منذ سنة 1995 صادقت منظمة اليونسكو على قرار الاحتفال باليوم العالمي للكتاب كل شهر أبريل، وبالضبط في الثالث والعشرين منه، وبلدنا على غرار سائر البلدان المتحضرة، يولي هذه المناسبة الاعتبار الذي تستحقه، وعيا بالدور الأساسي الذي يلعبه هذا المنتوج الثقافي والمعرفي في الرقي بالمجتمع وتكريس روح القيم الحضارية.
على هامش هذا الاحتفال، يدلي نخبة من أدبائنا وكتابنا لبيان اليوم، بتصريحات تخص تجربتهم في النشر وعلاقتهم بالكتاب الورقي والالكتروني ومنظورهم لسياسة دعم النشر التي تنهجها وزارة الثقافة واقتراحاتهم للرفع من نسبة مقروئية الكتاب المغربي..
القاصة فاطمة الزهراء الرغيوي
لهذه الأسباب لا أجدني متحمسة للنشر
آخر كتاب نشرته هو مجموعتي القصصية الثانية: خمس رقصات في اليوم عن دار فضاءات بالأردن. بعد مجموعتين وكتاب رسائل مشترك وبعض المساهمات في كتب جماعية، لم أجد أن النشر يحقق قيمة مضافة فعلية للكاتب في مجتمعنا. إنه تقريبا مجرد تراكم كمي. يمكن محاولة الاستغناء عنه عبر النشر في المنابر الإعلامية، ويمكن الاستغناء عنه تماما بالاكتفاء بممارسة الكتابة والنشر على جدار الفايسبوك. هل يحقق النشر فعلا اختلافا ما؟ وهل يحقق إضافة معنوية ما للكاتب/ة؟ ليس في ظل الوضعية الراهنة للنشر والتوزيع والقراءة طبعا في العالم العربي.
حاليا أنا بصدد نشر مجموعة قصصية جديدة “أضع سري بين يديك” عن دار كلمات وبدعم من وزارة الثقافة. لا أستطيع أن أقول إنني راضية تماما على عملية النشر بشكل عام. لأن الوزارة فكرت بدعم الناشرين ولم تفكر بدعم الكُتاب. يكتفي الكاتب بمعانقة مؤلفه مطبوعا-وليس بالضرورة موزعا على المكتبات-، وعليه أن يكون ممتنا فقط.
إن تجربة النشر هي تجربة مريرة بالنسبة للكاتب. خاصة أن أي حديث عن حقوق التأليف تعتبر طمعا في الكسب المادي. يكون عليك أن تواجه السؤال الضمني: أنت كاتب/أنت كاتبة ما حاجتك للمال؟ من قال إن على الكُتاب أن يترفعوا عن حقوقهم المادية، ومن قال إن أي مطالبة بهاته الحقوق هي جشع غير محمود ولا ينبغي أن يبتلي به الكاتب الحقيقي؟
لذا، لا أجدني متحمسة للنشر. أفعل ذلك من باب تجميع نصوص قصصية بين دفتي كتاب، وهي نصوص نشر أغلبها في منابر إعلامية مختلفة. ولا أتوقع الكثير من النشر. يبدو أنني أصبت بلوثة التشاؤم. إنني أكتب الآن لأنني لا أستطيع التوقف عن ذلك فقط.
آخر ما قرأته ورقيا ورقميا
آخر كتاب قرأته ورقيا هو كتاب أصول “Origines” لأمين معلوف. وهو وإن لم يكن كتابي المفضل له، إلا أنه يقدم من خلاله سيرة موفقة لعائلة ممتدة جغرافيا وزمنيا. يفصل معلوف في تاريخ عائلته بلا مواقف جاهزة ولا حاجة إلى التبرير والتخفي وراء أسماء لامعة. والبحث عن الأصول بالنسبة لأمين معلوف هو تحرر من سلطة الجذور المُقيدة إلى علاقة انتماء -يمكن أن نعتبر أنها تتسم بالندية- إلى أصول يحرص أن يترك مسافة بينها وبينه.
