الجدل الذي يجري هذه الأيام بشأن المجلس الوطني للصحافة، وذلك بعد الخطوة التي أقدم عليها مجلس الحكومة خلال اجتماعه الأخير، لا يتعلق بنقاش بين الزملاء في المهنة أو يهم شأنا قطاعيا ينحصر في الصحافة وممارسيها وحدهم، ومن ثم لن أجاري هنا الاستسهال الذي يصر بعضنا على جرنا إليه، ولكي نبقى ندور حول أنفسنا في حلقة مفرغة لا أفق لها.
يعرف الكثيرون من بيننا أنني، وبكل التواضع المطلوب والمعهود، أدرك كثير تفاصيل عن الوقائع والمواقف والسلوكات والأشخاص، لكن التزامي ومسؤوليتي يفرضان التحفظ في استعراض معظمها الآن وعلى العلن.
ولن أجرب هنا معجم المزايدة اللفظية أو التراشق بالسباب، ولن أستعرض كوارث القول والسلوك عند بعض قبيلتنا، رغم أنني أعرف تفاصيل تفاصيلها..
ولهذا أردد لبعض زملائي المؤيدين لخطوات الوزير القول المغربي المأثور: (الرجوع لله)!!!
الأمر أكبر اليوم، ويعني الممارسة الديموقراطية ببلادنا، ويتعلق بمنطق السير العام لدولة القانون والمؤسسات.
هناك مؤسسة للتنظيم الذاتي لمهنة الصحافة تم إحداثها بقانون، وبعد سنين من ترافع ونضال المهنيين ومنظماتهم، وجرت في 2018 أولى الانتخابات المتعلقة بها، وأفضت إلى ما أفضت إليه، ووصلت إلى نهاية مدة الانتداب القانوني في: 2022، والمنطق السليم يفرض إجراء انتخابات لتجديد تركيبتها وتنصيب مجلس جديد، وكفى الله المؤمنين شر القتال، وسيتحقق بذلك الاحترام الواجب للقوانين الجاري بها العمل في البلاد.
لكن لما اقترب موعد التجديد برزت أطراف مهنية وغير مهنية لم تعد تقبل أن يكون هذا المجلس قائما على انتخاب المهنيين الأعضاء فيه، وإنما على قاعدة الانتداب أو التعيين، ومن هنا بدأت كل المناورة، وشرع البعض «يجتهد» في تبخيس كل لجوء للتصويت أو سعي لاحترام الديموقراطية وحق المهنيين في اختيار من يمثلهم، وتشكلت «لوبيات» من أجل الوصول إلى هذا الهدف، وتلاقت مصالح أكثر من طرف لدواعي مختلفة، ثم تعززت المناورة بانحياز وزارة القطاع وانخراطها في هذه الطريق التي تقوم على رفس القانون وتمريغه في الوحل.
كل المبررات التي ساقها في الأيام الأخيرة وزير القطاع لا تصمد أمام المنطق القانوني.
الدفاع عن حق المهنيين في اختيار ممثليهم بالمجلس الوطني للصحافة واحترام مقتضيات القانون، ليس سباقا من أجل مقاعد أو إصرارا على شكليات بلا أهمية، ولكن الأمر يتعلق بتمسك قوي بمنطق وروح دولة القانون، وبالدفاع عن المبدأ الديموقراطي.
مراجعة قوانين المهنة، وتعديل حتى القانون المحدث للمجلس نفسه، كل هذا ممكن، وهو، في كل الأحوال، صيرورة، وتشهد هذه القوانين حوارا مستمرا وتعديلات متكررة، ولكن لا يمكن إرجاء أو تعليق احترام الديموقراطية بداعي مراجعة كامل القوانين أولا.
وإلا، لماذا لم تقدم الحكومة مشاريع تعديل منذ سنوات، وقبل أن يصل موعد انتخاب المجلس الجديد؟ ولماذا صار اليوم مستعجلا جدا تعديل هذه القوانين؟ وما هي مجالات التعديل والمراجعة بالذات؟
أما عندما يصرح وزير القطاع، وأيضا الأطراف المهنية التي أوحت له بهذه الأراجيف، بأن مواد القانون الحالي لا تسعفه لينظم انتخابات المجلس، فهل كان من السهل والمستساغ قانونا اقتراف الخطوة الحكومية النكوصية والتراجعية، ولم يكن ممكنا مثلا تطبيق المادتين: 09 و54 من أحكام قانون المجلس أو حتى الاجتهاد لتفسير واضح لمقتضياتهما؟
ولما جرى إشعار الوزير منذ الصيف الماضي من طرف منظمات مهنية، ألم يكن متاحا له إعمال الاستشارات القانونية والمسطرية اللازمة مع المجلس نفسه ومع الأمانة العامة للحكومة لصياغة المخرج القانوني المناسب، وبالتالي تجنيب البلاد كل هذه النكسة؟
يعني ما سبق، أن السعي كان منذ البداية واضحا من أجل القفز على مبدأ الانتخابات، وكل ما جرى في غضون ذلك كان فقط تفاصيل صغيرة ومناورات لفرض الأمر الواقع.
لقد تمت محاولة أولى بواسطة فرق برلمانية، لكن نظر حكيم أوقف المهزلة في آخر المطاف، ومع ذلك عادت الأطراف واللوبيات نفسها لاقتراف مناورة أخرى استلهمت بعض ما كان واردا في الأولى التي تم فيها تغليط عدد من الفرق البرلمانية، وهذه المرة وقع التحايل على مجلس الحكومة.
