لعلها أول نقطة جديرة بالتوقف، لأن على أساسها يمكن تفسير الكثير من مواقفه الأخلاقية والإبداعية، إن سؤال الهوية سؤال مرفوع لدى كامي، أو لنقل منعدم، ذلك أنه خليط من الهويات أدى إلى انعدام الانتماء لديه، فهو من أب فرنسي بعيد عن فرنسا وأم إسبانية بعيدة عن إسبانيا، ولد بجزائر لا تملك صفاءها وحريتها بسبب كونها مستعمرة. هذا الخليط من الهويات الناقصة يسمى اللاهوية، لأن من يعيش في تقاطع هويات غير مكتملة لا ينتمي لهوية محددة، ولا يستطيع أن يغلّب هوية على أخرى، لذلك من الطبيعي جدا أن يعتبر فرنسا قاتلة لأبنائها كما يفهم من مسرحية “سوء تفاهم”، وأن يستقيل من اليونسكو احتجاجا على قبول الأمم المتحدة لعضوية إسبانيا، وأن لا يحس بالحرج وهو يصف نضال الجزائر من أجل الاستقلال فعلا دمويا، ومن الطبيعي جدا كذلك أن تخلو كتاباته حول وهران من أدنى ذكر لمعالمها…هذا الإحساس باللانتماء/ اللاهوية نتيجة طبيعية لتربية أسرية تميزت بالقسوة والصرامة من جدّة متشددة دينيا وقيميا، تلقاها بعد موت مبكر للأب وغياب مادي ومعنوي للأم، بالإضافة إلى مآسي اليتم والبؤس والتقلب في مهن مهينة قبل أن يجد لنفسه لحظة استقرار ليست طويلة في حياة سرعان ما ذابت بالسرعة القصوى وباغتها بالموت.
الحياة الحافلة ليست بالضرورة طويلة:
من المفارقات العجيبة التي يمكن الوقوف عندها في حياة ألبير كامي الحافلة بالأحداث والتقلبات والمفاجآت، أنها حياة قصيرة لم تتعدَّ ستّا وأربعين سنة وشهرين إلا ثلاثة أيام بالتحديد، لكنها، بالمقابل، حياة عريضة وعميقة، عاش خلالها كامي حضيض البؤس والانكسار، وقمة المجد والازدهار، حتى اعتُبِر أحد أهم كتاب القرن العشرين المتوجين بالنوبل الأدبي من ذوي الثراء الإبداعي والفكري اللافت الذي مازال صيته ذائعا حتى اليوم.
إن حياة كامي المفارِقة، التي بدأت بؤسا وحرمانا وانتهت موتا مبكرا مأساويا، كانت حاضرة بقوة في نتاجه الإبداعي والفكري، وفي آرائه الغريبة التي كانت تربط الموت دائما بالمظهر الحتمي لرغبة الحياة. فأبطاله يتأرجحون دائما بين الموت والانتحار رغم عشقه العارم للحياة، هذا العشق للحياة الذي تلازم لديه مع الرعب من الموت، حيث يقول في ذروة تعلقه بالحياة: “كل روعي من الموت يكمن في غيرتي على الحياة..إنني غيور ممن سيعيشون من بعدي..وممن سيكون للأزهار والشهوات للنساء معنى من لحم ودم بالنسبة إليهم..إنني حسود لأنني أحب الحياة حبا جما لا أستطيع معه إلا أن أكون أنانيا” لذلك يعتبر الموت أكبر عائق أمام سعادة الإنسان، وهو ما ردده على لسان كاليغولا: “الناس يموتون لذلك ليسوا سعداء”..ومع كل هذا العشق للحياة، يشاء القدر أن يموت ألبير كامي في حادثة سير اصطداما بشجرة على طرف الطريق، شجرة لعينة وعنيدة تحدّت رغبة كامي في الحياة، ولربما سخرت من قوله: “إن أكثر موت عبثيةً يمكن تخيله هو الموت في حادثة سيارة”.
