كلمة الأمين العام الرفيق محمد نبيل بنعبد الله في افتتاح الجامعة السنوية لحزب التقدم والاشتراكية

الرفيق رئيس مجلس رئاسة حزب التقدم والاشتراكية؛
السيد رئيس الحكومة الأمين العام لحزب العدالة والتنمية؛
الرفيقة رئيسة الجلسة؛
السيدات والسادة ضيوفنا الأفاضل؛     
الرفيقات والرفاق الأعزاء؛
أيها الحضور الكريم؛
صباح الخير..

في البداية يسعدني أن أرحب بالضيوف الأفاضل الذين لبوا، مشكورين، دعوة حزبنا للمشاركة في أشغال جامعته السنوية هذه، المتمحورة حول موضوع “القطاع العمومي والخدمات العمومية بالمغرب في مواجهة تحديات السيادة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية”، الذي نرى، في حزب التقدم والاشتراكية، أنه جدير بأن يخضع لمدارسة شاملة، متأنية ومعمقة، من حيث وضعيته الحالية، وما شهده من تطورات على مدى العقود الأخيرة، ومن حيث التصورات والبدائل التي يمكن اقتراحها لاستشراف آفاق أفضل للمرفق العام وما يقدمه من خدمات عمومية في المجالات الأكثر حيوية للمعيش اليومي للمواطنات والمواطنين.
كما أود توجيه تحية خاصة للرفيقات والرفاق، من مختلف التنظيمات الجهوية والإقليمية والمنظمات الموازية، على الحضور الكثيف، منوها بجهود أعضاء اللجنة التنظيمية، التي تولت مهمة التحضير والإعداد الأدبي والمادي والتقني والإعلامي لإنجاح هذه التظاهرة ذات الأبعاد الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.

أيها الحضور الكريم؛
إن أشغال هذه الجامعة، التي سيتم التقديم لها بمدخل تأطيري، ستتركز، كما هو مسطر في برنامجها،   حول محاور تقارب دور القطاع العمومي وحدوده ومسألة الحكامة، وتقديم تصورات متقاطعة حول التدبير المفوض من منظور مختلف المتدخلين من سلطات عمومية ومنتخبين ومجتمع مدني، فضلا عن تناول فرص وحدود الشراكة بين القطاع العمومي والقطاع الخاص، مع التركيز على قطاعي الصحة والتعليم، كنموذجين في هذا الاطار.
وحيث أن حزبنا دأب، خلال جامعته السنوية، على تكريم شخصية مرموقة في المجال ذي الصلة بموضوع كل دورة من دورات هذه الجامعة، فقد استقر رأي المكتب السياسي للحزب، بالنسبة للدورة الحالية، على أن يتم تكريم الأستاذ والباحث الاقتصادي المناضل عبد القادر برادة، الذي يظل وفيا للمبادئ التقدمية والقيم السامية التي تربى عليها ضمن مدرسته السياسية المتميزة، مع التزامه في التعاطي مع قضايا تخصصه، بالمقاربة العلمية الرصينة والصارمة.
وقبل أن أترك لذوي الاختصاص التحدث عن الأستاذ برادة من زاوية إنتاجه العلمي الغزير، سأكتفي بإشارتين إثنتين:
لايزال السي عبد القادر برادة حاضرا بقوة كباحث اقتصادي من طراز رفيع، باحث جاد، مثير للاهتمام وربما للجدل أيضا (بالمعنى الإيجابي)، في المغرب وخارجه، ولا أدل على ذلك من أن مقالته المنشورة مؤخرا، وتحديدا في نونبر 2015، بالعدد 23 من مجلة “سنة المغرب العربي”  revue L’Année du Maghreb، متوفرة الآن في أزيد من 230 مكتبة أجنبية.
 كان سي عبد القادر برادة، إلى جانب رفاق آخرين، المشكلين لما كان يعرف باللجنة الاقتصادية للحزب، سندا قويا للقائد التاريخي لحزبنا، الرفيق المرحوم علي يعته، من حيث تقديم الاستشارات والمعطيات اللازمة، خاصة لدى مناقشة قوانين المالية، لكي يضطلع سي علي (منذ1977) بدوره كنائب برلماني يقر الجميع بأنه كان لوحده نائبا بدرجة فريق نيابي كامل ومتكامل.
أيها الحضور الكريم؛
تنعقد هذه الجامعة في ظل ظرفية لابد من التطرق، بعجالة، لأهم ما يميزها من القضايا والإشكالات المطروحة:
فكما تعلمون، حددت الحكومة، في اجتماعها أول أمس الخميس، يوم 7 أكتوبر المقبل موعدا لإجراء الانتخابات التشريعية، مما يعني أن العد التنازلي لانتهاء ولاية الحكومة الحالية قد بدأ، وبالتالي صار واجبا عليها تكثيف الجهود لإتمام ما التزمت به في برنامجها، وضمن ذلك تندرج، فضلا عن مواصلة إنجاز الأوراش المفتوحة، وتسريع وتيرتها، ضرورة إخراج ما تبقى من القوانين التنظيمية المنصوص عليها في الدستور، والتي يقضي هذا الأخير بوجوب عرضها، قصد المصادقة عليها من قبل البرلمان، في أجل لا يتعدى مدة الولاية التشريعية الأولى التي تلي صدور الأمر بتنفيذه (حسب منطوق الدستور).

