محمود درويش.. ثماني سنوات في “حضرة الغياب”

وافقت في التاسع من غشت، الذكرى الثامنة لرحيل الشاعر الفلسطيني، محمود درويش، الذي وافته المنية بعد إجراء عملية قلب مفتوح في المركز الطبي في هيوستن، ودخوله بعدها في غيبوبة الى أن قرر الأطباء نزع أجهزة الإنعاش عنه، حيث ووري جثمانه الثرى في 13 غشت في مدينة رام الله.
ولد محمود درويش في 13 مارس 1941، في قرية البروة قرب عكا، وعاش شبابه في أراضي عام 1948، وعرف آنذاك بشاعر القومية العربية.
 وتأتي ذكرى رحيل الشاعر الكبير، في ظل هجمة إسرائيلية عليه، تدلل على عمق العنصرية والكراهية للمثقف والانسان الفلسطيني، كان آخرها، النقد الذي وجهته وزيرة الثقافة الإسرائيلية ميري ريغيف لإذاعة الجيش ، ردا على قيامها ببث برنامج عن الشاعر درويش، وإذاعة قصيدة “سجل انا عربي”، كما استدعى وزير الجيش افيغدور ليبرمان، مدير الإذاعة للتنديد ببث البرنامج.

قضية العرب الأولى ..

وترك درويش بصمات مهمة في القصيدة العربية الحديثة، إذ عبّر بصدق وحساسية عن قضية العرب الأولى، كما كان لأشعاره الوطنية دورها المهم في توضيح أبعاد القضية الفلسطينية على مستوى العالم، من خلال تعبيره الإنساني الرفيع.
تفرغ الشاعر درويش بعد إنهائه تعليمه الثانوي، لكتابة الشعر والمقالات في الصحف مثل صحيفة ‘الاتحاد’، والمجلات مثل ‘الجديد’، التي أصبح فيما بعد مشرفا على تحريرها، وكلتاهما تابعة للحزب الشيوعي الذي كان عضوا فيه، كما اشترك في تحرير جريدة “الفجر”.

المحطة الأولى خارج فلسطين ..

أول محطة لدرويش خارج فلسطين كانت الاتحاد السوفييتي، وذلك عام 1970 بهدف الدراسة، قال درويش: ” أول رحلة لي خارج فلسطين كانت إلى موسكو، أقمت فيها نحو سنة. وكانت موسكو أول لقاء لي بالعالم الخارجي. كانت موسكو أول مدينة أوروبية وأول مدينة كبيرة أعيش فيها. اكتشفت معالمها الضخمة ونهرها ومتاحفها ومسارحها.. تصور ما يكون رد فعل طالب ينتقل من إقامة محاصرة إلى عاصمة ضخمة! تعلمت الروسية قليلا لأتدبر أموري الشخصية. لكن اصطدامي بمشكلات الروس يوميا جعل فكرة “فردوس” الفقراء التي هي موسكو، تتبخر من ذهني وتتضاءل. لم أجدها أبدا جنة الفقراء، كما كانوا يعلّموننا”.

القاهرة … المحطة التالية ..

المحطة التالية لدرويش كانت القاهرة (1970-1972)، وفيها التقى محمد عبد الوهاب، وعبد الحليم حافظ، وكبار الكتاب مثل نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وتوفيق الحكيم، وعينه محمد حسنين هيكل في نادي كتّاب “الأهرام”. كتبت في القاهرة قصيدة “سرحان يشرب القهوة في الكفاتيريا” ونشرت في صحيفة “الأهرام” وصدرت في كتاب “أحبك أو لا أحبك”.

المحطة الثالثة ..

بيروت كانت محطته الثالثة، وعاش فيها من العام 1973 الى العام 1982، ولها مكانة خاصة في قلبه، وفيها فقد أعز أصدقائه، غسان كنفاني وغيره.. وفيها كتب ديوان “تلك صورتها وهذا انتحار العاشق”، وفي بيروت شهد درويش الآثار الايجابية للتفاعل الفلسطيني مع الحياة الثقافية اللبنانية أو التفاعل اللبناني مع القضية الفلسطينية. كمركز الأبحاث الفلسطينية، مجلة “شؤون فلسطينية” ومجلة “الكرمل”.

