لم يكن هيجل مثاليا حين رأى العقل يمتطي حصانا وهو يشاهد نابليون من نافذة بيته في “يينا”. كما أنه قد أصاب حين أعلن “أن التاريخ ليس إلا مسار وعي الحرية لذاتها”.
ولقد وضع ماركس يده على الحقيقة التي يهرب الناس من مرارتها ألا وهي المصلحة بوصفها محركا للتاريخ.
هذه المفاهيم الثلاثة لا تعني سوى الإنسان في تعيّنه التاريخ، فالإنسان المجرد لا وجود له إلّا في العقل الذي جرّده من الإنسان المتعيّن. الموجود هو البشر في تعيّنهم التاريخي. فالمصلحة والحرية يحددان روح العالم ومسار تاريخية البشر في كل أشكال تعيّنهم في الجماعات والأقوام والشعوب والأمم.
والحق بأن البشر لا يعون حريتهم “عند هيجل وماركس” إلا بوعي عبوديتهم. والملكية، تاريخيا، شرط مهم من شروط ولادة العبودية واستمرارها. والمصلحة بدورها لا تنفصل عن العبودية، ومن هنا كانت ولادة الإنسان، ولادة وعيه بالحرية بوصفها وعيا بعبوديته وما ترتب عليها من وعي مكتوب أو شفاهي. ووعيه بالحرية هو الذي حمله على أن يكتب معنى وجوده الحر.
وإذا كانت البرجوازية بوصفها طبقة قد أعلنت مركزية الإنسان وأنتجت أهم فكر إنساني صاغ نظريات العقد الاجتماعي، فإنها في المقابل أنتجت أشكالا أخرى من العبودية في انتصار العلاقات الرأسمالية. ولهذا فالديمقراطية هذا المنجز الأوروبي بوصفه نمط حياة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا لم يأتِ على التناقض بين الحرية وسلبها، بل جعل منه حالة قابلة للصراع الداخلي ذي الطابع السلمي ومن هنا نشأ مفهوما اليسار واليمين من حيث هما تعبيران عن التناقض. ولم يلغ الصراع على اقتسام العالم غير الأوروبي.
فأوروبا بوصفها أعلى شكل لوعي الروح بذاتها في الدولة الديمقراطية وجدت نفسها في العصر الأمبريالي- الاستعماري سيدة على عالم واسع من آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. ولقد وفرت هذه السيادة على العالم غير الأوروبي للإنسان الأوروبي حظا من الرفاه بحيث لم يعد فيه التناقض الطبقي صارخا. بل صار الخلاف بين اليسار واليمين خلافا على درجات الرفاه ومستوياته. فالتقنية والمال والديمقراطية جعلت من الإنسان الأوروبي سعيدا في دولة الرفاه ودولة العناية.
وفي الوقت نفسه كان عالم الأطراف عالم ما قبل التقنية، عالم ما قبل الثروة، عالم ما قبل الديمقراطية. عالم التبعية التي هي في مضمونها شكل من العبودية.
لقد نظر فوكوياما إلى أوروبا وأميركا على أنهما نهاية التاريخ بالمعنى الهيجلي، فلقد وصل الروح الموضوعي إلى الدولة الدستورية- الديمقراطية التي أنهت التناقضات الطبقية والقومية والإثنية والدينية. وربما كان يشير إلى مسار الرأسمالية نحو العولمة التي لم يستطع أن يتوقع تناقضاتها.
لقد عادت العولمة كل المفاهيم الدالة على تعيّن مسار الحرية وانتصار مركزية الإنسان على دائرة التفكر والمراجعة.
ما العولمة التي “خربطت” مسار التاريخ وهي في مسار تاريخ الرأسمالية؟ نعتقد أن العولمة ثمرة تاريخ طويل من سيرورة الرأسمالية التي هي في أهم ملامحها توحيد العالم، وقد أشار ماركس منذ القرن التاسع عشر إلى هذه الطبيعة التوحيدية للرأسمالية.
