قراءة في ثلاثة أفلام “الطريق إلى الديدان” و”لا” و”حياة”

الطريق إلى الديدان
عادة ما تتطرق الأفلام القصيرة إلى مواضيع لها خصوصية بالنظر إلى أن الحيز الزمني الضيق لهذا النوع من الأفلام يفرض تكثيف الأحداث واختزالها إلى حد خلق صور شاعرية.
 عايشنا هذه الحالة مع شريط الطريق إلى الديدان، الذي يرصد الأيام الأخيرة من حياة أديب مغربي، يعاني من قصر ذات اليد، بسبب عطالته عن العمل، بالرغم من مستواه الفكري والثقافي، بالإضافة إلى تكالب المرض عليه الذي سيعجل برحيله.
 لقد تم تصوير هذا الأديب البئيس، بأنه يكتري بيتا حقيرا، ما انفكت صاحبة البيت تزعجه بمطالبتها له بأداء مستحقات الكراء، تحيط به الكتب والأوراق المسودة ويستعين بضوء الشمع للكتابة، وإحساسا منه بقرب أجل وفاته، يقرر كتابة رسالة طويلة لا تخلو من غرابة، إنها رسالة إلى الديدان التي يعلم أنه سيكون لقمة لها حين يغيبه الثرى، لهذا يحاول أن يستأنس إليها قبل أن يحين اللقاء بها، فعلى امتداد الشريط كان يصلنا صوته الجهوري المتعب وهو يتلو مقاطع من تلك الرسالة التي لا تخلو من صور شعرية، ويعتبر أن رحيله سيكون جميلا إلى حد المرارة، سيكون موتا أنيقا.. ولا يقاطع هذا الصوت الشاعري غير الصراخ المزعج لصاحبة البيت المكترى مطالبة إياه بأداء الواجب الشهري وهي تهدده بالإفراغ.
 لقد حرص المخرج على تكسير الإيقاع الرتيب للحياة اليومية لهذا الأديب الصابر على المرض، من خلال ترصده وهو يخرج للبحث عن الدواء في الصيدلية، غير أنه سيتخلى عن ذلك بعد لحظة تفكر، فهناك واجب الكراء الذي لم يسدده وحاجيات أخرى رآها أولى من شراء الدواء، وهي مفارقة صارخة، تبرز إلى أي مدى سوء الوضع الاعتباري والاجتماعي للأديب المغربي.
  كان هناك في هذا الشريط كذلك تلميح إلى العلاقة التي يقيمها العامة مع المنتوج الثقافي، وذلك حين سيتوفى الأديب، وتسترجع السيدة المكترية محلها، حيث ستأمر أحد معاوينيها، بأن يزيل تركة الأديب من هذا المحل التي لم تكن سوى عبارة عن مجموعة من الكتب بالقول: “هز علي هاذ الزبل”.
 كان من وقت إلى آخر، يوجه المخرج كاميرته اتجاه القطة التي يستأنس بها الكاتب والتي كانت تمر بين الكتب في مشهد أضفى على الشريط بعدا شاعريا، غير أن مصيرها لم يكن أفضل من صاحبها، حيث سيتم القذف بها خارج البيت بعنف في اليوم نفسه الذي توفي فيه صاحبها، وستدوسها إحدى السيارات، كل ذلك يلخص عدم الاعتبار لحقوق الإنسان والحيوان على حد سواء.
الشريط من إخراج وسيناريو: الغالي كريميش، تصوير: نور الدين مصيفي، صوت: سيمو سيمحمد، مونتاج: فانسون مارتان، تشخيص: زهور السليماني، حسن باديدة، سلمى الساعي، العربي مكالي، زكرياء عاطفي.