وينتقل الى دمشق …

انتقل لمدة الى دمشق، ثم كانت محطة تونس، ثم باريس التي عاش فيها عشر سنوات، وبقي متنقلا بين تونس وباريس، ونقلا عن سيرته المنشورة في مؤسسة محمود درويش، يقول درويش: ” في باريس تمت ولادتي الشعرية الحقيقية. وإذا أردت أن أميّز شعري، فأنا أتمسك كثيرا بشعري الذي كتبته في باريس في مرحلة الثمانينيات وما بعدها. هناك أتيحت لي فرصة التأمل والنظر إلى الوطن والعالم والأشياء من خلال مسافة، هي مسافة ضوء. فأنت عندما ترى من بُعد، ترى أفضل، وترى المشهد في شموليته. علاوة على أن باريس جماليا تحرّضك على الشعر والإبداع. كل ما فيها جميل. حتى مناخها جميل. في باريس كتب في وصف يوم خريفي: “أفي مثل هذا اليوم يموت أحد؟”. ومدينة باريس أيضا هي مدينة الكتّاب المنفيين الآتين من كل أنحاء العالم. تجد العالم كله ملخصا في هذه المدينة. وكانت لي صداقات مع كتّاب أجانب كثيرين. وأتاحت باريس لي فرصة التفرّغ أكثر للقراءة والكتابة. ولا أعرف فعلا إن كانت باريس هي التي أصابتني أم أن مرحلة نضج ما تمت في باريس، أم أنه تطابق العنصرين بعضهما مع بعض؟ في باريس كتبت ديوان “ورد أقل” وديوان “هي أغنية” و”أحد عشر كوكبا” و”أرى ما أريد” وكذلك ديوان “لماذا تركت الحصان وحيدا؟” ونصف قصائد “سرير الغريبة”. وكتبت نصوص “ذاكرة للنسيان” وغاية هذا الكتاب النثري التحرر من أثر بيروت، وفيه وصفت يوما من أيام الحصار. معظم أعمالي الجديدة كتبتها في باريس. كنت هناك متفرّغا للكتابة على رغم انتخابي عضوا في اللجنة التنفيذية. وفي باريس كتبت نص إعلان الدولة الفلسطينية. مثلما كتبت نصوصا كثيرة ومقالا أسبوعيا في مجلة “اليوم السابع”. كأنني أردت أن أعوّض عن الصخب الذي كان يلاحقني في مدن أخرى”.

المحطة الأخيرة ..

ثم انتقل درويش الى محطته الأخيرة وهي التنقل بين عمان ورام الله، حيث صدر له: الجدارية 2000، حالة حصار 2002، لا تعتذر عما فعلت 2004، كزهر اللوز أو أبعد 2005، في حضرة الغياب 2006، أثر الفراشة 2008.
صدر لدرويش 26 عملا شعريا، و11 عملا نثريا، وترجمت أعماله إلى 22 لغة.

 واصل الخطيب / رام الله (وفا)

******

محمود درويش.. الشاعر الذي لم يمت حين انتهت حياته

> نعمة عز الدين

يبدو الشاعر الفلسطيني الكبير “محمود درويش” الذي بدا أنه كتب نهايته بيده، في وصية طالب فيها بنزع أجهزة الإنعاش عن جسده العليل، فاحترمها الأطباء في مستشفى “ميموريـال هيرمان” الأمريكية، ليرحل عن دنيانا يوم السبت 9 غشت 2008، بعد إجرائه لعملية قلب مفتوح، في مركز تكساس الطبي كطائر. بدا يحلق طوال الوقت في سماء الوطن فلسطين، يراها من فوق ومن بعيد، فيغرد بصوت حزين باسطاً جناحيه، ليضم أبناءه في صدره، يغني عشرات القصائد بآلاف الكلمات، عن قصة النزوح من فلسطين، أو النزوح من الجنة، كما يراها بعيونه، فيحزن عليه والفلسطينيون بمرارة فيخرج الآلاف لتوديعه حينما وصل جثمانه في 13 أغسطس إلى مدينة رام الله ليوارى الثرى.
يتغلغل في قصائد الشاعر الكبير “محمود درويش”، ضوء الصباح، يتسلل في بطء وسهولة، فهناك طوال الوقت “تقارير شعرية” تحكي ساعة اليقظة، قهوة الأمّ، والقهوة مع الحليب، مع الإعلان عن الحالة المزاجية لكل فعل يقع على أرض الوطن الحبيب فلسطين، فهناك دوماً التعبير عن الغضب، الخيبة، الحبّ، التحيّات فتأتي أبرز قصائده تشي بما يعتمل بداخله: سجّل أنا عربي ووطني ليس حقيبة وأنا لست مسافرا ولا تعتذر عما فعلت.
“محمود درويش”.. المولود عام 1941 في قرية البروة، في منطقة الجليل الفلسطينية، قرب ساحل عكا، يعد أحد أهم الشعراء الفلسطينيين والعرب، الذين ارتبط اسمهم بشعر الثورة والوطن، حيث انضمت أسرته إلى اللاجئين الفلسطينيين عام 1948، لتتحول رحلة الشتات عند الشاعر الكبير، إلى شعر يمزج فيه حب الوطن بالحبيبة الأنثى، متنقلًا بين لبنان وسوريا وقبرص ومصر والأردن وتونس وباريس تائهاً منذ عام 1982، على الرغم من شهرته كشاعر تباع دواوينه في بلدان العالم العربي أكثر من مليون نسخة.
البداية كما ترد في جميع الدراسات النقدية، التي تناولت مسيرته الشعرية، الحافلة، جاءت على يد الشاعر والفيلسوف اللبناني “روبير غانم”، الذي نشر له على صفحات الملحق الثقافي لجريدة الأنوار، التي كان يترأس تحريرها، قصائده الأولى، لينطلق بعد ذلك الشاعر الكبير ويأخذ مكانته المتميزة كشاعر الأرض الفلسطينية، وصوتها المقاوم بضراوة، بجوار قامات شعرية عربية كبيرة، منهم محمد الفيتوري من السودان، ونزار قباني من سوريا، وفالح الحجية من العراق، ورعد بندر من العراق، وغيرهم من أفذاذ الأدب في الشرق الأوسط.
ففي عام 1960، أصدر محمود درويش ديوانه الأول “عصافير بلا أجنحة”، وفي عام 1964 صدر ديوانه الثاني “أوراق الزيتون” وحتى عام 1970، صدرت له مجموعة دواوين هي “عاشق من فلسطين”، “آخر الليل”، “حبيبتي تنهض من نومها”، “يوميات جرح فلسطيني”، ” العصافير تموت في الجليل” و”الكتابة على ضوء البندقية”.
في تلك الفترة عاش “محمود درويش” في “إسرائيل”، باعتباره عضوا في الحزب الشيوعي الإسرائيلي، حياة ثورية تمثلت في أشعاره، التي كان يلقيها في المهرجانات الشعبية، أو ينشرها في الصحف والمجلات العربية الصادرة في “إسرائيل”.
وفي دراسة نقدية متميزة لديوان ” أوراق الزيتون ” للشاعر محمود درويش، قدم الناقد ” كمال ابراهيم” رؤيته وتقديره للشاعر الكبير قائلاً: أهم قصائده في هذا الديوان على قضايا الشعب والوطن، ومن الناحية الفنية لجأ إلى استعمال التعابير المؤثرة، الموحية والقريبة من ذهن الشعب وذلك في أسلوب واضح، إذ أراد أن يكون شعره سهلاً وأكثر شيوعاً على ألسنة الناس إذ يقول محمود درويش في إحدى رباعياته في هذا الديوان:
« أجمل الأشعار ما يحفظه عن ظهر قلب
كل قارئ !
فإذا لم يشرب الناس أناشيدك شرب
قل: أنا وحدي خاطئ !»
ويتابع: من خلال دراستي لديوان ” أوراق الزيتون ” توصلت الى أن أفضل قصيدة يمكن أن تمثل مدرسة محمود درويش الشعرية في تلك الفترة هي قصيدة: “عن الشعر” التي دعا فيها سائر الشعراء إلى الثورة على المضمون والفن في الشعر، وفي هذه القصيدة يقول:
« أمس غنّينا لنجم فوق غيمة
ولبدر قرب نجمة
وانغمسنا في البكاء
أمس عاتبنا الدوالي والقمر
والليالي والقدر
وتوددنا النساء
دقت الساعة ، والخيام يسكر
وعلى وقع أغانيه المخدر
قد ظللنا بؤساء
يا رفاقي الشعراء !
نحن في دنيا جديدة
مات ما فات ، فمن يكتب قصيدة
في زمان الريح والذرة
يخلق أنبياء .
كثيرة هي القصائد التي خاطب فيها درويش الموت ومن مقاطع الحديث مع الغياب الأبدي قال :
أيٌها الموت انتظرني خارج الأرض،
انتظرني في بلادِك، ريثما أنهي حديثا عابرا مع ما تبقى من حياتي
قرب خيمتك، انتظِرْني ريثما أنهي
قراءة طرْفة بنِ العبْد. يغْريني
الوجوديٌون باستنزاف كلِ هنيْهة
حرية، وعدالة، ونبيذ آلهة».

