كما كنا قد أشرنا إلى ذلك من قبل، وأبرزه أيضًا آخرون، فإن زمن “كوفيد – 19″، وخصوصا ما بعد هذه المرحلة الصعبة، أعاد إلى الواجهة عددا من القيم والأفكار والتوجهات، والتي هي من المرجعيات الرئيسية في فكر اليسار بشكل عام.
اليوم برزت الدولة على أنها من يقود كامل عمليات مواجهة تفشي الفيروس من خلال المستشفيات العمومية أساسا، وتحضر أيضًا بقوة في مختلف مسلسلات البناء والتدبير للشأن العام في التعليم والدعم الاجتماعي والأمن وتسيير كل المرافق، وبالتالي استعاد مطلب حضور الدولة والقطاع العمومي كامل شرعيته، ولم يعد يستطيع اليوم أحد إنكار ذلك أو رفضه.
“كوفيد – 19″وجه صفعة قوية للفكر الليبرالي والرأسمالية المتوحشة، وكل التوجهات التي كانت ترى في القطاع الخصوصي وعالم المال والمقاولات المنقذ والقادر على تحقيق رفاه الشعوب والدول، سقطت اليوم، وأصيبت يقينياتها برجة مهولة، وحتى كبريات الدول الليبرالية في العالم عادت لتستغيث بمؤسسات الدولة وقطاعها العمومي في هذه الظرفية الصعبة، ولم تستطع أضخم شركاتها العابرة للقارات أن تحميها، أو حتى أن تقدم للعالم صورة إيجابية عن تحضرها.
في بلادنا أيضًا أخرس “كوفيد – 19” كل من كانوا يدافعون عن إبعاد الدولة، وفرض مطلب تقوية حضور الدولة، وخصوصا في القطاعات الاجتماعية والسياسات العمومية المتصلة بها، نفسه، وسيتقوى ذلك ما بعد “زمن كورونا”.
وهذا المطلب يجب أن نقولها علانية وجهارا بأنه كان دائما مطلب اليسار والقوى الديمقراطية والتقدمية، وليس كما يريد البعض اليوم إيهامنا بأن الجميع ينادي بذلك ويسانده.
القول اليوم بأن اليمين مثل اليسار في هذا المطلب هو كذب، والطرفان لم يكونا أبدا في ذات التموقع والاصطفاف، إن في القناعات الفكرية أو في الأطروحات البرنامجية أو أيضا في الموقف من عدد من الاختيارات والبرامج التي اعتمدت عبر التاريخ في بلادنا.
وعلاوة على الدفاع عن القطاع العمومي والمدرسة العمومية والصحة العمومية، وحول تقوية دور الدولة بشكل عام، فإن تحديات مواجهة تفشي الوباء فرضت إعمال برنامج الدعم المالي والاجتماعي للأسر الفقيرة والمعوزة، وهذا أيضًا يحيلنا على الجدل المتصل بالسجل الاجتماعي الموحد، وكيف كانت حينها المواقف، ومن كرس التردد منذ ذلك الحين إلى أن تم تناسي الموضوع برمته، ويريد اليوم الجميع الركوب على الظرفية الصعبة واعتبار الأمر عاديا، ومسح ذاكرة المغاربة لكي ينسوا من كان ضد هذا البرنامج، فقط منذ سنوات قليلة.
ويمكن، في السياق ذاته، استعراض الجدل الذي كان بخصوص ضريبة الثروة، ودور الأثرياء في المساهمة بقوة في تنمية البلاد وإحداث الاستقرار الاجتماعي، كما يمكن استحضار من يرفض دائما الحديث أو الانخراط في أي التزام يتصل بالتضامن الوطني والمسؤولية الاجتماعية لكبار المقاولين والأثرياء.
ولهذا يجب القول هنا والآن بأن قضايا جوهرية مثل: دور الدولة، القطاع العام، المدرسة العمومية، الصحة العمومية، دعم الأسر الفقيرة وتحسين شروط عيش شعبنا، التضامن الاجتماعي، وأيضا قضايا: الحرية، المساواة بين الجنسين، العدالة الاجتماعية والمجالية، تنمية الفلاحة وإحداث الأثر الملموس على حياة صغار الفلاحين وعلى البوادي، حماية البيئة والموارد الطبيعية والمائية، حقوق المستهلكين والنهوض بالطلب الداخلي، تقوية الاستثمار العمومي، تقوية المجالات الثقافية والفنية وتنمية الوعي المعرفي العام لشعبنا، احترام حقوق الإنسان بشكل عام…، هي كلها مطالب وأفكار توجد في عمق مرجعيات اليسار وتاريخه النضالي، وفي صميم انشغالاته وأطروحاته وأدبياته الأساسية، ولا علاقة لها لا بقوى اليمين ولا بأحزاب الريع والتيارات الطارئة والتائهة حوالينا، ولا يحق لأحد ممارسة الخلط على هذا الصعيد.
ومن جهة ثانية، إن هذه القضايا كاملة تسائل اليوم قوى اليسار نفسها، وتضع أمامها تحدي تجاوز الحسابات الأنانية الصغيرة، والقبض على هذا المشترك الفكري والسياسي الكبير، واستثماره لإحداث انبعاث جديد لليسار.
“زمن ما بعد كورونا” هو فرصة لإحداث الرجة وسط حقلنا السياسي والحزبي، ولخلخلة العقول، وبالتالي وقف الحسابات الصبيانية العقيمة، خصوصًا وسط الأحزاب الديمقراطية والتقدمية وذات المصداقية ووضوح الرؤية.
بالإمكان اليوم تحقيق اتفاق واسع وسط هذه القوى حول أطروحة برنامجية ونموذج اقتصادي ومجتمعي تحضر فيه الدولة والقطاع العمومي والاستثمار العمومي، ومن ثم تشكيل امتداد سياسي وفكري ينتصر لهذا الاصطفاف الذي كان دائما يوحد هذه القوى فيما بينها.
وبالإمكان اليوم كذلك الانطلاق من حرص الجميع على حماية البلاد واستقرارها، والاستفادة من درس”كوفيد – 19″ الذي أكد أن فيروسا غير مرئي يستطيع قلب كل المعادلات داخل الدول وعبر العالم في بضع لحظات، وبالتالي فكل الحسابات الذاتية السابقة لم يعد لها مبرر اليوم، ولم يعد مجديًا أيضًا مواصلة السجال العقيم حول حسابات التاريخ وتحديد المسؤوليات وإرضاء نزوات المزاج لدى البعض…
الوقت ليس الوقت، وتحديات المرحلة لم تعد تقبل التفاهات، وهذا الوباء اليوم يجبر الكل على التأمل والتفكير وبعد النظر، ولهذا لا يجب أن يسقط اليسار المغربي بعد زمن الفيروس في تضييع فرصة انبعاثه.
الفرصة اليوم سانحة لحوار سياسي حقيقي وجدي بين مختلف القوى الديمقراطية الحقيقية في هذه البلاد حول المستقبل وشروط إحداث الانتقال نحو منظومة سياسية وحزبية ومؤسساتية تمتلك المصداقية والنبل.
ليحسن الجميع قراءة الدرس وترتيب المهام.
محتات الرقاص