الأطلال / من جبنهم / تضحك أشجاري /تدحر فلولهم /على متاريس أوتاري/ ستفاجئهم ” ص 35
فالشاعر مد هذه الكلمة بسحر الرغبة التي هي مصدر الرمز، لتتحول الكلمة ضد العالم، فهذه الإيحاءات ليست إلا وسيلة لإجراء تعارضات تمايزية، وتركيبات ضرورية، إنه بالأساس تعبير غير مباشر، بمعنى أن الكلمة هي وسيلة الذات للتعبير عن الواقعي عبر محفزات الخيالي، يقول في هذا المقام: “صدقوني / أنا لا أكتب /فقط أعلن النفير / في استعارتي / كي أقف في وجه ظالمي” ص 73
هذا البوح يعد انعكاسا لحقيقة الحياة وتغيرات الذات الاجتماعية، حيث يقدم لنا الشاعر موقفا دقيقا من الآخر في اتساعه وسموه وتنوع لغاته، مع عقد موازنات بينه وبين الخارج، يقول” عندما أموت / أمشي وحيدا / أحفر قبري بأظافري /لأن أبي / كان فلاحا عظيما / علمني كيف أتبادل الحديث /ص 68 .
فالشاعر جعل الذات وسيلة تتكلم عبرها اللغة، باعتبارها آلية ثانية من آليات اشتغال الذات اللاشعوري في الإبداع، فيعمل على استبدال العمليات النفسية لموضوعها الخاص بموضوع آخر داخل نفس السلسلة الدالة كما يقول ج لاكان، فالقصائد كهمهمات.. أيتها الأحزان مهلا/ جرى الذي جرى/ عودي أريج كي نرقص/ طعنات سحيقة/ بريد الجثث/ عندها أموت/ لا أكتب/ الأمل لا يموت/…. يعكس هذا التنوع الشعري في ذات الشاعر مصحوبة باضطرابات نفسية، حيث تشير إلى هذيان وارتياح في الشعور، فيقوم بأعمال كأنها تمثل ماضي أيامه، وتسمى هذه الحالات أوهام العمل، لأن الشاعر يصور هذه الذات المعكوسة على صفحة “مرآة زجاج مهشم”، لتشترك مع جميع أشكال التواصل الاجتماعي المبني على التفاعل بين الذوات بمقومات مشتركة، ولتشكل ما يمكن تسميته بعملية التواصل التفاعلي. ولكن هذه القصائد تقدم حالات وجدانية شعورية سواء الإيجابية أو السلبية منها، ستعكس نفسها عن طريق تواصلها بالعالم الخارجي يقول “لك وحدك أبوح صديقي/ بلوعتي للموت/ واشتياقي/ وبالترياق المر/ حين لا تفلت من مقاصل الظلم/ أعناقي، بئس الذين صادقتهم يوما/ باسم البلد ،وما ولد ” ص 52
وتعد عملية وعي الذات مطلبا جوهريا لرؤيتها من الناحية النفسية – الاجتماعية – لأن الوعي بالذات في حقيقته ليس سوى عملية ارتداد الأنا إلى فضائها الحيواني لمعرفة أنواع هذه الذوات، إما بالذات العمياء blind ، او المفتوحة open self ، أو المقتنعة hidden self ، أو الواعية un known self.