آخر كتاب قرأته على الحامل الإلكتروني، على شاشة هاتفي تحديدا، هو رواية آخر الملائكة للكاتب العراقي فاضل العزاوي. قرأته مستسلمة لنوبات الدهشة والضحك والتأمل ومراجعة الذات ومساءلة الواقع. آخر الملائكة هو كتاب لا يمكن أن تخرج منه سالما. ستحمله معك بكل جوارحك. وسيغيرك إلى الأبد. وإن كان العزاوي يجعل من مَحَلّة جقور نموذجا مصغرا لمصير العراق في القرن العشرين تحديدا، فإنه يمكن أيضا أن نقول إنها نموذج مصغر للدول العربية المستسلمة لبؤس الجهل والتخلف وطغيان السياسيين والثوريين المفترضين وتلك العلاقة الشائكة بالدين والتقاليد والخرافات. لم أكن قد قرأت قبلا للعزاوي. والحق أني تأخرت كثيرا في التعرف على هذا الكاتب الاستثنائي حقا.
الكتاب الورقي يسبب لي حساسية
أعتقد أنك تقصد بسؤالك حول علاقتي بالكتاب الإلكتروني، الكتب التي يمكن أن نُحملها – بمقابل أو لا- من الانترنت. شخصيا، أعاني من حساسية تجاه بعض أنواع الورق والحبر، ما يجعلني ألجأ أكثر فأكثر إلى القراءة في الحاسوب وفي الهاتف. أجد أنهما وسيلتان جيدتان للقراءة يمكناني من تفادي نوبات حساسية متكررة ومريرة، ومن عدم القطع مع القراءة. عموما إن ما يعنيني بالأساس هو القراءة وليس نوع الحامل الذي أستعمله في ذلك.
لا يفوتني هنا أن أشير إلى أن حقوق المؤلف في العالم العربي تضيع بسبب عدم وجود منظومة قانونية تنظم قطاع النشر والتحميل الإلكتروني للكتب. وهو أمر مؤسف، يؤدي طبعا ثمنه الكاتب والناشر معا.
لأجل تمكين أكبر عدد من الكتاب من فرصة دعم نشر كتبهم
لا أملك المعطيات الكافية لأقيم عملية دعم وزارة الثقافة للنشر. فقط ما يمكنني أن ألاحظه من خلال لوائح الكتب المدعومة هو تكرار بعض الأسماء من دورة إلى أخرى وفي نفس الدورة أحيانا. ألا يجب على الوزارة أن تفكر في تمكين أكبر عدد من الكتاب من فرصة دعم نشر كتبهم؟
كما أن التباين الكبير في قيمة الدعم المادية بين الكتب العربية والفرنسية يطرح لدي التساؤل عن نوع من الطبقية المفترضة في الكتابة باللغتين تميل إلى تكريس هيمنة اللغة الفرنسية في هذا المجال أيضا. إذا أضفنا إلى هذا نسبة عدد الكتاب وعدد القراء بهذه اللغة مقارنة بالعربية، سيتبدى لنا التمييز بوضوح أكبر.
المهم أن نقرأ
إن الطفل الذي لا يتعلم القراءة منذ مراحل التعليم الأولى، سيجد صعوبة في احتضان الكتاب لاحقا. أجد أن التعليم في المغرب مقصر في هذا المجال.
الأمر يتعلق بكل الكتب. الكتاب المغربي أيضا معني بزيادة عدد القراء بشكل عام. قد يبدأ القارئ بكتب لغير المغاربة ثم يصل إلى الكتاب المغربي، وقد يفعل العكس. بالنسبة لي، المهم أن نقرأ. المهم أن يصبح الكتاب جزءا من برنامجنا اليومي.