العبثية الإيجابية:
ارتبطت العبثية بالموت والرحيل والانتظار والملل والإحباط والانكسار..برؤية سوداوية تجاه الذات والآخر والعالم، لذلك كانت تدميرا داخليا للذات وموتا مدى الحياة. وكان من الطبيعي أن يؤدي الظرف الاجتماعي السيء لدى كامي إلى رغبة علنية في تدمير الذات واستعجال الموت، لكن على العكس، فقد برهن بالملموس على أن الظرف الاجتماعي السيء لا يصنع بالضرورة الاحباط والعزوف عن الحياة، ذلك أنه خاض في عبثية إيجابية انتصر من خلالها على حياة البؤس والانكسار،عبثية إيجابية عنوانها التمرد، فالعبث بالنسبة إليه هو هذه المجابهة بين النداء الإنساني والصمت غير المعقول للعالم. ولا يمكن لهذا العبث أن يكون سلاحا للنداء الإنساني إلا عبر التمرد ونشدان الحرية المطلقة، لقد كانت المعادلة الحياتية هي جواب التمرد مقابل سؤال العبث. من هنا هذا التمجيد الكبير للتمرد لدى ألبير كامي، لأنه عنوان الحرية والسبيل إليها، فبالنسبة إليه ليس التمرد هو النبيل في حد ذاته، بل ما يفرضه هذا التمرد..أي الحرية في أسمى تجلياتها، بما هي انتصار حقيقي لإنسانية الإنسان، ورفض صارخ لعبوديته واستعباده. لذلك طالما ردد أقوالا عديدة في الحرية والتحرر، لعل أشهرها قوله: “الحرية سجن مادام رجل واحد على وجه الأرض عبدا”، أو قوله: “الحرية مجرد حظ لنكون الأفضل، لكن العبودية هي يقين بأن نكون الأسوأ”. فلا سبيل، إذن، إلى هذه الحرية إلا بالتمرد الذي يعتبر الثمرة الطيبة للعبثية الإيجابية.
الوجودية والالتزام:
ارتباطا بهذه العبثية الإيجابية وما يستتبعها من نزوع نحو التمرد والحرية، هناك أيضا نزوع وجودي لدى كامي ينتصر لمفهوم الحرية المسؤولة القائم على الالتزام، ذلك أن الإنسان ـ حسب كامي ـ غير مسؤول عن أمه وأبيه واسمه ودينه، لأنها كلها أشياء تحدث قبل الوجود الإنساني. لكنه، بالمقابل، مسؤول عن مستقبله ومصيره، لأنه هو من يقرر فيهما ويختارهما، وبالتالي، فهو المسؤول عنهما في إطار الحرية المسؤولة.
في هذا السياق، وعلى هذا المستوى، ارتبط اسم ألبير كامي باسم جان بول سارتر. وفي السياق نفسه طفا على السطح اختلافهما، إن لم نقل صراعهما. فإذا كانت وجودية ألبير كامي تقول بالحرية المسؤولة وتنتصر للتكاثف الإنساني، فإن سارتر يعتبر الحرية هي الرعب، ويعتبر الآخرين هم الجحيم، اعتقادا منه أننا نعيش في عالم مليء بالشر، لا نستطيع مواجهته والسيطرة عليه إلا إذا كنا قساة، ولوثنا أيدينا بالجريمة ـ بتعبير سارتر ـ من هنا كان الانفصال بينهما عميقا وقطعيا، خاصة بعد إعلان كامي الانفصال عن الشيوعية، وهو الحدث الذي أعلن فيه سارتر استحالة أن يلتقي بكامي من جديد، ورغم ذلك عندما توفي هذا الأخير، قال عنه سارتر: “إنه كان أحد أهم أخلاقيي العصر الكبار”.
* أستاذ جامعي وباحث مسرحي مغربي