بمجرد انتشار خبر فاجعة طنجة أو ما يمكن تسميته “مقبرة النسيج” بحكم فضاعة حادث الموت غرقا والذي راحت ضحيته 26 امرأة عاملة بوحدة صناعية للنسيج بطنجة يشتغل صاحبها بعيدا عن أعين السلطات الإدارية المحلية وأمام مرأى ومسمع مفتشية الشغل بالمدينة (وسأوضح لماذا قلت أمام مرأى مفتشية الشغل وليس بعيدا عن عيونها) بعد أن اتخذ مالك هذه الوحدة من مرآب فيلته ورشا لصناعة النسيج يشتغل فيه ما يقارب مائتي امرأة عاملة في مجال الخياطة في ظروف وأوضاع شغلية مزرية في الجانب المتعلق بحقوق العمال الاجتماعية المكفولة بمقتضى مدونة الشغل واتفاقيات الشغل الجماعية واتفاقيات منظمة العمل الدولية المصادق عليها من قبل المملكة المغربية (الأجرة، التعويضات، ساعات العمل، التسجيل في مؤسسات الضمان الاجتماعي، التأمين عن حوادث الشغل والأمراض المهنية، التمتع بساعات الراحة والعطل الأسبوعية والسنوية، رخص التغيب الاستثنائية، احترام شروط الأمان والسلامة…..).
احترام المشغل لحقوق الأجراء هاته وأخرى غيرها، وهي كثيرة في مدونة الشغل، هي العامل الأساسي للوجود القانوني لأية مقاولة أو وحدة صناعية، وهي ضمانة الاستمرار والبقاء.. وتتولى الجهة الحكومية المكلفة بالتشغيل مهام تثبيت هذا الوجود أو إيقافه.
إن مشروعية أي مقاولة أو وحدة صناعية هو الامتثال لقانون الشغل وليس التوفر على الترخيص الإداري والضريبي.. هذان الأخيران لا يشكلان ضمانة لمراقبة مدى التزام المشغل بحماية أوضاع الأجراء. وعليه فقد يكون معمل طنجة منضبطا إداريا وضريبيا دون أن يعني ذلك بالتبعية احترامه لمقتضيات قانون الشغل وحقوق الأجراء. وبالتالي فالسؤال المطروح هو: هل ما حدث بطنجة نتاج عدم توفر المعمل على الترخيص الإداري ومرجع ضريبي أم هو نتاج اشتغاله في ظروف وأوضاع مخالفة لقواعد مدونة الشغل ؟
قبل الجواب على هذا السؤال لنفترض جدلا أن صاحب هذه الوحدة الصناعية يتوفر على ترخيص من السلطات المحلية ويشتغل بعلمها ويؤدي جميع الرسوم عن الخدمات الجماعية والضرائب وكل مستحقات الدولة هل هذا الوضع كاف ليقي العاملات مما حدث؟ هل كاف لضمان حماية حقوق الأجراء خاصة الشق المتعلق بتوفير الظروف السليمة والآمنة للعمل؟. وهل يمتد عمل السلطة المحلية في مراقبة هذا الانضباط الإداري إلى مراقبة الانضباط الشغلي؟ علما أن معمل طنجة على علته من الممكن أن ينال صاحبه الترخيص الإداري لو توفرت لدى مقاولته الوثائق والشروط الإدارية العادية المطلوبة والامتثال للقوانين الضريبية وأن يكون موضوع الإنتاج الصناعي غير ممنوع قانونيا وغير خطير ولا تحدث أشغال المقاولة أي إزعاج للسكان أو تشكل خطرا واضحا وخطيرا على سلامة العمال (مثلا المناجم، المواد الكيماوية، صنع الأسلحة، صنع المخدرات والمواد الممنوعة ….).
ليس دفاعا عن صاحب المعمل، لكني أعتقد أن إنشاء ورشة للخياطة في مرآب فيلا ليس بوضع قد يحول دون امتناع السلطات المحلية عن منح صاحبها ترخيصا إداريا ولنا في الواقع أمثلة عديدة لمقاولات أقل منها وضعا مرخص لها وتشتغل بشكل علني وبعلامة واسم تجاريين بنفس ظروف العمل أو أكثرها حدة وضررا .