ضرورة المزاوجة الجيدة بين التحضير للانتخابات التشريعية والعمل على إخراج القوانين التنظيمية المتبقية

نعتقد، في نظرنا، أن المدة المتبقية كافية للمزاوجة جيدا بين التحضير للانتخابات التشريعية المقبلة، والعمل على إخراج القوانين التنظيمية المتبقية، والتي تكتسي أهمية فائقة على اعتبار أن الاعتناء بها والحرص على سلامة تفعيلها يجعلانها تضمن التجسيد المتقدم لمضامين الدستور وأحكامه وروحه فوق أرض الواقع المؤسساتي، وتمنحه أبعاده العملية، وتثبت معانيه.
وفي هذا الإطار، لابد من التنبيه، فيما يخص القانون التنظيمي المتعلق بأجرأة ترسيم الأمازيغية، وهو موضوع نوليه أهمية قصوى دون أن ينتقص ذلك من اهتمامنا الفائق بباقي القوانين التنظيمية، قلت.. لابد من التنبيه إلى أنه لا مجال، إطلاقا، لأي تراجع عن المكتسبات المحققة بالنسبة لهذه المسألة التي يتعين أن تبقى في منأى عن المنافسة ضيقة الأفق، إذ يجب التعامل معها من منطلق هاجس حماية التعدد اللغوي في البلاد، ومقاربة اللغتين الرسميتين على قدم المساواة، مع مراعاة، طبعا، ما لا مناص من مراعاته من تدرج في إطار شمولي، تشاركي، وتشاوري.
ضرورة إصلاح أنظمة التقاعد من منطلق نظرة شمولية قائمة على التضامن
يبقى موضوع إصلاح أنظمة التقاعد موضوع الساعة بامتياز. وهو مشكل عويص ظل مطروحا منذ سنوات، ولم تفلح الحكومات السابقة في مباشرة علاجه، وأصبح ينذر بخطر إفلاس صناديق التقاعد بل وزوال أنظمته ككل إن لم يتم الإصلاح الضروري المستعجل قبل فوات الأوان.
العلاج بالطبع، ككل علاج ناجع، سيكون مرا ويتطلب قدرا غير يسير من الشجاعة والتضحية، ليس فحسب من الحكومة بل وأيضا من الشركاء الاجتماعيين والمواطنات والمواطنين المعنيين والدولة ككل، لأن المسؤولية هنا تتجاوز الأحزاب والنقابات وصارت مسؤولية الدولة برمتها.
وكما هو معلوم، فالبرنامج الحكومي ينص على إجراءات تسير في اتجاه وضع نظام احتياط اجتماعي متقدم، وذلك من خلال العمل، بالخصوص، على توسيع التغطية الصحية والتقاعد لفائدة الساكنة النشطة والشغالين أجمعين، ومجموع المغاربة ككل.
وحزب التقدم والاشتراكية يساند هذا التوجه بالكامل، لأن التجارب تعلمنا أنه في تاريخ الشعوب غالبا ما شكلت منظومة الاحتياط الاجتماعي أساس وقاعدة مجتمع متضامن (مثال: الضمان الاجتماعي في فرنسا والدول الاسكندنافية وبعض بلدان أمريكا اللاتينية).
ثم إن هذه المنظومة تهم، على الخصوص، الطبقة العاملة وسائر الشغيلة، الذين من أجلهم تم، أصلا، تأسيس حزبنا.
