في الذاكرة.. وجوه بصمت خشبات المسرح المغربي

قد يمر بنا قطار العمر بمحطات وأماكن لا نشعر بجمالها إلا عندما نبتعد عنها.. وقد يؤثث مشهد حياتنا فنانون فرضوا علينا الاحترام بأدائهم و مشاعره الإنسانية الجميلة. وفي أكثر الأحيان لا نشعر بقيمتهم ومدى تأثيرهم في حياتنا إلا بعد أن يغادروننا ويصبحون مجرد ذكرى فيتركون ذكريات قد تثير فينا الشجن والحزن والفرح والابتسامة أو الألم والحسرة.. ولكن تبقى ذكرياتهم محفورة داخلنا، تذهب بنا إلى العالم جميل نستنشق من خلاله عبق المحبة والحنين إلى الماضي حيث نتذكر فيهم وبهم أجمل اللحظات برونق خاص وغصة بالقلب…
رحلوا عنا الغوالي وتركوا لنا ذكريات نتعايش معها وتنبض الحياة في أعضائنا، وصورهم مازالت ماثلة أمام أعينينا..
هكذا هي الحياة، كما هي الممات، لقاء وفراق، دمعة وابتسامة.. فبالأمس رحل عنا العظماء ممن كنا نحبهم لأنهم تركوا بصمات على دركنا وفهمنا للحياة من علماء وشعراء وأدباء وفنانون فهم شخصيات عامة إلا أنهم أناس عاشوا وتعايشوا معنا ليرحلوا بهدوء دون أن ترحل آثارهم وتأثيراتهم..

الحلقة السابعة

ملك الشاشة المغربية الراحل محمد حسن الجندي

ممثل ومخرج مغربي، ومؤلف إذاعي مسرحي، بنى بفنه جسر تواصل بين المغرب والمشرق، خاصة في فيلمي الرسالة والقادسية. وصف بأنه “ملك الشاشة المغربية”، ووصفه مصطفى العقاد بـ”الوحش”، وطلب منه الملك الراحل الحسن الثاني أن يسجل “ألف ليلة وليلة” بصوته.;
وولد محمد حسن الجندي عام 1938 في حي القصور بمدينة مراكش، لأسرة أمازيغية، وكان والده من شيوخ الزاوية “التيجانية”.
ودرس في الكتّاب القرآني والتحق بعدها بمدرسة ابن يوسف التاريخية، واهتم بالشريعة وعلوم الدين.
واعتقد والده أن الدراسة في المدارس العصرية انسلاخ عن الشخصية الوطنية فمنعه من الالتحاق بها، وبعد الضغط عليه سمح له بالذهاب إليها شريطة ألا يلتحق بمدرسة تدرّس اللغة الفرنسية، فالتحق بالمدرسة الحسنية عام 1946 التي كان يديرها أحد الزعماء الوطنيين، وهناك تعرف على المسرح لأول مرة. تزوج من الفنانة فاطمة بنمزيان الممثلة الإذاعية، وله ثلاثة أولاد.
اشتغل أساسا بالفن والتمثيل والإخراج، وعمل في السبعينيات في هيئة الإذاعة البريطانية بلندن معدّا ومقدما لبرنامج “كشكول المغرب”.
وترأس مندوبية الثقافة الجهوية في مراكش خلال الفترة 1992-1999، وعمل محاضرا في مادة الإلقاء بالمعهد العالي للتنشيط الثقافي والفن المسرحي بالرباط.
وترأس شركة جندي للإنتاج الفني التي أنتجت أعمالا فنية متعددة، منها مسرحيات: شاعر الحمراء، والمتنبي في جامع الفنا، وسلسلة غضبة، وفيلم ثعلب أصيلة.
ويعد محمد حسن الجندي رجلا محافظا، عشق اللغة العربية وناهض تمييع الفن، وقال “أجد نفسي حيثما كان هناك فن نبيل يحترم الذوق ومشاعر الناس. أنا لست من أولئك الذين يسفّهون العمل الفني، ويغرقون الإبداع في الإباحيات”.
وبدأت مسيرته الفنية من مسرح الهواة بمراكش في فرقة “الوحدة” ثم فرقة “الأمل” عام 1957، حيث جمع أفضل الممثلين المراكشيين، والتحق بعدها عام 1958 بالإذاعة الوطنية بالرباط.
ونحت مكانته في عالم الفن نحتا، وتميز في الأعمال الفنية التي شارك فيها وطنيا وعربيا، مستفيدا في ذلك من مؤهلاته المميزة كتمكنه من اللغة العربية وقوة صوته وطلاقة لسانه.

