مبدعون يكتبون عن الطفولة والبدايات

ما أكثر المبدعين الذين نعرفهم.. نقرأ لهم، نقرأ عنهم.. أو نلتقي بهم في محافل ومنتديات ونستمع لأحاديثهم.. ونستمتع بالجلوس والإنصات إليهم.. لكن، غالبا ما نجهل حكاياتهم الأولى وظروف نشأتهم وملابسات ارتباطهم بالثقافة والأدب والإبداع… إلا من سجل أو دون ذلك صراحة أو ضمنيا في تصريحات صحفية أو من حاول النبش في “سوابقه” الشخصية فيما يشبه السيرة الذاتية..
في هذه السلسلة اليومية التي نقترحها على قرائنا الأعزاء خلال هذا الشهر الكريم، قمنا باستكتاب بعض مبدعينا وكتابنا لاختراق مساحات الصمت وملئها بمتون سردية تحتل أحياز مشوقة للبوح والحكي.. علنا نسلط بعض الأضواء على “عتمات” كانت مضيئة في زمنها وأفرزت شخصيات وتجارب وربما نماذج يقتدي بها القراء وعشاق الأدب والإبداع..
هذه زاوية، إذن، لتوثيق لحظات استثنائية من عالم الطفولة، تتعلق بالمرور من عالم الطبيعة إلى عالم الثقافة، عبر اللقاء الأول بعالم الكُتّاب أو المدرسة وبمختلف الحكايات المصاحبة: الدهشة الأولى في الفصل.. الانطباع الذي يخلفه المعلم أو “الفقيه” لدى التلميذ.. تهجي الحروف الأولى.. شغب الطفولة وأشكال العقاب المادية والمعنوية.. انتظار الأمهات أمام باب المدرسة.. زمن الريشة والدواة ولطخات الحبر في الأصابع وعلى الملابس والدفاتر.. مقررات الراحل بوكماخ الشهيرة، وغيرها من التفاصيل التي التقطتها تداعيات مبدعين مغاربة، والتي كانت البدايات الأولى التي قادتهم إلى ما هم عليه اليوم والتي بكل تأكيد، ستتحكم، قليلا أو كثيرا، في ما سيكونونه غدا.
إليكم بعضا مما اخترنا لكم من هذه الكتابات العاشقة..

< إعداد: زهير فخري

الحلقة 19

مع الصحافي زهير فخري

إِدَانةُ الْمَلَائِكَةِ.. اِبْتهَاجُ الذِّئْبِ!!

أُسمِّيهِ الخُروجَ الثَّالثَ الَّذِي منْهُ سَأُستدرَجُ صُعُداً مُبتعِداً، نِسبيّاً، عنِ الطَّبيعَة. بِدايةُ تعلُّمِ رَسمِ الْحُروفِ وَتهجِّيهَا وَتأمُّلِ الصُّورِ وَاكتسَابِ الْمَهاراتِ الْجَديدَة فِي المَسْجدِ (الجَامِع) ثُمَّ فِي المَدرَسةِ فيمَا بَعدُ، بَدأ يَأخذُنِي إلَى جهَاتٍ غَريبَةٍ. كانَتْ بِدَايةً لِفكِّ الاِرتبَاطِ الْعُضويِّ بِالأشيَاءِ مِنْ حَولِي (ككُلِّ المُتَعلِّمينَ طبعاً)؛ إذْ قَضيتُ سَنواتِي الْخَمسَ الأُولَى مِثلَ ظَبيٍ مَشدُوداً بحَبلٍ سُرّيٍّ إلَى كلِّ مَا/ مَن حَولِي. الْفِطامُ الطَّبيعيُّ كانَ خُروجاً ثانِياً بَعدَ الخُروجِ منَ الرَّحِم. وَهَذا مُشترَكٌ عامٌّ. لَكنَّ مَا شَوَّش علَى هَذا المَسارِ الطَّبيعيِّ، بالنِّسبَة إلَيَّ، هُو ذاكَ الْفِطامُ الْقسْريُّ الظّالمُ الَّذِي أَبعدَنِي إلَى الأَبدِ عَنِ الْوَالدَة. جَاءَ هذَا الْيُتمُ (مِن جِهةِ الْوَالدَة) وأنَا ابنُ خَمسِ سَنواتٍ، فيمَا الْوالدَةُ، طَابتْ رُوحُها فِي الأعَالِي، لَمْ تَتجَاوزْ، وَقتَها، الثّامِنةَ والثّلاثِينَ. كَانتْ شَمْساً صَغِيرةً أَفُلَتْ قبْلَ أنْ يَنتَصِفَ النَّهارُ. أَطْرقَتْ بِرأسِهَا ثُمَّ أَمْسَكتْ، قَبلَ الأَوانِ، عَن كلِّ شَيْء.. كلِّ شَيْء. أَحيَاناً أَتسَاءلُ: كَيفَ يُرتِّبُ المَوتُ الأَولَويَّاتِ فِي جَدْولِ أَعمَالهِ؟!.. هَلْ صَحيحٌ أنَّهُ “أَصدَقُ الْموَاعيدِ”؟.. هَلْ صَحيحٌ أَنّهُ “يَخبِطُ خَبْطَ عَشْواءَ”…؟ مَوتُها كَان لَحظةً حَاسِمةً أمَامَ جَلالَةِ الْوَالدِ الَّذِي تَدبَّرَ الأَمْرَ بِاقتِدارٍ كَبيرٍ وَبصمْتٍ هَائلٍ. فَمَا كانَ لَه إلَّا أَنْ يَتعدَّدَ إزَاءَ أَطفَالٍ سِتَّةٍ. كَان أَباً وصَدِيقاً وَرفيقاً، كَسَر أَمامَ أَعيُنِنا مَا تَواضَعَ عَليْهِ الْمُجتَمَعُ الذُّكورِيّ إزَاءَ الْعَملِ الْمَنزِليِّ، إذْ بَاتَ يَقومُ بِالأَشغَالِ الْمَنزلِيَّةِ بعدَ انْتهَائهِ منَ العَملِ خَارجَ الْبَيتِ. كَانَ يَكدَحُ فِي الْخَارجِ وَيشْقَى فِي الدَّاخِل، مُحاولاً سَدَّ الفَراغِ الْهَائلِ الَّذِي سَبَّبَهُ مَوتُ الْوَالدَة، وَفي نِيَّتهِ أنْ يُخلِّصَنا منْ أيِّ شُعورٍ بالْفَقدِ. صَارَ الأَمرُ دَأباً جَمِيلاً حَتَّى لمَّا كَبُرنَا. أَصْبحَ الْعَملُ الْمَنزليُّ، فِي الْمِلَّةِ وَالاِعتقَادِ، منْ صَميمِ عَملِ الْجِنسَيْنِ عَلَى السَّواءِ. كَانَ مَا يقُومُ بهِ الْوالِدُ دَرساً مُحرِّراً دُونَ سَابقِ تَرْتيبٍ أوْ عِلمٍ مِنهُ. حَرَّرَنا مِنْ وَاقعٍ نَمَطيٍّ لَمْ يَكُنْ يَرتفِع. طَبعاً لَم يَكنْ مَسنُوداً بِمَبدأٍ رَاسخٍ بِقَدرِ مَا جرَّهُ إلَى ذَلكَ حُكمُ الضَّرُورةِ وَقوَّةُ الأَشيَاءِ. صَارَ اقْتسَامُ الْعَملِ الْمَنزليِّ عَادةً سَلِسةً فيمَا بَعدُ. لمْ يَعُدِ الأَمرُ مُرتبِطاً بحَاجةٍ عَابرَةٍ لَها عَلاقةٌ بنِدَاءِ الغِيابِ، بِقدْرِ مَا بَاتَ أَمراً مَبَدئياً وَمُبرَّرا، إِنسَانيّاً، بِمَوضُوعِ الْمُسَاواةِ بَينَ الرَّجُل وَالمَرأةِ.