وهذا التنوع بات واضحا لدينا، مدى أهمية عملية لاوعي الشاعر بذاته حيث يتواصل مع العالم الخارجي، فتبقى الكتابة هي الوعاء الأول لمعرفة الذات التي تتضمن كل التجارب والأفكار والطموحات وكذا المواقف، ومن هذا المنطلق لا تعد عملية البوح مجرد إخبار واستذكار، بل إنها عملية اختيارية وانتقائية وإفصاحية عن المكونات الداخلية يقول : “هل تنصتون لدقات قلبه / حين يرتفع الضغط / الحرارة / تذوب الجبال / تغرق الشواطئ / يا صبر الجبال / أين أجد كوخا / ووسادة ورغيفا لصبري / الأبدي السرمدي / والطعنات السحيقة / تتوالى على هوائي / تقتات من ألمي / تنتعل شقائي كي تنتشي . ص 46 – 47
فهذا البوح السري هو اختراق اجتماعي لهذا العالم البلومبي اللامحدود، لأن الحزن والألم المغلف بالرقص والأغنيات جعله يبحث من يخرجه من ضياعه وعذابه، متسائلا عن هذه السيدة التي عادت ملحا وأنينا، إذن كيف يلاحق هذا الألم هذا الذات وهي كالنحلة تبحث عن رحيق وراء هذا الورد المندحر، وعشتار (أريج) الساكنة في دمه، تشق فؤاده والدم المستحيل يتعلم المشي وراء الفناء كي يستقي ألمه، والماء العذب الزلال، وحده الذي يبتلع ريق الألم، ورماد السنين يكسو جسده لكي يملأ الأرض عشقا وبوحا، ويبدع الفرح والحزن معا. ص 28
لن يبدو تفسير الشاعر معقولا إلا لو ظللنا مصرين على أن تعريف البوح في البياض هو اكتشاف وإبداع موضوعي، يشير تاريخه إلى التعريف الذي جاء في الديوان ص 31 – جرى الذي جرى، حيث يصر على هذا الحضور لكي يكتب بصورة معارضة، لأن الموت سيبوح أمامنا عن أسراره صباحا مساءا، وسيختار المكان لكي يدفن فيه ليقف كالشجرة عارضا براعته التصويرية لتقربنا إلى قصيدة الخروج لعبد الصبور وأيضا قصيدة أمل دنقل “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة”، لأن الشاعر يخرج من ذاتيته كي ينشر هواء الاستعارة في البياض، وأصابعه ترقص مع الحروف لتخرج متوهجة باحثة عن من يدثره ويطعمه. هكذا يظل يسير ويتسلل بين خيوط المطر، ومن شقوق النوافذ المغلقة، يتساءل عن هذه الحضارة التي انبثقت من كهف أفلاطون وسرقها بروتيوس وتلقاها الشاعر بلمو ليقف في وجه كلاب الرأسمال المجنون، يحاسبهم عن خيانة الماء والسماء وعن دخان معاملهم، كي يضحك الثقب، ويشهق الجرح ص 46.
فالديوان كما أرى ليس وهم خلق الذات لنفسها، فما نظن أن حريتنا ليس إلا إذعانا لقيود علاقات سلطة الكلمة، ولهذا انجذب الشاعر بلمو إلى مشروع الذات لخلق حياة جميلة، لأنه يعي جيدا أن هذا المشروع الإبداعي الخلاق مرتبط بهياكل سلطة الكلمة والجملة. فالديوان هو مفتاح هذه القضية التي تواجه الذات البلومبية، لأنها تحول الفعل الإيقاعي السيميتري إلى إشكالية كبرى، تتحدد بعلاقات المجتمع الذي ينتمي إليه، فهو القادر على الاستجابة للقضايا التي تثيره بطريقته الخاصة، يقول: “في بهو اللغة/ أشياء تتزاحم / تقضم أصابع الكتابة / كراسي فاغرة أفواهها / في مربع ضوء / بركن حانة منزوية / أقنعة مسلحة نهبت الربيع / من أيدي ثوار / غمسوا راياتهم /في ماء الحلم البعيد/ في الصخور / وعادوا مدججين بالأرق ص 27.
وحتى يحتكم أي خطاب نقدي إلى تاريخيته الخاصة، سيكون لزاما علينا أن نمر عبر مراحل تشكله وتأسيسه، بحالات ارتباط وتفكك مختلف أشكال الخطابات التي يتناص معها في البعدين المعرفي والشعري، فالشاعر بلمو أبدع ولا زال يبدع إشكالية ليست منهجا تاريخيا بل موضوعا يحول رموز الهواء، التراب والماء كأقانيم، تتطلب أولا فحصا دقيقا لبنى الخطابات الأركيولوجية ولتكون تاريخا للحاضر، ولا عودة إلى طرق القدماء بقيودها الصارمة التي لا مكان لها في عالمنا. يقول “حين تنبعث من حروفي / رائحة البارود/ نيران المدافع / لأن تجار الحروب / لا يريدون للسلام / أن يحط يوما على هذه الأرض” ص 72.