نال إعجاب مخرجين من الشرق العربي واهتمامهم، وشارك في أدوار البطولة في عدد من الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية التاريخية، ومن أشهر الأدوار التي أداها دور “أبو جهل” في فيلم “الرسالة” بالنسخة العربية لمخرجه مصطفى العقاد، ودور “كسرى” في النسخة الإنجليزية.
ورفض المشاركة في فيلم “لورنس العرب” بسبب الأدوار الثانوية المقترحة على الفنانين المغاربة.
كما لعب دور رستم في فيلم “القادسية” مع المخرج صلاح أبو سيف، ودور صخر في “الخنساء”، وشارك في “آخر الفرسان” مع نجدة إسماعيل أنزور، وأدى دور عتبة بن ربيعة في مسلسل عمر بن الخطاب.
وعلى المستوى المغربي شارك في أعمال كثيرة، مثل: “ظل الفرعون” و”طبول النار” للمخرج سهيل بن بركة، و”بامو” لإدريس المريني، و”مطاوع وبهية”، والسلسة الإذاعية “العنترية”، والمسرحيات الوطنية الاستعراضية التاريخية كثلاثية ملحمة المجد.
ورغم أنه أصبح واحدا من عمالقة الفن المغربي ورموزه، فإن النجومية لم تغيره وبقي على طبيعته المتواضعة مقتنعا بأن “الشهرة قاتلة للأغبياء”.
وحصل محمد حسن الجندي على أوسمة وجوائز عديدة، منها: وسام الثقافة من جمهورية الصين الشعبية، ووسام “عملة باريس” من مركز العالم العربي بباريس عام 1999، و”نجمة مراكش” في النسخة الثانية من مهرجان مراكش الدولي للفيلم.
وكرم في الدورة التاسعة من الملتقى الدولي للفيلم عبر الصحراء، كما كرم في فبراير/شباط 2013 على هامش الدورة الثالثة لمهرجان “مغرب المديح” في الرباط بحضور رئيس الحكومة المغربية.
لكن شقته أصابها -في مارسر 2014- حريق بسبب تماس كهربائي، التهم جزءا كبيرا من جوائزه الفنية وشهاداته العربية والدولية.
وتوفي محمد حسن الجندي يوم 25 فبراير 2017 عن عمر ناهز 79 عاما.
وقال الكاتب المسرحي والإعلامي، الحسين الشعبي، في جلسة أقيمت حول “ذاكرة محمد حسن الجندي”، ضمن فعاليات المعرض الدولي للنشر والكتاب بالدارالبيضا سنة 2018: “الجندي يملك ذخيرة من الأعمال الفنية سواء في السينما والمسرح والكتابات، بحكم أنه ليس كسائر الفنانين، إذ تجد في غالب الأحيان فنانا نجما وله اسم ساطع، لكن مع ضعفه على المستوى الثقافي”، مشيرا بالقول: “الراحل لم يكن أكاديميا ولم يدرس السينما ولا المسرح، لكن قرأ وبحث ووصل إلى كل الأهداف التي كان يرمي لها في مساره الفني”.
ويعتبر الراحل – يضيف الشعبي- من أول الفنانين الذين استطاعوا استثمار الثقافة الشعبية في الدراما الإذاعية في ستينيات القرن الماضي، بالرغم من صعوبة إيصال الرسالة إلى المستمعين، مستعملا المؤثرات الصوتية، ومتسائلا: كيف استطاع أن يقنع مؤسسة عمومية في الاستثمار في الموروث الشعبي؟
وبخصوص ذكرى الراحل محمد حسن الجندي، اعتبر الحسين الشعبي أن الجندي كان مصرا على أن يخلق نمطا مسرحيا متفردا في الإلقاء، مستفيدا من الخبرة التي راكمها في التجارب الفنية ومن سيرته الطويلة في المجال.
واستطرد الكاتب المسرحي الحسين الشعبي قائلا، “إن الراحل ذات مرة أكد لي أنه أمازيغي من نواحي أمزميز، لكنه كان دائم الانتصار للغة العربية التي تعطيه مصدر إلهام وإحساس للتعبير. مشيرا إلى أن الرجل لا يبيع نفسه، الشيء الذي جعله يتوارى عن الشبكة العنكبوتية.
وختم الحسين الشعبي حديثه بالتأكيد مرة ثانية، على ضرورة خلق تقاليد سنوية، حول الفنانين الذي أعطوا الكثير لهذا المجال، من خلال المنتديات واللقاءات والمهرجانات.

Related posts

Top