قد يمر بنا قطار العمر بمحطات وأماكن لا نشعر بجمالها إلا عندما نبتعد عنها.. وقد يؤثث مشهد حياتنا فنانون فرضوا علينا الاحترام بأدائهم و مشاعره الإنسانية الجميلة. وفي أكثر الأحيان لا نشعر بقيمتهم ومدى تأثيرهم في حياتنا إلا بعد أن يغادروننا ويصبحون مجرد ذكرى فيتركون ذكريات قد تثير فينا الشجن والحزن والفرح والابتسامة أو الألم والحسرة.. ولكن تبقى ذكرياتهم محفورة داخلنا، تذهب بنا إلى العالم جميل نستنشق من خلاله عبق المحبة والحنين إلى الماضي حيث نتذكر فيهم وبهم أجمل اللحظات برونق خاص وغصة بالقلب…
رحلوا عنا الغوالي وتركوا لنا ذكريات نتعايش معها وتنبض الحياة في أعضائنا، وصورهم مازالت ماثلة أمام أعينينا..
هكذا هي الحياة، كما هي الممات، لقاء وفراق، دمعة وابتسامة.. فبالأمس رحل عنا العظماء ممن كنا نحبهم لأنهم تركوا بصمات على دركنا وفهمنا للحياة من علماء وشعراء وأدباء وفنانون فهم شخصيات عامة إلا أنهم أناس عاشوا وتعايشوا معنا ليرحلوا بهدوء دون أن ترحل آثارهم وتأثيراتهم..
الحلقة التاسعة
المسرحي عبد القادر عبابو صاحب تجربة “الإخراج الجدلي”
ولد عبد القادر أعبابوا سنة 1950 بمدينة بني ملال، هو ممثل مسرحي وكاتب، وبدأ الكتابة سنة 1969 ونشر أول نص شعري له سنة 1982. كما يهتم بالمجال المسرحي وبالكتابة الشعرية، وتوفي صبيحة يوم الأحد 20 يناير 2020 بمدينة مراكش.
ومعلوم أن الفنان عبد القادر عبابو شاعر وكاتب وممثل ومخرج مسرحي، كتب وأخرج عدة مسرحيات سواء لما كان يقود جمعية أنوار سوس للثقافة والفن منذ الستينيات من القرن الماضي أو بعد أن غادرها ليؤسس محترف أونامير في أواسط التسعينيات..
ومن أهم العروض المسرحية التي بصمت مساره المسرحي الحافل والمتميز، مسرحية “ثورة الزنج” للشاعر الفلسطيني معين بسيسو، ومسرحية “المهمة، ذكريات عن ثورة” للكاتب الألماني هاينر مولر، ومسرحية “القرى تصعد إلى القمر” للكاتب السوري فرحان بلبل، وعدد من النصوص المسرحية للكاتب المغربي المسكيني الصغير، نذكر منها “الجندي والمثال” و”رحلة السيد عيشور” و”الجاحظ وتابعه الهيثم” و”باب أربعة” و”أونامير” عن “الرجل الحصان”… كما أخرج نصوصا من تأليفه ومن تأليف كتاب آخرين كعبد الكريم برشيد وسعد الله عبد المجيد.,.
اشتهر المخرج عبد القادر اعبابو بانخراطه الجدي في التنظير المسرحي، فبعد أن كان من بين الموقعين على بيان المسرح الثالث لصاحبه المسكيني الصغير، في مطلع الثمانينات، بادر إلى اقتراح تنظير جديد، ضمن النسق الفكري للمسرح الثالث، عرف بالإخراج الجدلي، وصارت كل أعماله الدرامية مؤطرة جماليا وفكريا بالمرتكزات النظرية للإخراج الجدلي كما وضعها ورسمها بنفسه.
وفي هذا الباب، يقول عبد القادر عبابو في ورقة قدمها في المؤتمر الفكري لدورة الرباط للمهرجان المسرح العربي (يناير 2015):
“المنهجية الجدلية في الكتابة الدرامية والإخراج المسرحي مكنتنا في واقع الأمر من تجاوز معضلة إشكالية التعامل مع التراث عموما والأسطورة على وجه الخصوص، لأن الثقافة القديمة والأشكال التقليدية في الإبداع تكسب لنفسها هي الأخرى سحرية خاصة بها وجاذبية نسبية تستطيع عبر عمليات تطبيعية معقدة، الخفي منها أكثر من الظاهر، أن تأسر الأفكار والوعي الفردي والجمعي وتوجه الرؤى والمواقف وتنمط الأذواق والسلوكات لدى الناس، وتراكم عبر السنين ترسانات لا يستهان بها من المرجعيات والنصوص والأساليب الإبداعية والتوجهات النظرية والجمالية والفكرية والأيديولوجية والأخلاقية… كل ذلك من أجل ضمان الحماية والاستمرار لنظام القيم الذي ترتبط به. المنهج المسرحي الجدلي وجد نفسه ضمن هذا السياق في مواجهة مباشرة ليس فقط مع تلك التراكمات في حد ذاتها ولكن مع أثرها المتجذر عميقا في أذواق الناس ووعيهم وسلوكاتهم الطبيعية. وتلك هي المعضلة الكبرى، معضلة وضعت أمام التجربة أسئلة عصية لا يتيسر حل مغالقها إلا بإحداث منظومة إبداعية مناقضة، من المفروض أن تزود بكل ما يلزم من الطاقات البشرية المبدعة القادرة على إنتاج القيم الجمالية والنظرية المجددة المتجددة، وإعداد مختلف الأساليب الفنية والتقنية واللوجيستيكية الملبية لمستوجبات هذا التوجه الجديد، ومن تم الانخراط الواثق في معركة المواجهة بين جماليتين: جمالية مسرحية مغايرة صاعدة وأخرى تقليدية آيلة للزوال، معركة المجادلة المسرحية الدياليكتيكية، معركة الاتصال والانفصال، معركة الانتماء والانزياح، معركة التجذير والتغيير، معركة الإرضاء والتخييب، معركة الإسعاد والتبئيس، معركة التلذيذ والتقريف، معركة التهديء والإزعاج، معركة التفكيك والبناء، معركة وجع المخاض وفرحة الولادة.. ولادة مسرح جديد يشبهنا ويشبه من يشبهنا من المفقرين المستغلين في هذا العالم، مسرح يخصب متعتنا وفرحتنا وأحلامنا ورؤيتنا للوجود والحياة..”.