إن توقع حدوث فيضان وغرق العاملات بهذا الشكل البشع من الأحداث الفجائية التي لا يتسع الأفق الاستباقي لعمل السلطة الإدارية لتدارك وقوعه ومن ثم منع الترخيص لإنشاء الوحدة الصناعية. وبالمقابل فهذا الحدث يصبح طبيعيا ومتوقعا بالنسبة للطبيعة القانونية لوظيفة ومهام الجهاز الحكومي المكلف بمراقبة التشغيل باعتبار أن تقييم ظروف اشتغال الأجراء وما قد يترتب عليها مستقبلا من مخاطر سواء آنية أو محتملة الحدوث كلها أمور أسندت بمقتضى فصول مدونة الشغل للجهة الحكومية المكلفة بالتشغيل.
لقد تم تحديد مهمة تفتيش الشغل هاته في الاتفاقية الدولية رقم 81 المتعلقة بتفتيش الشغل والصادرة عن منظمة العـمل الدولية سنة 1958، والتي صادق عليها المغرب في 9 أبريل 1958، وكذا الاتفاقية الدولية رقم 129 حول تفتيش الشغل بالقطاع الفلاحي التي صادق عليها المغرب كذلك بمقتضى ظهير 8 نونبر 1979، ولقد ورد التنصيص عليها خصوصا في الكتاب الخامس من مدونة الشغل في المواد من 530 إلى 548 .
هذا ويكلف أعوان تفتيش الشغل حصريا بما يلي:
> السهر على تطبيق الأحكام التشريعية والتنظيمية المتعلقة بالشغل.
> إعطاء المشغلين والأجراء معلومات ونصائح تقنية حول أنجع الوسائل لمراعاة الأحكام القانونية.
> ضبط المخالفات وإحاطة السلطة الحكومية المكلفة بالشغل علما بكل نقص أو تجاوز في المقتضيات التشريعية والتنظيمية المعمول بها.
> إجراء محاولات التصالح في مجال نزاعات الشغل الفردية والجماعية.
وفي هذا الصدد، يمكن لأعوان تفتيش الشغل خاصة وبناء على السلطات المخولة لهم قانونا:
> أن يدخلوا بكل حرية للمؤسسات الخاضعة لمراقبتهم ويقوموا بتفتيشها.
> أن يستفسروا جميع الأجراء وكذا المشغل حول جميع الشؤون المتعلقة بتطبيق قوانين الشغل.
> أن يطلبوا الاطلاع على جميع الدفاتر والسجلات والوثائق التي أوجب التشريع المتعلق بالشغل مسكها، ليتحققوا من مدى مطابقتها للمقتضيات التشريعية، ولهم أن يستنسخونها أو يأخذوا ملخصات منها، وتوجيه ملاحظات وإنذارات للمشغلين مقرونة بآجال في حال خرق المقتضيات التشريعية أو التنظيمية المتعلقة بالصحة والسلامة.
ومن أجل تمكينهم من السهر على التطبيق الجيد للتشريع الاجتماعي، خول المشرع للأعوان المكلفين بتفتيش الشغل بعض الوسائل القانونية الفعالة، حيث يمكن لهؤلاء المفتشين إنجاز زيارات التفتيش، وتوجيه ملاحظات، وعند الاقتضاء، توجيه تنبيهات مقرونة بأجل أو بدونه، وتحرير محاضر ضد المشغلين المخالفين.
لو قام مفتش الشغل بهذه المهام المنوطة به وذلك بزيارة ميدانية لهذه الوحدة الصناعية وتحرير محضر معاينة وإخبار السلطات المحلية وطلب مؤازرتهم كقوة عمومية لتسهيل عملية القيام بمهام التفتيش والرصد وتسجيل الخروقات الشغلية لصاحب المقاولة، وحتى لو قبلنا بمنطق وجود جهات في السلطة معيقة لعمل الحكومة أو ما يسمى “مكيخليوناش نخدمو. أو البلوكاج…”. فهل من المقبول توقع منعه أو عرقلته من طرف ما يسمى “بالعفاريت والتماسيح”؟. لا أعتقد أن عاقلا سيقبل بترديد هذه الأسطوانة.