فهذا الموقف هو الاستماع إلى هذه الأحاسيس والمشاعر الوجدانية والانفعالية حيث يتم هذا الإصغاء في الغالب في إطار التواصل الشعري بهدف مشاركة المتحدث (الشاعر) في مشكلاته ومشاعره، وحتى نتوصل إلى ذلك، علينا الانتباه إلى لغة جسد الشاعر الذي يتأمل الفقدان والأحزان التي تلتحف بالمطر كي تظهر لنا هذا العالم العاري أمامنا، وعلى سرير يموت جسد الشاعر والأشجار تقول للنذالة إرحل من قراري، إرحل من خياري، من دياري من ليلي ونهاري ، ص 26
فهذا الأمر الاستعجالي هو تقييم وتذكر واستفسار بأسئلة مفتوحة، وتركيز وانتباه لمجريات الأحداث، وجاذبية جسدية تزيل الاعتقادات غير الدقيقة عن مفهوم الشاعرية، لأنها عملية تفاعلية وتعاونية بين الثابت والمتحول، وبناء أفكار ترتبط بالأشياء التي توجد بالفعل خارج الزمن والمكان، وتساءل الشاعر بلمو عن كيفية معرفة أن خبراتنا بتداعيات الأفكار المنتظمة “لم يجدوا البحر إلا في صحرائي” ترتبط بالعلاقات الضرورية في الواقع، ولم يكن هناك من يملك إجابات ذوقية لهذه الأسئلة سوى الشاعر نفسه، يقول: “صدقوني /أنا لا أكتب /فقط / أعلن النفير / في استعاراتي /كي أقف في وجه ظالمي. ص 73
فهذا الموقف جعلنا نعتقد أن الشاعر يرسل نداءه للمعنى كما يقول جاك فونتاني في كتابه “سيمياء المرئي” (الغلاف)، فلم يلتفت كثير من القراء إلى ذاكرة هذا الديوان لما يحمله من أقنعة مكانية وفيزيائية وإنسانية لإيصالها إلى المتلقي، كما تفعل تلك الشخصية التاريخية، ولكن المكان في هذا الديوان هو رمز لكل المعاني والقيم الروحانية التي تقابل القيم الاجتماعية المادية التي ترمز إليها المدينة والمستشفى، والبادية والطبيعة، كلها تنهض على الرغبة في الحرية والكرامة، إنه المكان بمثابة الأم الرءوم التي تآلف معها الشاعر إلى حد الاندماج بها، فكان من الضروري أن يستحضرها كلما اشتد به الحنين واشتدت عليه الشدائد، لذا وقف أمامها لكي يلامس المكان من خلال الرمز (عندما أموت) كما عند صلاح عبد الصبور في ديوانه بيروت – 1971 ص 235
فهذا القناع تحدث من خلاله عن تجربته مصلوبا على أخشاب المعاناة الإنسانية والوجودية والفكرية. وعلى قاعدة قةل إليوت، فأن الصوت المهيمن في المونولوج الدرامي الشعري في هذا الديوان هو الصوت الثاني من أصوات الشعر، لأن صوت الشاعر متحدثا إلى الآخرين من خلال القناع ومتقمصا شخصية أخرى كما في مناداته لأريج، أو اختياره للموت وحيدا، أو عدم الكتابة، فالشاعر محمد بلمو يواكب كل التجارب الشعرية كالبياتي وصلاح عبد الصبور وخاصة في قصيدته مذكرات الملك عجيب ابن الخصيب، حين يتخفى بلمو وراء الأقنعة التاريخية والأسطورية، مما يضفي على عمله الشعري موضوعية رمزية ويمده بالعودة الى الماضي ليكون مهيارا يتقمص المشكلات التي تتجسد في حياته، فاكتست القصائد هذا البعد الجديد الذي يجعلها تولد من جديد كلما تقدم بها العهد. (البياتي تجربتي الشعرية) ص 38 – 39، فالشاعر بلمو يريد أن يرحل كجلجامش إلى أرض الخلود، لكن عشتار (اريج)، رحلت دون عودة، فيظل الشاعر يطارد المستحيل لكي تعود إلى الحياة ويعود إلى الحدائق طائرها الفريد، الذي كان غائبا، والى الأشجار والورود التي أحرقها العدو، وتعود البهجة للحياة. هكذا رفض الموت الجماعي ورفض الكتابة لكي يحرق السكون المتحجر ويبعث الحق من خلال الهواء والنار، وليصبح البعث بعد الموت أمرا حتميا كشروق الشمس بعد غروبها، لذا ظل الشاعر أورفيوس بلمو صاحب القيتارة الساحرة يهمهم، كي لا تتوقف الأيام، ولا يهدأ الموج، حيث بحث في هذا العالم السفلي كل ما يخالف الفناء، ليستطيع تحويل هذا العالم إلى ذهب إبداعي، يكون عتبة عليا من خلالها نعرف من يتحدث، وأين نعيش، وكيف نكتب، وكيف نتجاوز العالم المعولم، وهذا هو سر ديوان طعنات في ظهر الهواء .
وفي الأخير لا يسعني إلا أن أدعو الطلبة والباحثين لإعادة قراءة هذا الديوان من خلال البعد الابستمولوجي أو البيولوجي أو الخيالي، كما فعل غاستون باشلار، وبيير بورديو.
> بقلم: د. الغزيوي بوعلي