عن مطبعة رالي إيفنت بالدار البيضاء، صدر للناقد الجمالي المغربي بوجمعة أشفري إصدار جديد يحمل عنوانا دالا وموحيا “العين والنسيان”..
بين طياته يجمع هذا الإصدار، وهو الجزء الأول من سلسلة ستصدر تباعا، تأملات جمالية في تجارب تسع فنانات من دول مختلفة. ويقع الكتاب في 90 صفحة من القطع المتوسط، كما يحتوي على صور تشرح المكتوب. وتعود صورة الغلاف للفنان الأرجنتيني إدواردو سيلبشتاين، وهو من تصميم المؤلف ذاته.
اختار صاحب الكتاب، تسع أيقونات فنية عالمية كالفنانة مارينا أبراموفيتش، وجوزي ماري غوا، وكيين سوهال، وإكرام القباج، ونينار إسبر، وكوليت دوبلي، وآنيكور كيدجيان، وكنزة بنجلون، وليلى الشرقاوي. كما يهدي بوجمعة أشفري هذا الكتاب إلى روح عالمة الاجتماع فاطمة المرنيسي، “كأريج أو كحلم متوار عن الأبصار لكنه سرمدي الأثر”.
وفي استهلال افتتح به مؤلفه كتب الناقد الجمالي بوجمعة أشفري بعنوان “عين (لا) ترى” ما يلي:
ثمة جسد يسير في اتجاه ما يبدو أنه لمع نور ينبعث من شق في العتمة.. ثمة يد تمسح سطح العتمة لينتشر اللمع.. ثمة سؤال يتثاءب؛ هل السير في اتجاه شيء ما ولوج إلى العالم أم انسحاب منه؟ ثمة تواطؤ بين العين واليد، تواطؤ سيكون مآله العمى والمحو. نسيان ما لم يحدث بعد.
عند وسط السير في اتجاه سند ما تبرز خطوط جذب وحركات تلمح لك من بعيد بالترحيل: ترحيل جسد بدون أعضاء، لأنه أثناء قيامه بهذا العمل يصبح هو نفسه عضوا.
ما الذي يمكن أن تصيره حركة صباغية يمنحها هذا الجسد/ العضو شكلا، ملمحا أو هيئات هلامية؟
أيمكننا أن نحول حركة واقعية، وندفع بها في اتجاه أحشاء سند أو قماش، كي تصير حركة صباغية تشير إلى شيء ما كان هنا وامحى؟ هل “يبغي دائما أن نذهب بعيدا كي نقبض على البصر”.
تجيء الحركة من رغبة في توطين وترحيل الطفولة في/ إلى السند/ القماش.. لكن شرط ألا نغلق منافذ الخارج والداخل على عمليتي التوطين والترحيل. ففي باطن السند / القماش (وفي الخارج أيضا) يكمن جذمور الطفولة.
من الأزرق تلوح في البعد قامات لكائنات آدمية، لا نعرف أهي ذاهبة إلى العمق أو آتية إلى السطح، وحين نتطلع إليها، قصد استكشاف بواطنها، يتحول الأزرق إلى اللون الرمادي، ويتم تأجيل رغبة التعرف على الملامح إلى حين التهام الرمادي للسطح.
تأجيل الرغبة هو استمرار لها، ذلك لأن انسدال الرمادي يزيد من حدتها، ويتطلب إصغاء بصريا لدبيب خطوات والتواءات الكائنات الآدمية، نزول الرمادي يستدعي أيضا الدخول في حالة عمى، حيث تعبر لذة الاستكشاف من حاسة البصر إلى حاسة اللمس. هنا تبدأ التلميحات والتوشيات الحمراء، وأحيانا تكون بيضاء، تلمع على حواف الكائنات المنغرسة في الرمادي.
غالبا ما يقال إن الرمادي يمنح الإحساس بالقتامة، باعتباره حالة وسطى بين الأبيض والأسود، فلا الضوء يتزيا به، ولا العتمة تغشاه. إنه فجيعة الألوان.
حركات اليد خارج / داخل السند / القماش، أو في مباشرتها لمواد النحت أو التنصيبات، تنتج عن ما يعتمل في “معمل الجسد”، والجسد كما يقول دولوز وكواتاري “ينتج الطاقة والحرارة والأصوات”، كما ينتج كذلك الأشكال والهيئات والأطياف.. الرغبة، إذن، هي محل انفعال الجسد.. محل سالب / سائل لا يتجمد، الرغبة لا سابق ولا لاحق لها.
يسير الشاعر والفنان معا في محاولة منهما للقبض على الأثر الذي ما إن يظهر حتى يختفي. يسيران، يتنازعان يفترقان ويلتقيان، ثم يتساءلان: ما الذي حدث أثناء توطين الآثار وترحيلها؟
في تأملات الجزء الأول من “العين والنسيان” امتطى بوجمعة أشفري رهان الصعب، وأخرج لنا صورا ووجوها وتجارب لا يمكن أن تخطئها العين، وانتصر مرة أخرى للأعمال الجادة، التي تمكث في كبريات الأروقة العالمية، والأخرى التي تنتصب شامخة في الساحات تسر الناظرين فتنة وألقا وجمالا..