***
أقرب إلى المغامرة
أصْدُقُكَ القولَ بتأكيد أمرٍ أمسى معروفا لدى كثير من كتابنا اليوم، وهو أن نشر الكتاب، ولاسيما الإبداعي، في المغرب صار أقرب إلى المغامرة، التي لا يخرج منها الكاتب إلا خاسرا ماديا، وإنْ ربح قراء محتملين لإنتاجه، وهذا هو الأهمّ في نظري. فالذي يُقْدِم الآن على نشر كتابٍ له، دون عرضه على ناشر يتولى ذلك، مقابل امتيازات كثيرة ينالها جراء ذلك، يتحمل تكاليف نشْره، التي تكون أحيانا مكلفة، وتُلاقيه صعوبة أخرى تتعلق بتوزيعه على نطاق واسع داخليا، دون التفكير في توزيعه الخارجي؛ لأن ذلك غير مقدور عليه بالنسبة إليه. ويزيد هذا الكاتب تألّما لمّا يتحمل كل هذه المشاقّ، لكنْ لا يُقابَل جهده هذا بعناية كافية من جانب القارئ والناقد، إلا لِماماً. وتجربتي في النشر لا تشذ عمّا ذكرته؛ فقد توليت نشر آخر إصدار لي، على نفقتي طبعا، وهو عمل نقدي وَسَمْتُه بـ”مساءلة النص الإبداعي العربي” (2015)، وقاربتُ فيه – بمناظيرَ مِنهاجيةٍ عدّة – جملة من المتون الإبداعية العربية الحديثة والمعاصرة، في فنون القصة القصيرة والرواية والمسرحية، واكتفيت بإهداء أكثر نُسخه إلى الزملاء الباحثين والمهتمين بمجال النقد الأدبي؛ فوصلتني ردود وملاحظات من بعضهم سررْتُ بها حقّا، لاسيما وأنها وضعت الإصبع على قضايا تحتاج إلى نقاش وإغناء ومطارحة نقدية جادّة.
آخر ما قرأته ورقيا ورقميا
أحدث ما قرأت كتاب ورقي، ظهرت له طبعتان مغربيتان، عنوانُه “مفهوم التأويل في القرآن الكريم والحديث النبوي” لفريدة زمرّد؛ الأستاذة بدار الحديث الحسنية بالرباط، وهو – في الأصل – بحث أكاديمي نالت به درجة الدكتوراه بإشراف الدكتور أحمد البوشيخي. وقد درَست فيه، بعُمقٍ وإفاضةٍ، التأويل، مفهوما ومصطلحا، في خطاب الوحي، قرآنا وسُنّة، باعتماد منهج الدراسة المصطلحية بمعناه الخاص، الذي يقوم على خمسة معالم كبرى هي: الإحصاء، والدراسة المعجمية، والدراسة النصية، والدراسة المفهومية، والعرْض المصطلحي. وخلَصَت من ذلك إلى نتائج على قدْرٍ بالغٍ من الوَجاهة والقوة بشأن استعمال التأويل في الخطاب الديني الإسلامي. وبالنسبة إلى الموادّ الإلكترونية، فآخر ما قرأتُ منها دراساتٌ من العدد السابع من مجلة “دراسات استشراقية” المحكّمة، بيروت، ربيع 2016، وهو متاح على الشابكة، إلى جانب باقي أعداد المجلة الأخرى الصادرة من ذي قبْلُ.
الكتاب الرقمي ليس خصما
أبادر بالقول إني لست من معارضي الكتاب الرقمي، ولست أراه خصما عنيدا لصنوه الورقي، بل أعدّ العلاقة بينهما مبنية على التكامل. وعليه، فإني أقرأ كثيرا من الكتب في صيغتها الإلكترونية، التي توفرها مكتبات رقمية على النت مجانا أو بمقابل. وهذا من حسنات هذه التكنولوجيا العجيبة.. إذ إنها أتاحت لنا قراءة كتب عدة بيُسْر، ودون تكلفة تُذكَر، ووضعتْ رهن إشارتنا أعمالاً غير متوفرة في مكتباتنا، ومخطوطات ودوريات لها أهميتها في مجال البحث العلمي. لذا، لا أرى أنّ عاقلا يحْرم نفسه اليوم من الاستفادة من هذا “الكرم الإنترنيتي” الذي لم يكن مطموعا فيه قبْلُ، ولو على مستوى الخيال والحلم.