لا
شريط آخر قصير، تمت فيه مراعاة شروط الحيز الزمني الضيق الذي يتطلب التلميح عوض التصريح، فبالرغم من بساطة موضوع شريط “لا”، فقد استطاع المخرج أن يشحنه بحمولة فكرية، من خلال توظيفه لعملية استرجاع الذكريات، وهي ذكريات في غالبيتها قاسية، وكان لها انعكاس سلبي لا بل مأساوي على حياة البطل ومحيطه.
 لقد تم التركيز في هذا الشريط على الجانب السيكولوجي، من خلال إبرازه كيف أن الصدمات النفسية التي تحدث في الطفولة مثلا، يمكن أن ترافق صاحبها طيلة حياته، خصوصا إذا لم يتلق العلاج الضروري في حينه، وبالنظر إلى أن الطفل يتحدر من عائلة قروية بسيطة، ليس ضمن اهتماماتها وثقافتها الذهاب إلى عيادة الطب النفسي، فقد تم تفجير تلك العقدة النفسية بشكل مأساوي ومفجع. العقدة تتمثل في تعرض الطفل إلى اغتصاب من طرف امرأة، وبالتالي صار يكره النساء ويرفض الارتباط بهن، غير أنه حين سيكبر، ستضطر أسرته إلى إرغامه على الزواج، على اعتبار أن التقاليد في هذا المحيط تعتبر من العار أن يظل الرجل بدون زواج، وإلا تم نعته بأقدح النعوت، من بينها أنه عديم الرجول، أو أنه شاذ، وبالتالي فإن أسرته لم ترض أن تضع نفسها في هذا الوضع الحرج، فأعدت كل ظروف الاحتفال بعرس ابنها بالرغم من عدم موافقته وعدم موافقة العروس نفسها.
  في هذا العرس الذي لم ينته بسلام، كان هناك استحضار لطقوس الزواج، حيث كان هناك حضور قوي ومؤثر من الناحية الفنية، للفرقة الغنائية الفولكلورية، وهو ما ساهم في تكسير رتابة الشريط، خصوصا إذا علمنا الحالة النفسية المحبطة التي يوجد عليها البطل والتي كانت تلقي بظلالها على محيطه.
 كان هذا البطل مصابا بالهلوسة، حيث في كل مرة يجد نفسه في مواجهة المرأة، تطفو على سطح ذاكرته صورة السيدة التي اغتصبته في طفولته البريئة.
 إن سلطوية الأب ستبرز بقوة في هذا الشريط، إلى حد أنه سيدفع ابنه إلى التوقيع على عقد الزواج بالرغم منه، سيما وأن هذا القرار يعد مصيريا. وكما كان منتظرا فإن هذا العرس كانت نهايته مأساوية، حيث في ليلة الدخلة، ستعاود البطل حالة الهلوسة وتخيل حضور مغتصبته في مكان العروس، مما سيدفع به إلى الانتقام منها، مما أفضى بها إلى الموت.
 لقد كان عنوان الشريط “لا”، وهي لاء طبعت مختلف مشاهد الشريط، ففي كل مشهد تقريبا، كان هناك رفض لشيء، وإن كان هذا الشيء لا علاقة له بالحادثة الرئيسية المتمثلة في رفض الاقتران بالمرأة من طرف البطل، وهو ما أضفى على الشريط بعدا فنيا، سيما وأن الأهازيج الغنائية الفولكلورية على الخصوص، لم تكن هامشية. ومما رفع من قوة الشحنة العاطفية، تلك اللحظة التي ستترافق فيها عملية القتل مع الموال الذي يؤديه صوت أنثوي قروي بلكنته الحادة المعبرة بدورها عن نوع من الاحتجاج، قد كون هذا الاحتجاج في صيغة رفض، أو مجرد التعبير عن مشاعر معينة.
الشريط من إخراج: دمنة بونعيلات، سيناريو: كليلة بونعيلات، تصوير: هشام أيت علي، صوت: حسن فائق، مونتاج: سعيد الخبير، تشخيص: عبد السلام البوحسيني، فاطمة وشاي، عبد الرحيم المنياري، فاطمة الزهراء بناصر، كليلة بونعيلات، سعاد الزواني.