الْوَالدُ الَّذِي أُوكِلَ إلَيْهِ تَحمُّلُ كلِّ شيْءٍ كَانَ عَليْهِ أنْ يَصْطَحِبَني فِي أوَّلِ يَومٍ لي بِالْمَدرسَة. كانَ ذَلكَ سَنةَ 1969. أَلْبَسنِي وِزرَةً سَماويَّةَ الَّلونِ بأَزَرارٍ فِي الْجَانبِ الأَيْسرِ. (وأَذكرُ أنَّنِي غَضِبتُ أوْ لَعلِّي بَكيتُ لأَنَّ الطِّفلَ الَّذِي كُنتُه أَرادَهَا بِأزْرارٍ فِي الْوَسَط شَأنَ وِزرَةِ أَخِي مُصْطَفى)، فِيمَا أَخذَتْ أُختِي مَليكَة ذَاتُ الاِثَنتَيْ عَشْرةَ سَنةً والَّتِي كُنتُ أَميلُ إليْهَا، رُبَّما كَردِّ فِعلٍ لاشُعوريٍّ عَلَى فُقدَانِ الأُمِّ، (أَخذَتْ) تَمشُطُ شَعْرِي وَتَمسَحُ وَجْهِي وَأَطرَافِي، (فَالمَقامُ الْجَديدُ منَ الْقَداسَةِ وَعليَّ أَنْ أَدخُلَهُ بَمَا يَليقُ). اصْطَحَبنِي الْوالدُ حَتَّى بَلغْنَا بَابَ مَدْرَسةِ (الْحُطَيئَة) وَانْتَظرْنَا مَع المُنتَظرِينَ إلَى أَنْ فُتِحَ البَابُ. انْحَنَى الْوَالدُ وَقَبَّلَنِي ثمَّ قَالَ لِي مُشجِّعأ: لا تَخَفْ! كانَ يَعلَمُ مِقدَارَ الْخَوفِ الَّذِي كنتُ عَلَيهِ، لَحْظتَها: الْخَوْف منَ الْمَجهُولِ الَّذِي يَنتَظرُنِي وَراءَ الْبَابِ. ورُبَّما كَانَ يَعلَمُ أنَّ الأَمرَ سَيكُونُ، بِالنِّسبَة إلَيَّ، فِطاماً ثَالثاً سَتَتقيَّدُ مَعهُ حُريَّتِي الَّتِي دَرَجتُ عَليْهَا فِي الْبَيتِ والزُّقَاقِ. لَمْ أَعُد أَذكرُ مَتَى وَكيْفَ رُصَّتْ صُفوفُ التَّلاميذِ فِي سَاحَةِ الْمَدرسَة. مَا أَذكرُهُ أنَّ عَامِلاً بالْمَدرَسَةِ أَطلَّ عَلَيْنا مِنْ صُعُدٍ، وَمَا إنْ رَفعَ الْعَلَمَ حتَّى سَارَعتْ جُموعُ التَّلامِيذِ إلَى الْهُتَاف بِالنَّشيدِ الْوَطنّيِّ. عَلِمتُ بَعدَ ذَلكَ بِأنَّ الأَمرَ كَانَ طَقْساً يَترَدَّدُ بِكلِّ الْمَدارِسِ… وَلَمْ أدْرِ إلَّا وَنَحنُ دَاخلَ الْقِسمِ نُنصِتُ بِاندِهاشٍ وَتهيُّبٍ إلَى رَجُلٍ عَصْريٍّ بَدَا مُختلِفاً فِي هَيأَتهِ عَن فَقيهِ الكُتَّاب. كَانتْ هَذهِ أوَّلَ مُلاحَظةٍ لِطفلٍ خَارجٍ للتَّوِّ مِنْ كُتّابٍ تَقلِيديٍّ مِحورُهُ فَقيهٌ عَبوسٌ مَايَزالُ مَاثلاً فِي الذِّهْنِ بِجلبَابهِ الرَّمادِيِّ وَبالعَصَا الْمُلتصِقَةِ بيُمنَاهُ وَالَّتِي كَانَ يَهُشُّ بِهَا عَلى رُؤوسِنَا الطَّريَّةِ، وَبهَا كانَ يَهْوِي عَلَى مَنْ غَفَا أَوْ سَهَا أَوْ لَحَنَ أوْ تلَعثَمَ أَوْ نَسِيَ أوِ ارْتَبكَ.. أَمَّا مَن كَانَ أَلثغَ أوْ بهِ عِيٌّ فَنصِيبُهُ مِنْ شَططِ الْفَقيهِ يَتَضَاعَف(!). كَانَ عُدّتَنَا