«قصة حديقة الحيوان» عرض مسرحي يحاكم عبثية الحياة

> بقلم: دة. سميرة لعسيري
الزمان: زمن من الأزمنة العربية المعاصرة.
الفضاء: حديقة عامة في مدينة مغربية هي أليغوريا لكل المدن العربية التي تشهد صخب البنايات وتشييء حضارة الإسمنت  التي ختمت كل شيء بخاتمها…
مكان محتمل لكل اللقاءات، حتى تلك التي قد تبدو غير متوقعة أو مستحيلة لكنها حتمية…
الحكاية: “بيتر” بهندام أنيق، ووجه حليق ووسيم، يجلس كعادته يوم عطلته على “مقعده” الأثير في زاوية من زوايا حديقة عامة، يحلم، يتأمل ويستمتع بقراءة كتابه بعيدا عن الإزعاج وأعين الفضوليين والمتطفلين، لكن فجأة وبدون سابق معرفة، سيعكر صفو عادته الجميلة، شخص متطفل ومستفز.. إنه “جيري” بهيئته البوهيمية وملابسه المهملة.
   يبدو للمتفرج منذ أول وهلة أنهما شخصيتان يفرق بينهما كل شيء: الهندام، السلوك، الوضع الاعتباري في المجتمع، الموقف من الحياة والوجود، وحتى مستويات اللغة المتحدثة، حيث أن لغة “بيتر” منتقاة بعناية وتستجيب لقواعد اللياقة العامة، في حين أن لغة “جيري” صفيقة، متحللة من كل القيود الاجتماعية ومكسرة لقدسية  الوازع الأخلاقي…  
يجد “بيتر”، الكتبي الذي صادق الكتب أكثر مما صادق البشر، نفسه مرغما علـى محادثة “جيري” الآتي من البيوت المهملة في الأحياء الخلفية لمدننا المغربية المهمِّشَة لأبنائها، “جيري” الذي لم يكف عن الثرثرة، وهو يعد “بيتر” من حين لآخر أن يحكي له قصة حديقة الحيوان Zoo Story، ومن خلال هذه الثرثرة التي ستتخذ شكل محادثة عبثية، لا معنى لها،  محادثة متشعبة، متشذرة، ذات شجون، فيها كل شيء ولا شيء، فيها السياسة والجنس والدين والوطن، هي لحظات من الاسترجاع والبوح عما يعتمل في دواخل شخصيات ممزقة وجدانيا واجتماعيا، هي غوص في متاهات العوالم النفسية الخفية والحميمية لشخصيات دونكيشوتية تصارع عبثا طواحين هواء حياة متمنعة ومنفلتة.
لقد انتظر المتفرج ـ كما انتظربيتر تماما ـ أن يحكي له جيري قصة حديقة الحيوان  Zoo Story ، وخلال هذا الانتظار العبثي تعبر الحياة بكل تفاصيلها الممعنة في الإيلام والألم، ولن تكون حديقة الحيوان سوى هاته الحياة التي يشكل قانون الغاب ديدنها، حيث يصير الإنسان شبيها بالحيوان في تلك الأقفاص التي تحضر في حديقة الحيوان، في إشارة إلى تلك القيود التي يفرضها الإنسان على نفسه ليعيش في عزلة عن بني جلدته، أو تلك القيود التي تكبله بها الحياة أحيانا أخرى.
 بعد انتهاء المحادثة سينازع “جيري” “بيتر” على مقعده الأثير في الحديقة، يستفزه ويتحداه برجولته، وبعدم قدرته على الصراع وانتزاع حقه من فك الحياة البئيسة ، وعندما بلغت إهانات “جيري” مداها سيحاول “بيتر” الدفاع عن كرامته المجروحة ماسكا في يده السكين التي منحه إياه “جيري” ليدافع عن حقه باعتباره أوهن منه جسديا ، لكن “جيري” يراوغه ويلقي بنفسه على السكين منتحرا ومستبقا موته بشكل تراجيدي.
لقد خطط “جيري” لموته منذ البداية، قبل أن تطأ قدماه الحديقة العامة التي كانت برجا ينعزل فيه “بيتر” بعيدا عن الحياة، خطط لموته بعد أن ضاقت به جنبات الكون وبلغ به اليأس منتهاه، هو الممثل الذي عاش حياة مريرة جعلته يتشبع بنزعة تدميرية للنفس في مجتمع قاس، وواقع بئيس لا يعترف بمثقفيه ومبدعيه كما يعترف بأشباه المثقفين والمبدعين كما جاء في العرض.

الرؤية الإخراجية في عرض “قصة حديقة الحيوان”:
الكتابة الدرامية:

