محاكاة الأزمنة ونوستالجيا الألوان بعبق آزمور المعشوقة

هو أيقونة التشكيل الانطباعي بامتياز في فترة الستينبات من القرن العشرين، فنان تشكيلي متميز ومتنوع في ‬الأساليب الفنية التي ‬مارسها خلال تجربته التي ‬بدأت معه منذ سنوات الطفولة الأولى واستمرت حتى مماته، شخصية استطاعت أن تحقق ما تريده وتصر عليه رغم كل العقبات والصعوبات، ‬شخصية واجهت المستحيل لتبوأ لها مكانا بين المشاهير في ‬مجالها سواء على الصعيد المحلي ‬و الوطني رغم أنها لم يعط لها حقها إعلاميا، إنه الفنان التشكيلي المرحوم ” عيسى الجد “، من مواليد مدينة آزمور سنة 1947 و التي ربطته بها علاقة حب و عشق دائم رغم بعده عنها بسبب اشتغاله بمدينة الدار اليضاء حيث وافته المنية سنة 2013، مخلدا اسمه مقرونا بكل صغيرة و كبيرة بها.
كان الراحل عيسى الجد يعتبر أحد أقطاب الفن التشكيلي ورواده في فترة الستينيات من القرن العشرين بالمغرب، والذي لم يحظ قيد حياته بالاهتمام الإعلامي والنقدي اللائقين به.. عيسى الجد نفسه كان فنانا هادئا غير متسرع في اتخاذ قراراته، لكنه سريع البديهة و صاحب النكتة بين أصدقاء دربه من الأستاذ الشيبلي بوشعيب والموسيقار رفقي محمد و محمد المجهد و عبد الله الشوفاني و … يختار طوعا الهامشية ويرفض أن تسلط عليه الأضواء، ربما بسبب اقتناعه الراسخ من أن تسليط الأضواء لا يصنع الفنان ولا يصنع الفن، مما جعل عدد معارضه محدودا، كان أغلبها في الدار البيضاء و الجديدة و آزمور و الرباط، وبتلخيص شديد فحياة عيسى الجد الفنية تتطابق مع حياته الشخصية كإنسان، يحب الرسم و الموسيقى كعازف كمان و عود و مسرحي بامتياز، يقول عنه صديقه الأستاذ محمد رفقي ” ” المرحوم السي عيسى الجد , كان فنانا تشكيليا وكوميديا بامتياز أظهر موهبته مع مطلع الاستقلال حيث بدأ التشكيل والمسرح ابتداء من 1958=59 بدار الشباب حيث أسس جمعية الهلال للمسرح والموسيقى والتشكيل و…كنا نقيم سهرات ثقافية أسبوعية بدار الشباب التي كان يديرها المرحوم الأستاذ محمد بنعيسى البيضاوي قبل أن يلتحق بسلك التعليم…ثم بعد ذلك أصبحنا نقيم السهرات بسينما المنار بعد ما انصهرنا في جمعية الشرف التي كان يترأسها السيد المختار العلوى آنذاك والتي أصبح يترأسها بعده السيد محمد سيلبوهالي… وحيث عبد ربه انفرد بتسيير الفرقة الموسيقية منذ تلك الفترة … ثم بعد ذلك انتقل السي عيسى الجد إلى الدار البيضاء للعمل بمركز التكوين “عين البرجة ” كمؤطر ومصمم تقني في التشكيل والديكور… وقد ترك المرحوم عيسى الجد الكثير من اللوحات المتميزة المنتمية للمدرسة الانطباعية حيث كان ماهرا في تشخيص المناظر الطبيعية والمشاهد الاجتماعية والفولكلورية الأصيلة… والبورتريهات..”.