حياة
قليلون هم المخرجون الذين يتعاملون بذكاء على مستوى حركة الكاميرا وأسلوب عرض المشهد بما يتوافق مع مضمونه، المخرج الشاب رؤوف الصباحي في شريطه الطويل “حياة” أكد على أنه له دراية كبيرة بطريقة توظيف حركات الكاميرا بما يخدم الفكرة أو الإحساس الذي يود إيصاله إلى المتلقي، لم يعمل بسذاجة مع تصوير المشاهد، بل كل لقطة كانت لها حمولتها التعبيرية وإيحاءاتها الخاصة، وعلى المشاهد أن يستخدم ذكاءه في فك رموز بعض الإشارات الحابلة بالدلالات.
 إنها رحلة عبر الحافلة في طريق طويل مليئة بالمفاجآت، تجعل المسافرين في حالة تضامن وتفاعل تتفاوت درجاته،  من أجل الخروج من ورطة، فكل واحد منهم له الغاية نفسها، وهي الوصول سالما إلى بيته، ربما أن موضوع الشريط أوخطه الدرامي، غير جديد على سينمانا، حيث أن بعض الأفلام تناولته بطريقة أو بأخرى، أستحضر بهذا الخصوص عابر سبيل لمحمد عبد الرحمن التازي، وطريق العيالات لفريدة بورقية.. هذا فقط على الصعيد الوطني، أما الدولي، فهناك بلا الشك أعمال سينمائية عديدة تطرقت إلى نفس الموضوع، دون أن يعني ذلك أننا نتهم صاحب فيلم “حياة” باستنساخ تجارب الآخرين السينمائية.
 إن الحياة كلها حاول المخرج أن يختزلها في المسافة التي ستقطعها الحافلة وعلى متنها مسافرون ذوو اهتمامات مختلفة، وقد كان هذا مقصودا من كاتب السيناريو، حيث يضفي حيوية على أحداث الشريط. هناك السائق ومعاونه، وهناك الفاجرة، والفنان والطبيب والليبرالي والأصولي والمرأة والطفل والشيخ والشباب والمريض والحامل ووو.. بمعنى أن ما يحدث في أماكن متفرقة من فضائنا المشتركة بين أفراد مختلفين، ضمتهم هذه الحافلة التي تقطع مسافة طويلة وتعترضها مشاكل في الطريق، سواء في علاقة مع رجال الدرك، أو في ما بين المسافرين أنفسهم أو مع غيرهم من المواطنين الذي يلتقونهم في بعض المحطات التي تتوقف فيها الحافلة للاستراحة القصيرة.
ارتكز هذا الشريط على إبراز بعض الخلافات التي تقوم بين عامة المواطنين حول أفكار مبدئية قد تتعلق بالدين أو بالأخلاق بصفة عامة، مع الحرص على الخروج بقناعة ما، تغلب هذا الرأي على الآخر، لقد كان فضاء الحافلة بمثابة مجتمع مصغر ومكثف، تطفو على سطحه بعض المشاكل ويتم محاولة معالجتها، لأن الهدف في النهاية يظل مشتركا وهو الوصول في أمان.
 وتنتج عن ذلك بعض المواقف الباعثة على السخرية، من قبيل، ذلك المسافر الذي يشكو من مرض مزمن يجبره على كثرة التبول، فحين ستتوقف الحافلة عند حاجز لرجال الدرك، سيحاول اغتنام الفرصة لينزل للتبول، وبينما هو يسرع في مشيه اشتبه فيه الدرك وقاموا بإلقاء القبض عليه، دون أن يقتنعوا بالمبرر الذي دفعه إلى الركض بعيدا عن الحافلة، كما أن هناك حادثة طريفة أخرى، وهي حين سيشتري أحد المسافرين الشبان علب سجائر بثمن بخس من طرف بائع متجول في إحدى المحطات ويكتشف أن تلك العلبة مليئة بالتراب عوض السجائر.. وهذه حوادث ليست من نسج الخيال، بل لا شك أن العديد من المسافرين قد عاشوها بالفعل وعاشوا غيرها من المقالب وحالات سوء تفاهم، مثيرة للضحك وللأسف.   