والحق أن توحيد العالم رأسماليا قد تم بأشكال متعددة، تعينت بتطور الرأسمالية عالميا. فإذا كانت الرأسمالية الوليدة قد أنجزت الوحدة القومية (الأمة). فإن الأمبريالية وسعت الرأسمالية خارج حدودها وقد حاولت توحيد العالم عبر السلطة والقوة العسكرية والاستعمار، مع بقاء الدولة القومية بوصفها دولة استعمارية. وسيشهد العالم صراعا بين الدول الأمبريالية نفسها والحروب العالمية الأولى والثانية وبين الدولة الأمبريالية والشعوب المستعمرة.
تأتي العولمة اليوم كتعيّن خاص للرأسمالية متحكمة في مصير العالم اقتصاديا وسياسيا وثقافيا. إنها أمبريالية جديدة وليست تشكيلة اجتماعية اقتصادية جديدة، وبالتالي لا نجد هذا القطع التاريخي الذي تم عبر الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية، بل استمرار في الرأسمالية عبر تحولات داخل الرأسمالية العالمية.
فالعلم ما زال منذ نشوء الرأسمالية يقوم بدور القوة المنتجة، والرأسمال المصرفي ما زال مندمجا بالرأسمال الصناعي الاحتكاري، وما زال العالم موضوع سيطرة، وما زال التأثير الثقافي حاسما من قبل المركز على الأطراف بل وما زالت القوة العسكرية وسيلة للسيطرة على العالم. كالحرب العدوانية الأميركية على العراق.
غير أن العولمة بما هي أمبريالية جديدة تتميز بالاستقلال النسبي للشركات متعددة الجنسيات عن الدولة القومية، بل وتحولت الدولة إلى قوة مساندة لهذه الشركات العالمية في إنتاج السلعة خارج حدود الدولة القومية، ثم ثورة المعلومات والاتصالات ومظهرها والمحطات الفضائية، مما زاد من التأثير الثقافي العولمي يضاف إلى ذلك وجود مؤسسات عالمية غير متعلقة بدولة واحدة.
وكما أنتجت الرأسمالية الأمبريالية حركة مناهضة على مستوى العالم -الطبقة العالمة- وشعوب العالم الثالث، تنجح الآن العولمة حركة عولمية مناهضة على مستوى العالم أيضا. لكن أخطر ما أنتجته العولمة هو أن ما كان يسمى بدول الأطراف أصبحت الآن دول الهامش.
هذه هي العولمة كواقع موضوعي، لكن العولمة كواقع موضوعي أنتجت بدورها قيلا أيديولوجيا، تماما كما أنتجت الأمبريالية بدورها القيل الأيديولوجي.
نقصد بالقيل الأيديولوجي التبرير الأيديولوجي لهذه الظاهرة والدفاع عنها لنفي الطبيعة التوحشية للرأسمالية المتعولمة. العولمة أيديولوجيا هي جملة أفكار حول الدولة والأمة والإنسان والهوية والثقافة.
أول فكرة أيديولوجية عولمية هي انحسار دور الدولة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية. تستند هذه الدعوة الأيديولوجية إلى عالمية الشركات ورأس المال التي لم تعتد بالدولة، بل إن الدولة صارت عقبة أمام توسع فاعلية الشركات ورأس المال. يجري الحديث هنا عن الدولة بعامة بما فيها الدولة في العالم الثالث التي لم تعد قادرة على الوقوف في وجه السيل الجارف والعارم للاقتصاد العولمي. لا شك أن الثورة الاقتصادية والسلعية والرأسمالية هي قوة مهيمنة على مستوى العالم. ولكن هل كفّت الدولة المتعولمة عن أن تكون فاعلة في هذه؟
لنأخذ أكبر دولة في عصر العولمة وهي أميركا. فإعلان الحرب على العراق هو قرار دولة أميركية ودولة بريطانية، والجيوش التي زحفت على بغداد هي جيوش دول، وتمويل هذه الحرب هو تمويل دولة، والأهداف من وراء هذه الحرب هي أهداف دولة، وبالتالي باستطاعتنا القول إن الدولة الأميركية هي دولة استعمارية تقليدية بامتياز. وهذا يعني أن العولمة لم تأت على الذهنية الاستعمارية للدولة الرأسمالية المتعولمة.
وبارتباط مع مفهوم ضعف الدولة أو زوالها في ظل العولمة تطرح فكرة زوال الحدود القومية في مقابل تكوين القرية الكونية، حيث يطرح قيل مفاده أن ازدياد وسائل الاتصال وبتبادل المعلومات وحرية الانتقال المزعومة، كل هذا يؤذن بولادة إنسان جديد يأخذ ملامحه من عصر جديد وينتمي إلى لغة عالمية هي لغة العالم، وبالتالي يغدو الانتماء إلى القرية الكونية أقوى من الانتماء إلى الأمة أو القومية.