اشتغل المخرج الشاب أيوب أبو النصرعلى نصZoo Story   للمؤلف المسرحي الأمريكي إدوارد ألبي Edward ALBEE وهو نص مسرحي يندرج في إطار المسرح الطليعي أو مسرح العبث، ويعد هذا العمل من أهم وأصعب نصوص ألبي المسرحية التي كتبها سنة 1958 وهو في أوج شبابه وقوبلت برفض كبير.
اشتغال أيوب أبو النصر على نص ألبي أخذ شكل إعداد درامي لم يترجم النص الأصل بوفاء تام، بل أعمل فيه أصابعه محاولا مغربته ليستجيب لتصوره وأدوات اشتغاله ورؤيته، ومقارنة مع النص  المسرحي الأصلي نجد أن المخرج الشاب فجر بنيته الأولى، ليحصل على نص جديد، أو نص ثان هو النص الركحي الذي لم يحتفظ من النص الأول إلا بالفكرة الأساسية وهي العزلة الاجتماعية والصراع الطبقي، مما يجعل من نص أيوب أبو النصر نصا ذكيا  يسائل الواقع الراهن ويحاكمه. لقد غير أيوب، وبدل وأضاف ونقص وطعم النص الأصلي بقضايا سياسية واجتماعية معاصرة بدون أن تبدو فجة أو مقحمة…
عرض “قصة حديقة الحيوان” لأيوب أبو النصر يحافظ على النفس التراجيدي الذي يحضر في النص الأصلي، لكن مع ذلك يصعب  إدراجه في خانة محددة، أي تجنيسه ضمن نوع صاف Genre pure، لأنه يتبنى ما يمكن الاصطلاح عليه بجماليات الخلط التي تميز جل التجارب المسرحية المتمردة على السنن المألوف، فعرض “قصة حديقة الحيوان” حكاية يمتزج فيها الجد بالهزل، التراجيدي بالكوميدي، الساتيرية الساخرة بالسرد، المحاكمة quisitoireé Rبالمرافعة Plaidoyer…

الكتابة الركحية:

يؤكد عرض “قصة حديقة الحيوان” على أن التمثيل هو أهم عنصر على الخشبة، وما عداه لا يعدو أن يكون مجرد حشو Pléonasme، ولهذا نجد الخشبة في هذا العرض تحتفي بالفراغ، للإعلاء من شأن التمثيل والأداء Performance، وهكذا عمد كل من الممثل الشاب عبد الصمد الشاهي ومخرج ومعد العرض أيوب أبو النصر إلى استثمار أدواتهما التمثيلية وراهنا على تعبيرية الجسد وإيماءاته ونبرة الصوت وحركات الوجه لتصبح بدورها دوال ركحية تسهم بدورها في تشكيل معمارية العرض وجمالياته.
لم يعتمد العرض على فراغ كلي، بل اعتمد فراغا جزئيا، فاكتفت الخشبة بكرسيين خشبيين يتيمين بلون أخضر، ونثرت على الخشبة قصاصات ورقية حمراء لتحيل على أوراق الأشجار المتساقطة في الحدائق العامة، وإذا كان الانعتاق من ربقة انغلاقية المجتمع أمرا مستعصيا، أو على الأقل غير متاح للجميع، فقد رأى مخرج العرض في توظيف الميكروفون ـ  كشيء مسرحي صاخب الدلالات ـ وسيلة خلاص وصلة وصل بين العزلة التي نعيش فيها والفضاء الخارجي الأرحب: الحياة رغم تمنعها وعصيانها، لكن يبقى توظيف الميكروفون  ـ في نظرنا ـ مثقلا لكاهل العرض، ومحاولة لتقليد ونسخ  بعض التجارب المسرحية التي تحاول الخروج عن النمط السائد باعتماد الوسائطية، ولهذا فتوظيفه كان زلة لم تقوض بنية العرض، لكن حضوره على يسار الخشبة كان مزعجا ومشتتا للانتباه ولم يضف شيئا للعرض في الواقع لا على مستوى الدلالة ولا على مستوى الجمالية.
إضافة إلى جمالية الفراغ أو التقشف الركحي، حضرت في العرض جماليات أخرى هي الأسلبة، أو اعتماد البساطة والابتعاد عن التفاصيل المرهقة للخشبة وللعين، إذ أعاد العرض تقديم الواقع بشكل مبسط e  éFormesimplifi، والتجريد بتبني الترميز والإيحاء بدل التقريرية الفجة، فكانت شرائط من قماش أبيض معلقة بشكل طولي في خلفية الخشبة ومقدمتها دالة على قضبان الحديقة العامة، وكناية عن الأقفاص التي يسيج الإنسان بها نفسه داخل عزلته الوجودية التي يختارها تارة، أو تفرض عليه قسرا في أحاييين كثيرة. ويصبح اللون الأحمر كناية عن الألم والعنف والأشواك التي تدمي أقدام الإنسان في سعيه لقطف ورود حياة يعتقدها وردية.
ثم إن اختيار الأحمر والأخضر كعلامات بصرية تؤِثث خشبة عرض “قصة  حديقة الحيوان” ليس بريئا، إذ أول ما يتبادر إلى ذهن المتلقي هو أن ما يحدث ليس بعيدا عنه لأنه يحيل على رقعة جغرافية تسكن وجدانه ويسكن وجدانها رغم التغييب والإقصاء …
يدفع هذا العرض المسرحي المتميز المتفرج إلى إعمال عقله للإجابة عن أسئلته المشاغبة، ولفهم إيحاءاته، لأنه يختزل التفاصيل، ويقتصد في استخدام أدوات التشكيل الركحي، وفي المقابل يسرف في الحوار واشتغال الجسد، وتوظيف تقنيات الميتامسرح من ارتجال وتقعير ومسرح داخل مسرح وهدم الجدار الرابع..، ولهذا يتسم العرض ـ رغم أن صانعه شاب ما فتئ يرسم بداية مساره باجتهاد وجدية ـ بقوته الدلالية مما يجعله أفقا مفتوحا على قراءات ومقاربات مختلفة، وخطابا قابلا للتعددية التأويلية كما في كل الأنواع الأدبية والفنون التعبيرية المجاورة.

Related posts

Top