هنا تجدر الإشارة إلى أن الحكومة بذلت جهودا كبيرة في هذا الاتجاه: الرميد (في أفق التوسيع الشامل للتغطية الصحية)، التغطية الصحية للطلبة، وتحقيق تقدم في مجال التغطية الصحية لذوي المهن الحرة، الرفع بنسبة مهمة من ميزانية وزارة الصحة… لكن، مع ذلك، يبقى من الضروري إيجاد حلول للخصاص الخطير المسجل على مستوى الموارد البشرية، وخاصة في العالم القروي (الخدمة الصحية الوطنية، دعم وتطوير المرفق العمومي في المستشفى العمومي دون استبعاد إمكانية الشراكة بين القطاعين العمومي والخاص).
ولا يفوتنا أن نسجل بإيجابية مصادقة الحكومة على النصوص التي ستمكن من استكمال التغطية الصحية الشاملة وما يمثله هذا الإنجاز من تقدم مهم في مسار إرساء منظومة متقدمة للاحتياط الاجتماعي كفيلة بتعزيز أسس المجتمع المتضامن الذي يوفر لمختلف فئات جماهير شعبنا مقومات العيش الكريم.
أما بخصوص إصلاح نظام التقاعد، فنحن فعلا أمام حالة استعجالية مرتبطة بالعجز المسجل في الصندوق المغربي للتقاعد (الذي يهم المعاشات المدنية لموظفي الدولة)، وبالتالي فإن اتخاذ إجراءات معيارية تتعلق بسن التقاعد (مع مراعاة جوانب الطابع المضني والقاسي لعدد من المهن)، ومبالغ مساهمة المنخرطين، وطريقة احتساب المعاشات.. تبقى إجراءات ضرورية.. وهذا ما ينبغي على الجميع أن يفهمه، علما بأن النقابات نفسها تعترف بذلك.. لكننا، مع ذلك، ندافع، في حزب التقدم والاشتراكية، عن فكرة مفادها أن هذا الإصلاح يجب أن يندرج في سياق تصور استراتيجي يقضي بإرساء نظام وطني للاحتياط الاجتماعي، كأساس للمجتمع المتضامن الذي نريده لبلادنا. وبذلك سيتعاطى المغاربة، وخاصة العمال والأجراء، مع هذا الإصلاح باعتباره إصلاحا اجتماعيا تقدميا، وبالتالي سيقبلون على الانخراط فيه.  
لذا فإن إن التصور الشمولي لهذا الإصلاح يملي، بالضرورة، الإعلان عن خارطة طريق (وقد طالب حزبنا، على غرار المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي بإصدار قانون إطار)، ومن ثمة التقدم نحو توسيع وتعميم التغطية، وتحسين حكامة القطاع من خلال توحيد أنظمة التقاعد حول قطبين إثنين (قطب عمومي وآخر خاص)، وتحسين خدمات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، ومحاربة مختلف أشكال الانحرافات الاجتماعية لدى بعض أرباب العمل (الذين إما لا يصرحون بالشغالين لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، أو يكون تصريحهم ناقصا)، وإلى جانب كل هذا يتعين الحرص على وضع آليات لتثمين المعاشات الضئيلة.  
إن اعتماد هذه المقاربة سيشكل، في الوقت نفسه، تقدما اجتماعيا كبيرا من شأنه أن يتيح، بصورة مستدامة، تسوية الاختلالات المالية للصناديق المعنية، ويمكن من جعل الإجراءات المعيارية المستعجلة مقبولة.