أن تكون العولمة ظاهرة موضوعية بما هي مرحلة عليا من انتصار الرأسمالية فهذا مما لا شك فيه. ولكن من قال إن البشر يجب أن يقفوا من الظواهر الموضوعية موقف المذعن لها، والقابل بها والراضخ إليها، فالأمبريالية هي الأخرى موضوعية، والاستعمار الذي تولّد من الظاهرة الأمبريالية هو الآخر ظاهرة موضوعية ولكن الأمبريالية بصفتها الاستعمارية قد أنتجت حركات التحرر من هذا الواقع الموضوعي، أنتجت كفاحا عالميا ضد شرور الأمبريالية.
فكيف يتعين الآن العالم الأوروبي- الأميركي في مسار تعيّن الحرية. ما الذي أنتجته العولمة على مستوى الممارسة النظرية والعملية؟
إن أهم ملمح من ملامح التغيّر الطبقي للعولمة هو اتساع الطبقة الهامشية التي انحدرت إليها فئات من الطبقة العاملة التي وجدت نفسها بلا عمل، وفئات من الفئات الوسطى. وهذا انعكس على الوضع السياسي الداخلي في العالم الذي أنتج العولمة أصلا.
لقد كانت الفئات الهامشية موجودة دائما وقد أشار إليها هربرت ماركوز في حينه، كما أشار سارتر إلى اغتراب الإنسان في عالم الرأسمالية، وكانت الحركات اليسارية تستند إلى نقابات وأحزاب شيوعية واشتراكية في مواجهة اليمين الرأسمالي التقليدي.
في هذه المرحلة ذاتها أعلن الوعي الأوروبي نهاية الأيديولوجيا وموْت المثقف، وموْت المؤلف بل وموْت الإنسان. وكأن الروح- العقل- الحرية في حال اغتراب. غير أن الأمل ظل حاضرا في الوعي، وقد كان عبر عنه إريك فروم في حينه.
في ظل العولمة لم يعد موْت الإنسان صرخة فيلسوف يعي العالم، بل واقعة تؤدّي بالإنسان إلى حالة اليأس. اليأس الذي عبر عنه المجتمع الرقمي بكل وضوح حين أعلن موْت الحزب والنقابة وموْت اليسار واليمين التقليدي. عقود من الزمن كان اليسار واليمين التقليديان يتناوبان على سلطة الدولة ولم تكن الفروق بينهما واضحة في حل معضلات المجتمع الأوروبي والأميركي. وحين وصلا في العولمة إلى مرحلة التشابه في العجز تفتقت المجتمعات عن الشعور العملي لموت الإنسان، الموت بوصفه يأسا. وعن اغتراب الروح بوصفها تشيّؤا، وعن مأزق الحرية بوصفها تغوّلا للرأسمال، وهزيمة للحقيقة بوصفها مأزق العقل.
إن التاريخ والحال هذه لا يعبر عن نفسه إلا بأعلى درجات التأفف من العالم بما فيها توسل الخلاص الفاشي والعودة إلى شعارات القوة والمجد والأمة والتي هي نفسها الشعارات التي طرحت أيام أزمة الرأسمالية بين الحربين، وهي شعارات لا تعبر عن روح العولمة بل ناتجة عن مشكلاتها والثمن الذي سيدفعه العالم قبل استقرارها. بل إن انفجار العرب ليس إلا معلما من معالم هذا المأزق التاريخي للعالم.
وبعد، إن الرأسمالية وقد وحدت العالم بالمعنى الاقتصادي والمعرفي والثقافي على نحو ما، فإن العولمة هي الأخرى بوصفها المرحلة الأعلى للرأسمالية في هذا العصر قد دمجت العالم بعجره وبجره. وبالتالي فكما خلقت الرأسمالية ما قبل العولمة حركة عالمية للدفاع عن الإنسان المغترب والمقهور فإن العولمة بدورها ستخلق الحركة العالمية ضد موت الإنسان.
أحمد برقاوي *
*كاتب فلسطيني