الصرخة التي أطلقها رئيس الكونغو فيليكس تشيسكيدي في وجه نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال مؤتمر صحفي مشترك مباشر على الهواء عندما طالبه بضرورة احترام بلاده والغرب عموما الدول الإفريقية وعدم التدخل في شؤونها، تلخص عنوان علاقة فرنسا الحالية بدول القارة الإفريقية.
وكان المغرب، قبل ذلك، قد رد على تصريحات للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بشأن علاقات بلاده مع المملكة، بأن هذه العلاقات ليست جيدة ولا ودية بين البلدين.
وبحسب كل المحللين، بمن فيهم فرنسيون، فإن فرنسا خسرت الكثير في علاقاتها وحضورها بإفريقيا، ونشبت أزمات متعددة بينها وبين مستعمراتها السابقة، ويمكن هنا ذكر أمثلة مالي وبوركينا فاسو وإفريقيا الوسطى وغيرها، علاوة على الأزمة مع المغرب والاستهدافات الفرنسية المتتالية للمملكة، وهذا الوضع يعتبر أكبر من توترات عابرة بين بلدين، وإنما يتعلق الأمر بعجز فرنسا عن التغير، وعن الخروج من عقلية الهيمنة القديمة، وفي المقابل تنامي إصرار إفريقيا على رسم معالم علاقات مختلفة، وبناء مستقبل مغاير لها، واشتراط الندية والتعامل باحترام معها ومع قضاياها وتطلعاتها.
لقد أسس عالم ما بعد جائحة «كوفيد-19» وتداعياتها الاقتصادية والاستراتيجية، وأيضا آثار الحرب الروسية الأوكرانية، لمرحلة تاريخية مختلفة عما سبقها بشكل جذري، وبدأت قوى دولية مختلفة تتسابق على إفريقيا، وبدأ العالم برمته يحيا على إيقاع تحولات هيكلية كبرى، كما أن البلدان الإفريقية نفسها بدأت تكرس ديناميات جديدة في المجالات الاقتصادية والسياسية والتنموية والديبلوماسية، وكل هذا لم تحسن فرنسا ماكرون قراءته بشكل جيد، وبقيت ممسكة بعقليتها القديمة إلى أن وجدت نفسها اليوم مرفوضة من طرف العديد من شعوب ونخب القارة الإفريقية، وخسرت عديد مكاسب كانت لها في السابق.
بعض المحللين الفرنسيين، وأيضا الأفارقة، يرون أسلوب الرئيس ماكرون المتعجرف، وسياسته الإفريقية المتسمة بغطرسة واضحة، هما السبب في ما آلت إليه علاقة باريس بالدول الإفريقية، لكن آخرين يرون أن الأمر أعمق من ذلك، وهو نتيجة لسنوات من التجاوزات والأخطاء سبقت حتى عهد ماكرون، ومن ثم باتت الحاجة ملحة إلى صياغة علاقات جديدة بين باريس والدول الإفريقية، وأن يتم في ذلك استحضار رؤية إفريقيا لنفسها ولمستقبلها ولتطلعاتها، وأن تدرك فرنسا أن العالم كله لم يعد كما كان، وأيضا إفريقيا لم تعد كما كانت، وبالتالي من حقها أن تطلب من فرنسا الاحترام والندية.
في حالة المغرب مثلا، واضح اليوم أن عددا من الدول الأوروبية انتصرت للحق المغربي، واختارت تقوية تعاونها وشراكتها مع المملكة، وآخر هذه الدول النمسا، والتي اقتربت من مواقف سابقة لإسبانيا وألمانيا وهولندا وسواها، وبقيت فرنسا شاردة ولم تستطع تطوير موقفها من القضية الوطنية المغربية، وعجز رئيسها الحالي عن إقناع المغرب بجدية رؤيته للعلاقة مع الرباط، وهذا نموذج لتخبطه الديبلوماسي والإستراتيجي في العلاقة مع إفريقيا كلها.
كل الاستفزازات الفرنسية الأخيرة ضد المملكة، ورغم قرار البرلمان الأوروبي الشهير، فإن ذلك لم يمنع توقيع اتفاقيات مهمة منذ أيام بين المغرب والاتحاد الأوروبي، وانتصرت، بذلك، دينامية تمتين الشراكة المغربية الأوروبية، عكس ما كان يحلم به الذين أشعلوا نار القرار الأخير للبرلمان الأوروبي.
وعلاوة إذن على برودة استقبال ماكرون في عدد من الدول الإفريقية التي زارها مؤخرا، وتنامي الرفض الإفريقي لغطرسته، فإن توالي الإشادة بمقترح الحكم الذاتي المغربي مثلا من لدن عدد من الدول الأوروبية، يجعل المراقبين يسجلون وجود أوروبا أخرى تدرك تخبط ماكرون، وترفض السير معه على طريقه، وتختار لنفسها طريقا آخر لمواجهة التحديات الإقليمية والدولية المشتركة مع دول جنوب المتوسط، وأساسا المغرب.
هنا فرنسا تبدو فعلا خائفة على نفسها ومستقبل حضورها الإستراتيجي، الإقليمي والدولي، لكن رئيسها ماكرون يفضل التمسك بالغطرسة القديمة لإيجاد الحل، ولم يرد أن يفهم تحول العالم، وضمنه إفريقيا، وبالتالي كون بلاده بدورها مدعوة للتحول، وأن تدرك أن نظاما عالميا آخر بصدد التشكل منذ مدة، ويقتضي معادلات مختلفة، ويفرض على باريس تبديل حساباتها ونظرتها ومواقفها.. ومدخلها إلى ذلك، يراه كثير من المحللين، في المغرب، وفي ضرورة تغيير تعامل فرنسا مع قضاياه ومصالحه الوطنية والإستراتيجية المشروعة.
<محتات الرقاص