 لقد سعى هذا الشريط إلى إبراز كذلك كيف أن السفر هو بمثابة قطعة من العذاب، والمتاعب التي يعيشها أولائك الذين يشتغلون في مهنة نقل المسافرين والعناية براحتهم، حيث يكون مطلوبا منهم أن يقطعوا مسافة طويلة جدا بدون مراعاة طاقتهم المحدودة، وهو ما سيترتب عنه حادثة سير، وعلى ذكر هذه الحادثة، فقد وظفها المخرج بذكاء كبير، حيث سمح لحركات الكاميرا أن تعبر عن فداحة الحادثة، دون اللجوء إلى تلك الطريقة الفجة في عرض هذا النوع من الفواجع، فهو لم يبرز قطرة دم واحدة ولا أشلاء المسافرين ومتاعهم، بل وجه عدسة الكاميرا بشكل مقلوب نحو سيقان المسافرين وهم يتحركون بتوتر وحيرة في محيط الحافلة المقلوبة، إلى حد إصابة المتفرج بالدوخة، وبهذا الأسلوب الفني استطاع أن يجعل المتلقي يتفاعل مع حادثة السير، كأنه واحد من ضحاياها.
 ومن أجل تكسير رتابة الرحلة، كان يتم بين الفينة والأخرى استحضار ذكريات بعض المسافرين، ذكريات بعيدة وغالبا ما تكون ممتعة وحالمة، ولا شك أن هذا ما يحدث في الواقع، فعندما يكون الإنسان مسافرا، يستغرق في التفكير، ويقوم باستحضار بعض ذكرياته الجميلة، ليقوى بها على متابعة السفر دون الشعور بالملل.
حضور فنانين ضمن هذه الجماعة من المسافرين، لم يكن اعتباطيا، بل كان له إسهام في إضفاء بعد فني على الشريط، وذلك من خلال الأغاني والألحان التي كانوا يعزفونها، والكلمات الشاعرية التي كانوا ينطقون بها، الطافحة بالحزن والألم، مترجمة الوضع الاجتماعي الصعب الذي يتخبط فيه الشباب المغربي، نتيجة الشعور الفادح بمستقبل غامض وغير باعث على الاطمئنان.
 إدمان المسافرين على الأكل لم يكن يخلو من دلالة، وقد تم التعبير عنها من خلال قول أحدهم: “يأكلون باش يبردوا على هوايشهم”، الأكل هنا له بعد نفسي أكثر من كونه له علاقة بالجوع.
 لعل من ميزات هذا الشريط، ليس اختزاله الحياة العامة في فضاء ضيق هو الحافلة، بل يتمثل ذلك في التحكم بذكاء ملحوظ في حركات الكاميرا، وجعلها ذات حمولة تعبيرية وإبداعية، تتيح للمتفرج عدة مجالات للتأويل.
 الشريط من إخراج: رؤوف الصباحي، سيناريو مشترك بين المخرج ومحمد بنسودة ومحد القادري، تصوير: لوكا كواسين، صوت: كريم الروندة، مونتاج: أسامة لصفر، موسيقى: جويل بيليكيرني، تشخيص: كاميلا عواطف، هاشم بسطاوي، نسرين الراضي، عبد الرحيم المنياري، حسن بديدة، إدريس الروخ، لطيفة أحرار، كريم السعيدي، مالك أخميس.
    
مبعوث بيان اليوم إلى طنجة: عبد العالي بركات

Related posts

Top