ضرورة الزيادة في مقدار دعم النشر
لا بد من الإقرار بالتطور الملحوظ الحاصل، في الآونة الأخيرة، في صدد دعم النشر. بحيث تعلن الوزارة الوصية على الشأن الثقافي المغربي عن فتح الباب أمام الناشرين للتقدُّم بمشاريع كتب أو مجلات أو غيرها من الأعمال الثقافية، أو بمقترحات أخرى تصب في الإطار نفسه؛ طلبا لدعمها ماليّا، ثم تُشكّل لجنا للنظر فيها، وتحديد أيِّها يستحق نيل ذلك الدعم، الذي يسجل عليه كثيرون عدة ملاحظات؛ منها التأخر في صرفه، وعدم كفايته أمام كثرة المشاريع والمقترحات المقدمة، وعدم تغطيته تكاليفَ النشر كاملةً. وبعد ذلك، تعلن الوزارة عن المشاريع المقبولة على موقعها الإلكتروني الرسمي، وعادة ما يعقب ذلك ظهور كتابات وبلاغات مُستاءة من طريقة توزيع ذلك الدعم. وإذا كان لي من ملاحظة في هذا النطاق، فهي تتعلق بالزيادة في مقدار الدعم، وفي عدد المستفيدين، وفتح المجال أمام المبدعين والنقاد المبتدئين والعاجزين عن توفير مقابل نشر باكوراتهم الإبداعية والأدبية، وعدم الاقتصار على أسماء بعينها تستفيد باستمرار من ذلك الدعم، مع أن لها من الإمكانات ما يمكّنها من التكفل بنشر أعمالها على نفقتها الخاصة. وحبّذا لو يتم العمل أكثر على تشكيل لجان علمية أقوى وأكفأ، تشتغل بمعايير موضوعية مضبوطة، بعيداً عن أيّ اعتبارات أخرى، يُعهد إليها باختيار الأصلح والأجود من المسوّدات المقترحة للدعم. وعموما، فأنا مطمئنّ، إلى حدّ بعيد، لطريقة الدعم التي تم تدشينها في السنوات الأخيرة، ولكنها تظل في حاجة إلى تطوير، وإلى تجاوز جملة من ثغراتها التي تكشف عنها، كلّ عام، تقارير وتعاليق وكتابات صِحافية.
تسعيرة معقولة للكتاب
مما يبعث على التأسف، أحيانا، أن تجد الكتاب أو الدورية المنشورة مدعّمة من المال العمومي، ولكنّ ثمنها مرتفع؛ بحيث لا يستطيع القارئ المغربي اقتناءه. وهنا يلزم أن تفرَض على الناشرين شروط تتعلق بتحديد تسعيرة معقولة للكتاب الذي يحوز دعما ماليا من وزارة الثقافة. ويمكن للإعلام أن يسهم في هذا الرفع؛ وذلك عن طريق بثّ برامج تلفزية أو إذاعية تشجع على القراءة، وتدعو إلى المصالحة مع الكتاب .. “خير جليس في الأنام”؛ كما قيل قديما. كما تلعب المدرسة دورا حاسما في هذا المجال؛ بغرس حبّ الكتاب والمطالعة في نفوس التلاميذ، وإتاحة كتب علمية وترفيهية لهم، في خزانات الأقسام أو مكتبات المؤسسات التعليمية، يقرأونها في أوقات فراغهم.
إعداد: عبد العالي بركات