فِي الكُتَّابِ لَوحٌ خَشَبيٌّ وَقِطعَةُ صَلْصالٍ وَقلَمٌ مِنْ قَصَبٍ (يَراع).. بِهَذهِ العُدَّةِ الْفَقيرَةِ تَمرَّنَتْ أَصابِعُنا الْمُرتَعِشةُ عَلَى الْكِتَابَةِ. كَانَ الْفَقيهُ، فِي الْبَدْءِ، يَسْطُرُ اللَّوحَ بقِصَارِ سُوَرِ الْقُرآنِ مُعتمِداً قَلمَ الرَّصَاصِ، فِيمَا كَانَ عَليْنَا نَحنُ أَنْ نَتقفَّى رَسْمَهُ عَلَى اللَّوحِ بِالْيَراعِ الْمُرتَبكِ بَينَ الأَصَابعِ وَالذِي كُنَّا نَغمِسُه فِي مَخلُوطِ السُّخَامِ وَالصَّمْغِ الذِي كَانَ عَلامَةَ الْفَقيهِ غَيرِ التِّجَاريَّةِ. بَعدَمَا أَصبحَ الْخَطُّ مَكْسَبنَا الْبَاهرَ بَدأنَا نَسْتفرِدُ بِالأَلوَاحِ: نَغسِلُهَا وَنَطلِيهَا بِالصَّلصَالِ ثمَّ نَنشُرُهَا فَوقَ رُؤُوسِنا إلَى أَنْ تَجِفَّ فَنَكتُبَ عَليْهَا مَا يُمليهِ الْفَقيهُ. فِي الْكُتَّابِ تَقوَّمَتْ أَصَابعُنَا وَتشذَّبَتْ. كَانَ الْكُتَّابُ مُبتَدأً أَساسِيًّا لنَدخُلَ الْمَدرسةَ آمِنينَ. وَفِي هَذَا الفَضاءِ الْجَديدِ تَحرَّرنَا منَ الْحَصيرِ الَّذِي وَشمَ عَجائِزَنا وَمِنْ طُقوسٍ حَيثُ الَّلوحُ مِثلُ الطِّرسِ كَانَ عَلَيْنا أَنْ نَسطُرَهُ ثمَّ نَمحُوَه ثمَّ نَسطُرَهُ إلَى أنْ يَرضَى عَليْنا الفَقيهُ. وَبيْنَ الكِتابَةِ والمَحوِ ثمَّةَ حِكاياتٌ أَبطالُها خَيزُرانةُ الفَقيهِ وجُلودُنا… لَمْ أُمضِ بِمَدرسَةِ الْحُطَيئَة إلَّا مَوسِماً وَاحداً، إذْ عَمدَ خَالِي (بُوشعيب مكَّاوِي) إلَى تَسْجيلِي بمَدرَسةِ القَاضِي عَيَّاض الَّتِي كَانَ يُدرِّس بهَا. وَكانَ علَيْنَا أَنْ نَعُودَ لِلسَّكنِ ببَيتِ الجدَّةِ بدَرب السّلطَان (سَاحة السّراغنَة)، البيْتِ الذِّي عَرَف فَرحَةَ زَفافِ الوَالِدَة… بِمَدرَستَيِ الْحُطيئَة وَالقَاضِي عَيَّاض بدَأَتِ الْحرُوفُ وَالْجُمَل تَستَقِيمُ بَينَ الأَصَابعِ بَعدَ اخْتبَارِ الرِّيشَةِ وَالدَّواةِ، وبَدأتِ الصُّوَرُ وَالمعَانِي الْجَديدَةُ الضَّاجَّةُ بِالحَياةِ والْمُلتصِقةُ بِجلْدِ الأَرْضِ تَسْتقِرُّ فِي الرَّأسِ ثُمَّ تتَدَاعَى لِتسْكُنَ في بَهْجَةِ الألوَانِ، بَعَدَ أَنْ كُنَّا فِي الكُتَّابِ، خِلَافَ ذَلِكَ، عَلَى سَفرٍ يَوميٍّ بيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّار. لَسْتُ أَدرِي لمَاذَا لَمْ أَسْتَطعِ التَّخلُّصَ منْ حِكايَةٍ لَا تَخلُو مِن طُرفَةٍ رَغمَ قَساوَتِهَا، رَسخَتْ فِي ذَاكرَتِي كَمَا لَوْ كَانتْ نُقِشتْ عَلَى حَجرٍ: حِكَايَة “مُجْرمٍ صَغيرٍ” زَميلٍ لِي فِي القِسْمِ، كُنَّا للتَّوِّ خَارِجيْنِ مِنَ الْمَدرسَة، فَأرْغَمنِي عَلى أَخذِ مَا بِجيْبِي. تَذَاكيْتُ وَوعَدتُهُ بالتَّريُّثِ قَبْلَ اقتِسَامِ مَا بِحَوزَتِي. ظَلَّ مُلتَصِقاً بِي عَلى طُولِ الطَّريقِ إلَى الْبَيتِ. تَجَاوزْنَا مَسكنَهُ وَلمْ يَيأَسْ. لَمْ أَكُنْ أَعْلمُ أنَّهُ كَانَ يَحمِلُ حَجراً مِنْ بَابِ الاِحْتيَاطِ… لمَّا دَنَوْتُ مِن زُقاقِنَا حَرَّرتُ سَاقَيَّ وَأَطلَقتُهمَا لِلرِّيحِ (فَمَا بِجَيْبِي هُو لِي وَحدِي)، لَكنَّ قُوَّةَ الْحَجَرِ عَلَى رَأسِي الصَّغيرَةِ أَوْقَعتْنِي عَلَى الأَرضِ مُغمىً عَليَّ. فِي الْمسَاءِ أَحَاط بِي إِخوَتِي وَأنَا مُمدَّدٌ وَلَمْ نَكُنْ نَعرِفُ مَا الَّذِي عَلَينَا فِعلُهُ. كُنَّا صِغاراً. اكْتَفَينَا بالنَّظَر إلَى بَعضِنَا وَاحْتَفظْنا بهَذَا الأَلَمِ الصَّغيرِ فِي أَفئِدَتِنا. كَانتْ لِي فِي مَدْرَسةِ الْقاضِي عَيَّاض حِكَايةٌ أُخرَى بَطلُهَا “مُجرمٌ كَبيرٌ”، هَذهِ الْمَرَّة. مُعلِّمٌ خَبيرٌ فِي شُؤونِ الْعِقَابِ. كَانَ اسْمُه (بُوهْلالْ). أَبْحثُ الآنَ عَنْ مَعْنىً لِهذَا اللَّقَب فِي اللُّغةِ، لَكنِّي أَكْتَفِي بمَعنَاهُ فِي الاصْطِلَاحِ لأَقُولَ إنَّ السَّيِّدَ (بُوهْلَال) كَانَ يَضَعُ ضَميرَهُ بَيْنَ هِلالَيْنِ حتَّى يُعفَى منْ أَيَّةِ مَسؤُوليةٍ تَربَويَّةٍ إِزاءَنَا، وَحتَّى يُسَوِّغَ عُنفَهُ غَيرَ الْمُبرَّرِ. مرَّةً نادَانِي فَوقَفْتُ منْ مَقعَدِي مُرتَعِداً، دَنَا مِنِّي وَقالَ: “مْبرّعِينْ سْميَّاتْ!” ثُمَّ لَكمَنِي لَكمَتيْنِ فِي بَطنِي حَتَّى قِئْتُ، هَكذَا منْ غَيرِ سَببٍ! مرَّةً هَوَى بِجُمعِ كَفِّهِ عَلَى ظَهرِي إلَى أَنِ انْقَطَعَ نَفَسِي وَعَرِقتُ. كَانَ يُمكِنُ أَنْ تكُونَ تِلكَ الضَّربَةُ قَاضِيةً وَأَصيرَ أَنَا فِي خَبَرِ كَانَ، لَكنَّ أبَا الْهِلالَيْنِ لمْ يَكُنْ لِيَكتَرِثَ وَظلَّ هَكَذَا معَ ملَائِكةٍ صِغَارٍ مُستفرِداً مِثلَ ذِئْبٍ بقَطِيعِ حِمْلانٍ، إلَى أنْ هَلَّ هِلالُ نِهَايَةِ الْمَوسِم الدِّراسِيِّ. الغَريبُ فِي حِكايَةِ “المُعَلِّمِ” بُوهْلالْ أَنَّهُ صَارَ، فِي مَا بَعدُ، مُحَامِياً(!). أَتسَاءلُ الآنَ كَيفَ سَيسْتَثمِرُ الْبَراءَةَ كَأصْلٍ دِفاعاً عَنْ مُوَكِّلِيه هُوَ الَّذِي لمْ يُبرِّئِ الْمَلائِكةَ؟ يَنبَغِي أَنْ تكُونَ الإِدَانةُ أَصْلاً حتَّى يَنبَسِطَ ذِئبُ الْبرَارِي!…

Related posts

Top