نحو حذف مساهمة الدولة في أي نظام للتقاعد
يختاره البرلمانيون

في هذا السياق، وبارتباط مع ما يتم التعبير عنه من آراء وتصورات حول موضوع تقاعد البرلمانيين، بادر الفريق النيابي للحزب، فريق التقدم الديموقراطي، بطلب من المكتب السياسي للحزب، إلى تقديم مقترح قانون يقضي، من جملة ما ينص عليه، بحذف أي مساهمة للدولة في تمويل أي نظام للتقاعد يختاره البرلمانيون، علما بأن هذا الإصلاح، على أهميته، لن يكون له إلا تأثير محدود جدا على الإصلاح الشمولي لمنظومة التقاعد، مع التشديد على ضرورة أن يحاط هذا الموضوع بنقاش هادئ ومتزن، بعيدا عن أية مزايدات أو مقاربات شعبوية قائمة على تبخيس عمل المؤسسات المنتخبة والدور الأساس للمنتخبين في تعزيز النموذج الديمقراطي الذي اختارته بلادنا.

دعوة الحكومة والفرقاء الاجتماعيين من أجل عودة سريعة إلى طاولة الحوار الاجتماعي وتوفير الشروط الكفيلة بإنجاحه

وتبقى مسألة الحوار الاجتماعي أساسية لتحقيق التقدم المنشود في هذا المجال، ولذلك ندعو مجددا، وبإلحاح، جميع الفرقاء، من حكومة وباطرونا ونقابات، إلى التحلي بما يلزم من روح الانفتاح والمسؤولية.
فقد دعا حزب التقدم والاشتراكية، وما زال يدعو، بإلحاح، كلا من الحكومة والفرقاء الاجتماعيين إلى التعجيل باستئناف الحوار الاجتماعي والعمل على توفير شروط إنجاحه، وفي مقدمتها إبداء الحكومة للقدر الكافي من الانفتاح على مختلف المطالب المشروعة للشغيلة، واعتماد الفرقاء الاجتماعيين لمقاربات بناءة عبر تقديم بدائل ملموسة واقتراحات واقعية تحقق المطالب العادلة للفئات الاجتماعية المحرومة، وتراعي، في الآن ذاته، الظرفية الوطنية والدولية، والإمكانيات التي يتيحها الاقتصاد الوطني وضرورة الحفاظ على التوازنات الأساس، والدينامية التنموية وتعزيز منحاها التصاعدي، وإنجاز الإصلاحات الكبرى المنتظرة الكفيلة بتحصين النموذج التنموي المغربي وتطويره.

الإلحاح على أهمية دور القطاع العمومي
لقد أعاد المؤتمر الوطني التاسع للحزب، التأكيد، من خلال الوثائق المصادق عليها، على الدور التنموي للدولة، الذي يرتكز على قطاع عمومي قوي يدفع مجموع الفاعلين ــ القطاع الخصوصي، الجماعات الترابية – إلى تفعيل سياسات عمومية موجهة إلى الاستجابة للحاجيات الاجتماعية، والقضاء، أو على الأقل التقليص، من الفوارق الاجتماعية والمجالية.
وإذا كان يجب أن يتبوأ القطاع الخاص المكانة اللائقة به، فإنه يتعين على الدولة أن تحرص على عدم الوقوع في الخطأ الذي وقعت فيه، كما يتجلى ذلك من خلال مشكل شركة “لاسامير”، الذي تجاوز كل الحدود وأدى إلى تعرض الدولة ليس فحسب لعملية ضغط بل ولمحاولات ابتزاز (يجب تسمية الأشياء بأسمائها). موقف الحكومة والدولة كان حازما، صارما وحاسما، والدرس المستخلص يجب استحضاره دوما وإعماله بانتظام، ألا وهو أن القطاعات الاستراتيجية، وخاصة في المجالات التي يعتمد فيها مبدأ الاحتكار ويسود فيها غياب مبدأ المنافسة، كما هو حال شركة “لاسامير”، يجب أن تظل بيد الدولة وألا تخضع لمنطق ونظام الخوصصة. ولعل الجميع يعلم أن أحد المحاور الأساسية لنضالات حزب التقدم والاشتراكية هو قضية الدفاع عن المرفق العام.
وبخصوص قضية التدبير المفوض كنموذج، فنرى في حزب التقدم والاشتراكية أن الدولة عليها أن تحترم التزاماتها وتكون حريصة على وضع دفاتر تحملات متوازنة ومعقولة وقائمة على أسس علمية واقتصادية (غير مختلة)، كما يجب أن تكون لها، فضلا عن الخبرة اللازمة، القدرة على مراقبة الحكامة الجيدة في تنفيذ هذه الدفاتر.. كما أن المشرفين على التدبير المفوض لهذا القطاع أو ذاك يتعين عليهم التقيد بمقتضيات دفاتر التحملات ذات الصلة.

أيها الحضور الكريم؛
كما أكد حزب التقدم والاشتراكية مرارا، فإن أي إصلاح، في أي مجال، لا يمكن تصور إنجازه بمعزل عن الإصلاحات الأخرى، ومن غير جعل الاحتياجات الاجتماعية في صميم كل مشروع للإصلاح، إذ لابد من اعتماد مقاربة إصلاحية شمولية تعطي الأولوية لحماية القدرة الشرائية للمواطنات والمواطنين، وتمكنهم من الولوج إلى الخدمات الاجتماعية الأساسية في ظروف مواتية، وذلك في أفق إنعاش الاقتصاد والتحكم في التوازنات الماكرو اقتصادية، التي لا ينبغي أن تكون على حساب التوازنات الاجتماعية، مما يملي، بالضرورة، الحرص على المزاوجة بين العدالة الاجتماعية والفعالية الاقتصادية، في ظل حكامة ديمقراطية حقيقية تتيح الربط المنصف للمسؤولية بالمحاسبة، وبالتالي المكافحة الفعالة والناجعة لكل أشكال تخريب الاقتصاد الوطني وزعزعة الاستقرار الاجتماعي، خاصة منها الريع والرشوة والفساد والمحسوبية.
وهذا، بالذات، ما كن نعنبه ونقصده عند اختيار شعار المؤتمر الوطني التاسع لحزبنا: “مغرب المؤسسات.. والعدالة الاجتماعية”.
وشكرا، حضرات السيدات والسادة الأفاضل، رفيقاتي رفاقي الأعزاء، على حسن الإنصات.
والسلام عليكم

Related posts

Top