تكاد لا سلطة تعلو على سلطة المؤسسات المالية الدولية على البلدان النامية. وإذا كانت تدخلات المنظمات الدولية من قبيل هيئة الأمم المتحدة وما ينبثق عنها من منظمات ذات الصبغة السياسية والأمنية والحقوقية في شؤون الدول النامية، تمارس من وراء حجاب ووسط سحب كثيرة والتباسات متعددة، فإن تدخلات المؤسسات المالية الدولية من قبيل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية وغيرها كثير، في شؤون هذه الدول تكون سافرة وتتخطى الحدود الحمراء لسيادة الدول، تملي عليها ما تشاء من سياسات وبرامج لاشعبية، حيث رغم ما تثيره تلك السياسات والبرامج من مشاكل اجتماعية واقتصادية، وما تخلفه من قلاقل وعدم استقرار فإن حكومات الدول المعنية لا تستطيع رفضها بدعوى “الحفاظ على التوازنات الماكرو-الاقتصادية”. أما وكالات التصنيف الائتماني المخيفة فلها القدرة الكاملة على خلق مناخ إما إيجابي أو سلبي، يشجع أو ينفر المستثمرين من استثمار رؤوس أموالهم في البلد وذلك حسب تنقيط تلك الوكالات.
في الحلقات التالية تعريف بهذه المؤسسات المالية التي تحكم العالم وتتحكم في رقاب البلدان النامية؟
شعوب العالم الثالث تطلب رأس صندوق النقد الدولي والبنك العالمي
لا تحظى المؤسسات المالية الدولية بسمعة طيبة لدى شعوب العالم الثالث بسبب الأزمات الاجتماعية التي تثيرها بسبب برامجها التقشفية واختياراتها الاقتصادية التي تمليها على حكومات هذه الدول.
فقد فقدت هذه المؤسسات شرعيتها بسبب الفشل الذريع لسياساتها وخياراتها الاقتصادية، ولتدخلها في الشؤون الداخلية للعديد من الدول، مما يثير احتجاج العديد من المنظمات غير الحكومية والحركات الاجتماعية العالمية.
وقد تجاهلت مؤسستا صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في دول كثيرة آراء المنظمات العمالية. في الثمانينات والتسعينيات من القرن الماضي، حيث فرضت برامج للتقويم الهيكلي على الدول النامية كانت لها آثار كارثية على المستويين الاجتماعي والاقتصادي بشكل خاص. وما يحصل عادة هو أن يقوم الإطار بالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي بزيارة الدول التي تسعى للحصول على قروض ويمكث فيها لبضعة أيام للقاء الحكومة ومجتمع الأعمال ثم يعود أدراجه إلى واشنطن على الفور تاركا وراءه الحكومات لتروج شروط القروض “التي تم التفاوض عليها” لدى شعوبها.
وحتى حينما أشارت التجارب إلى أن توصيات المؤسسات المالية الدولية التي تقول بأن “مقاساً واحداً يناسب الجميع” جاءت بعواقب كارثية على الطبقة العاملة والفقراء، حيث تم من أجل تمرير تلك البرامج والسياسات قمع الحركات النقابية التي حاولت أن تجادل في سبيل إيجاد خيار مختلف.
ومن بين ما أقدمت عليه المؤسستان من خيارات فاشلة يمكن ذكر:
– استعمال الديون، خلال الحرب الباردة، لأغراض جيواستراتيجية لدعم حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية. وخاصة الأنظمة الدكتاتورية في بعض الدول وهو ما مكن هذه الدكتاتوريات من تحويل أموال كثيرة لحساباتها الخاصة. ولا زال البنك العالمي يدعم أنظمة مماثلة في مختلف بقاع العالم.
– تحويل ديون الاستعمار إلى ديون في ذمة الدول المستقلة، في خرق سافر لمقتضيات القانون الدولي.
– استعمال جزء هام من القروض الممنوحة من طرف صندوق النقد الدولي والبنك العالمي لتنفيذ سياسات الامبريالية العالمية بهدف السيطرة على ثروات الجنوب: بناء سدود ضخمة، صناعة استخراجية، توجيه الإنتاج الفلاحي نحو التصدير والتخلي على السيادة الغذائية…
– بعد اندلاع أزمة المديونية مع مطلع الثمانينات فرض صندوق النقد الدولي، بدعم من الدول العظمى والبنك العالمي، سياسات التقويم الهيكلي التي أدت تدريجيا إلى تقليص حجم الميزانيات الاجتماعية، متمثلة في إلغاء دعم المواد الأساسية، خوصصة الخدمات العمومية، تحرير الاقتصادات الوطنية والقضاء على المنتجين المحليين أمام المنافسة الشرسة للشركات المتعددة الجنسية، وتطبيق سياسات جبائية خلق تفاوتات اجتماعية خطيرة… مما أدى إلى تفاقم حدة الفقر والمجاعة والبطالة وتدهور الأوضاع الاجتماعية في العديد من الدول.
– مواصلة المؤسستان الماليتان نهج سياسة إنتاج الفقر والإقصاء في الدول النامية، بدل محاربته كما يدعي ذلك البنك العالمي. وهكذا تضاعف عدد الأشخاص الذين يعيشون بأقل من دولار واحد في إفريقيا منذ 1981. وأكثر من 925 مليون شخص في العالم يعانون من المجاعة في 2010، الثلثين منهم يوجدون في سبعة دول هي البنكلاديش، الصين، الكونكو الديمقراطية، إثيوبيا، الهند، أندنوسيا والباكستان . وأما أمل الحياة فقد نزل عن حاجز 45 سنة !
– فرض سياسات وبرامج تقشفية (شبيهة ببرامج التقويم الهيكلي لدول الجنوب) بدول الشمال التي تأثرت بالأزمة الاقتصادية العالمية، وبخاصة إيرلاندا واليونان التي هي على حافة الإفلاس والبرتغال وإسبانيا وغيرها.
– و بالرغم من الخطابات الرنانة والادعاءات الكاذبة في قمم الثمانية الكبار وقمم مجموعة العشرين (G20 ) وغيرها من اللقاءات الدولية كتقليص ديون الدول الأكثر فقرا ورفع حجم الإعانات الدولية للتنمية، فإن ديون دول العالم الثالث في ارتفاع مستمر. كما لم يتم إيجاد مخرج من أزمة الديون. فسنويا تسدد حكومات الدول النامية أكثر من 173 مليار دولار كخدمات دين، وهو رقم يساوي أكثر من ضعف ما تحتاجه هذه الدول لتحقيق أهداف الألفية للتنمية. وبالرغم من تراجع حجم الديون العمومية الخارجية لبعض الدول فإن الديون العمومية الداخلية في تزايد مستمر.
عبد الحق ديلالي