عندما تتأمل أعماله ترى أن فنانا يحتفي بالطبيعية والإنسان في أسمى تجلياتها، فلوحاته تملاها الألوان و سحر الإضاءة و الظل، عاكس من خلالها ما تراه عيناه في الحقيقية في محاولات للتعبير عن إرث المدينة و مدى عشقه لها، مع أشكال الحياة وما تحمله من قيم إنسانية ومدى علاقة الإنسان بالطبيعة و العادات و التقاليد، بأسلوب إبداعي فني يعتمد فيه على ذاكرته وتجاربه وتاريخه، محاولا إسقاطها على الواقع خالقا بذلك سطوح مغطاة بألوان مختلفة زاهية يجمعها نظام محكم يبث البهجة واللذة البصرية للمشاهد، لم تشكيليا بقدر ما كان حارسا للذاكرة عابرا للأزمنة من خلالها، واعيا بمدى توثيقها لك الأجيال اللاحقة.
استطاع الفنان عيسى الجد أن يقدم لنا ما امتزجت به أحاسيسه كموسيقي و مسرحي ورسام من خلال لوحاته باستعمال الزيت ومواد مختلفة بتقنية عالية خاصة به، للأشكال والشخوص والرموز الواقعية المتميزة بالاختزال والتجسيد الناضج ببهجة الحياة، سيما أنه انفرد بطريقة الرسم المباشر، زاوج بين الانطباعية و التشخيصي، حين كنت تراه يقبع على ضفتي نهر أم الربيع أو فوق القنطرة المؤدية لمدخل مدينة آزمور و فرشاته تغازل اللوحة الموضوعة على مرسمه الخشبي، و لعل لوحته المشهورة ” بانوراما أزمور” أو ” سمفونية المدينة ” كما يحلو للبعض تسميتها، تعتبر من الأعمال التي مازالت شاهدة على ما كان يتميز به المرحوم ” عيسى الجد” من جدية في نقل و تصوير المشاهد، كما يعتبر من أوائل المغاربة الذين قاموا برسم هذه البانوراما الخالدة بعد الفرنسيين، حيث يقول عنه الفنان التشكيلي عبد الكريم الأزهر ” يعتبر فناننا، المرحوم عيسى الجد من أوائل التشكيليين الأزموريين الذين مارسوا التشكيل بحب وعشق كبيرين. وأعتقد أنه أول من ابتدأ بعد الرسامين الفرنسيين برسم المنظر الجميل لأزمور، الذي يعكس صُور وبنايات المدينة على نهر أم الربيع، إلى جانب الفنان بوشعيب خلوق. ونحن في شبابنا، كنا نقف منبهرين أمام لوحته الكبيرة المنجزة بالصباغة الزيتية كجدارية داخل مقهى المراكشي التي تعتبر من أقدم مقاهي أزمور. كنا نسرح متأملين الألوان البنية لصُور “باب الجياف” في الوضع الأمامي وفي الأخير صُور القصبة الذي يبدو صغيرا، وبينهما البنايات السكنية البيضاء، ومن بينها صومعتي مسجدي المدينة والقصبة. رسم الفنان عيسى الجد هذا المشهد “البانورامي” الأخاذ بدقة كانت تجعلنا نتنقل ببصرنا في سحر الضربات اللونية بتقنية تكاد تميل إلى الانطباعية وخاصة بانعكاس كل شيء على سطح مياه النهر بإيقاعية رائعة. ولما أصبحنا نلتقي في معارض جماعية وخاصة في مواسيم أزمور الثقافية، ازدادت المعرفة بحب وإدراك قوي، فكنت أسايره بإصغاء شديد، لأنه حينما يحدثك عن منظر أزمور، تجده يسرد كل التفاصيل وكأنه يعيد رسم المنظر من جديد لدرجة أنه يذكر حتى أصحاب المنازل. يفعل هذا حتى في باقي أعماله بدون ملل. كان رحمه الله رجل إبداع متعدد فإلى جانب التشكيل، زاول الموسيقى والمسرح إذ يعتبر من الأوائل في المغرب من أسس إلى جانب المبدع
المجهد، ثنائيا كوميديا استمتعنا كثيرا بعطاءاتهما في فترة الستينات، تحت اسميهما ” الجد والمجهد”.
إلى جانب أنه كان خطاطا ماهرا بإتقانه للحرف العربي، لقد عاش رحمه الله مخلصا لإبداعه بتعبيراته الصادقة التي حققت إبداعا راقيا، بدافع عشقه الكبير لمدينة أزمور التي كانت تسكن كيانه بحق”

> بقلم: محمد الصفى

Related posts

Top