الصراخ المتناثر هذه الأيام حول توزيع الدعم العمومي في السابق ووجود أطراف مستفيدة من ذلك هي التي تدافع اليوم عن الانتخابات وتهديد البعض بفضح مقاولات بشأن زيادة في أجر العاملين قررت من طرف واحد بمناورة صبيانية غير خافية على أحد ولا سند قانوني لها والإمعان في دغدغة عواطف الأجراء بشكل بليد، كل هذا غايته إخفاء ما حيك ويحاك من تواطؤات ومناورات صغيرة جدا ضد هذه المهنة.
الدعم العمومي، أيها لفهايمية جدا، هو مال عام تشرف على صرفه السلطة العمومية ذات الصلة، بتشاور مع المهنيين، والمجلس الأعلى للحسابات سبق أن أصدر تقريرا، وهذا الأخير منشور وموجود منذ سنوات، ويفضح الاختلالات التي يستنكرها المهنيون اليوم وليس العكس، وهو يوجه ملاحظاته إلى وزارة القطاع أولا وقبل كل شيء.
ويمكن للمجلس أن يحقق اليوم في تفاصيل صرف الدعم الاستثنائي خلال زمن كورونا مثلا، وهنا سيفتضح أمر الذين يزعمون أنهم مقاولات كبرى، ووحدهم من يحق لهم الاستفادة من الدعم العمومي، ولا أهمية، برأيهم، لا للمقاولات المتوسطة والصغرى، ولا للصحافة الجهوية، ولا لترسيخ التعددية السياسية والترابية في البلاد، ولا هم يحزنون.
ويمكن للمجلس الأعلى للحسابات أيضا أن يفحص الدعم العمومي الموجه لتسيير المنظمات والجمعيات المهنية، وهنا يمكن أن نجد بعض الجواب عن كامل هذه المناورة الساعية اليوم للانقضاض على المجلس الوطني للصحافة، والعمل من أجل تسييجه وتغيير صلاحياته، وأن نفهم أيضا لماذا الوزارة لم تطرح لحد الآن، ومنذ ثلاث سنوات، تصورها الجديد لنظام الدعم العمومي، ولماذا ربطت ذلك بمصير المجلس الوطني للصحافة؟ ونعود إلى ما قبل ذلك لنطرح سؤالا آخر عن مبررات استهداف فيدرالية الناشرين وشق صفوفها، وهل كانت هناك، بالفعل، مبررات ودواعي موضوعية لذلك، ومن تسبب فيها.
في المناورة السابقة التي جرت في البرلمان وأوقفتها تدخلات حكيمة، كان ورد أن تحديد المنظمة المهنية الأكثر تمثيلية لدى الصحفيين أو لدى الناشرين سيتم عبر نص تنظيمي، وكانت هذه من ضمن تجليات الغباء التي فضحت المناورة، وكشفت على أن التلكؤ في تنظيم انتخابات المجلس الوطني للصحافة كان مبرره تغيير قواعد التمثيلية، ليستطيع أصدقاء الوزير إيجاد مكان لهم برغم رفضهم الميداني الواضح.
هذه الفضيحة كانت تعني، من جديد، رفس قوانين البلاد ومقومات دولة المؤسسات، ذلك أن التمثيلية لدى النقابات تحددها نتائج انتخابات مناديب الأجراء وأحكام مدونة الشغل، وتمثيلية منظمات أرباب العمل والمشغلين تحددها العضوية من لدن المقاولات الموجودة في البلاد، وبالتالي لا داعي أصلا لأي نص تنظيمي يحدد قواعد تمثيلية أخرى، ما عدا إذا كان الهدف هو فرض أطراف أخرى عسفا وبشكل (بلطجي).
الخطوة الحكومية الأخيرة توجت كامل مسار المناورة التي برز وزير القطاع خلالها طرفا منحازا بوضوح، وقاد مسلسل خرق القانون من البداية.
لو اقتصر الأمر على ركض بعض اللوبيات المعروفة للاستحواذ على المال العام بشكل ريعي واحتكاري من خلال تفصيل شروط الدعم العمومي، ولو اقتصر الأمر على الوصول إلى عضوية المجلس الوطني للصحافة للاستفراد بصنع التصورات وتفصيل القرارات على المقاس، لقلنا بأن المهنة بلغت هذا الدرك من التدني، وما يجري هو نتيجة ما صارت عليه.
ولكن الأمر، كما قلت أكبر من ذلك، ويتعلق بهجوم على مكتسبات ديموقراطية وحقوقية راكمتها بلادنا، ويتعلق بصورة المملكة، ويتعلق، في البدء والختام، بتجاوز واضح وفاضح للدستور، ولفصله الثامن والعشرين، الذي يحدد دور السلطات في التشجيع على التنظيم الذاتي، وينتصر للديموقراطية والاستقلالية.
بعض أبناء قبيلتنا المهنية لم يريدوا التمعن في كامل هذا العبث واستنكاره، وتمسكوا بأنانيتهم، ورضوا أن يسلموا ألسنتهم وظهورهم لوزير بلا نظر رصين وعاقل ليركب عليها ويمرغ كل القوانين على الأرض، والكرة اليوم لدى البرلمانيين لكي ينتفضوا دفاعا عن دولة المؤسسات وعن صورة المغرب الحقوقي، ولكي يقفوا في وجه هذه الفضيحة الحكومية قبل أن تسقطها المحكمة الدستورية.
<محتات الرقاص