ستلاحظون أنه مباشرة بعد الحادث ظهرت محاولات للتأثير على الرأي العام وتوجيهه بشكل مغالط ومقصود لتحميل المسؤولية لرجال السلطة والتأسيس الخاطئ والشعبوي لهذا الاتهام تحت مصوغات من قبيل (المقدم كيعرف الهابطة والنازلة ومفخباروش معمل على قدو.. درتي غير اجتماع فالمنزل كيوصل للعمالة….. خلية إرهابية قلعوها ومعمل لا)…. وكل ذلك لصناعة رأي عام متجاهل للدور الحكومي المهم على قطاع التشغيل المعزز بنصوص قانونية واضحة. لضمان استمرار ما ترسخ لدى المغاربة مؤخرا بفعل الإجراءات الارتجالية المتخذة للحد من انتشار فيروس كورونا وما ترتب عن ذلك من اعتبار الحكومة لا تحكم وأن القرارات تتخذ من الأعلى وتصرف على يد الحكومة فقط.
من العبث محاولة تمرير هذه المغالطة في هذا الظرف بالذات والهروب من دماء الضحايا ومسحها على أثواب رجال السلطة (العامل. القائد. المقدم ….). أكيد أن هذه الجهة بدورها مسؤولة عن التقصير الحاصل من جانبها في رصد وجود وحدة صناعية غير منضبطة إداريا من حيث الترخيص والمرجع الضريبي، هذا التقصير طبعا أضر بالحقوق المالية والإدارية للدولة ومن تم لا يمتد هذا التقصير إلى قيام المسؤولية المباشرة عن وضعية وظروف اشتغال هؤلاء العاملات ما دام أن الأمر يتعلق بورشة للخياطة لا تشكل خطرا آنيا على العمال ولا تدخل ضمن لائحة الأشغال أو المنتوجات الممنوعة أو الخطيرة التي يستدعي توفرها على ترخيص خاص ومسبق ولو تعلق الأمر بإنتاج مواد مغشوشة أو غذائية غير صحية أو ممنوعة لصح القول بمسؤولية السلطة المحلية في رصدها.
بالمقابل فمفتشية الشغل التابعة لوزارة التشغيل التي يتولى حقيبتها الوزارية محمد أمكراز المنتمي لحزب العدالة والتنمية هي الجهة التي أناط بها المشرع رصد ومراقبة الوحدات الصناعية الغير منضبطة لأحكام مدونة الشغل خاصة الشق المتعلق باحترام ظروف السلامة والأمان في اشتغال الأجراء.
وتدخل مفتشية الشغل في إطار التنظيم الإداري اللامتمركز والممركز لوزارة التشغيل والإدماج المهني للمصالح، وتمارس الوزارة المكلفة بالشغل صلاحية السلطة المركزية في الإشراف ومراقبة مفتشيات الشغل.
هذا وتتوفر الوزارة على مصالح مركزية وخارجية تتكون من مديريات إقليمية للتشغيل التي يناهز عددها حاليا نحو 51 مديرية، تضم 100 دائرة تفتيش الشغل في قطاعات الصناعة والتجارة والخدمات، و45 دائرة تفتيش القوانين الاجتماعية في الفلاحة.
انطلاقا من هذا الدور المنوط بها فمفتشية الشغل ملزمة بتوفرها على يقظة استباقية لرصد هذه الوحدة الصناعية مادام أن خرقها للمعايير الشغلية مفضوح ومشهود (حشود من العاملات .ما يقارب 200عاملة، حركية العمل والشحن والتفريغ….) رغم سرية وجودها الإداري وتهربها الضريبي.. وهذان الأخيران بمقدور أي مقاولة إخفائهما، ولعل الواقع يعج بالعديد من المقاولات التي لا تحترم الشروط الإدارية والقواعد الضريبية في اشتغالها.
ختاما هذا المقال لا يجب النظر إليه كمرافعة مجانية لصالح رجال السلطة المحلية بطنجة وإن كنت أرى أن حجم الفاجعة يستدعي إثارة مسؤوليتها كذلك وليس بالمقابل تحاملا ايديولوجيا وسياسيا على حزب العدالة والتنمية إنما هو عريضة دفاع عن قانون مدونة الشغل الذي فشلت وزارة التشغيل في إعمال وتفعيل مقتضياته الحمائية لحقوق هؤلاء العاملات في الاشتغال في ظروف شغلية آمنة تتحقق فيها الكرامة الإنسانية في تمتع تام بكافة الحقوق الاجتماعية.
< بقلم: محمد ألمو
محام بهيئة الرباط وناشط حقوقي