******

محمود درويش في الخامسة والسبعين

منصف المزغني

1
حدث ذات يوم قائظ من صيف 2008 ، كان الخبر يطير من غرفة عمليات القلب في مستشفى .. الى وكالات الأنباء العربية وهذا الأمر لم يحدث إلا مع نزار قباني، وكان الطبيب الجراح عراقياً، من هو؟ لقد خَمٰل ذِكْرٰه بعد أن توقف قلب الشاعر الفلسطيني الأشهر محمود درويش، وفشل في إنقاذه.

2
أتذكرك يا محمود في التاسع من الشهر الثامن، من كل عام، كان الفراق مبكّراً جداً، لقد لاحظت أن الشعراء يموتون في الخامسة والسبعين، كما فعل اللذان من قبلك، نزار قباني (1923-1998) و عبد الوهاب البيّاتي (1926- 1999)، وكما فعل من بعدك شقيق حياتك سميح القاسم الذي مات وهو في الخامسة والسبعين ( 1939-2015) وصديقك المصري عبد الرحمان الأبنودي ( 1938-2015) وهكذا ترى يا محمود أنك غادرتها باكراً قبل 8 سنوات، في اليوم التاسع من الشهر الثامن من السنة الثامنة من الألفية الثالثة بعد ميلاد السيد المسيح عليه السلام.

3
السلام عليك يا محمود ان سنة 2008 هي السنة الثالثة قبل ما سوف يسمى سنة الربيع العربي ( 2011) الذي بدأ بتونس، انطلاقا من مدينة سيدي بوزيد القريبة من مدينة قفصة في وسط البلاد التونسية. آتذكر قفصة التي كرَّمتك واحتفى النقاد والشعراء والجمهور بشعرك.
من مدينة سيدي بوزيد، انطلقت الشرارة من شاب اسمه محمد البوعزيزي، أحرق نفسه، فلم يبقِ ولم يذرْ رئيس جمهورية عربية واحداً مرتاح البال حتى انقلبت الأحوال في تونس وهرب الرئيس زين العابدين بن علي الذي استقبلك ذات يوم في قصره الرئاسي، هرب الى الشقيقة السعودية، ولم يسمعه التونسيون منذ اكثر من خمس سنوات، مما أغرى الممثلين بتقليد نبرة صوته، واستعادته مثل أي حنين.
بعد تونس، يا محمود، طارت شرارة البوعزيزي الى مصر ثم الى ليبيا والبحرين واليمن وسوريا، حتى نسي الناس فلسطين، أو لعلك العرب صاروا يعرفون ما معنى فلسطين بعد أن جاء هذا الربيع، وشبع الناس بالحرية، والديموقراطية، وتنعموا بتعدد الأحزاب، وجاعوا إلى الشغل والتشغيل، وارتفعت أصوات الديموقراطية، وارتفعت الأسعار التي لم يعد احد قادرًا على هزمها أو اللحاق بها، والتحكم فيها حتى أصيبت أغلب الشعوب العربية التي أصابها الربيع بمرض اسمه “الحنين إلى الدكتاتور”، واكتشف الناس أن الربيع العربي كان عبرياً في الصميم، ولا هدف له غير تثبيت الإسلامجيين في السلطة .
هكذا صارت الشعوب العربية تدرك ما معنى فلسطين لأن بلادك التي كانت تسكن وجدان العرب صارت معنى من معاني فقدان الوطن، بل إن بعض بلدان العرب صارت تؤسس غربة مواطنيها، فيها، وصارت فلسطين مفهومة عملياً بعد أن كانت متخيلة نظرياً، وبات من الممكن أن يحيا العربي فلسطينه الخاصة به وهو في موطنه .
تعددت فلسطين، واشتد الحنين إليها. من جراء هذا الربيع الأخرق الذي بات لا يعني الثورة أكثر من أنه برنامج غريب ودكان عجيب لبيع الوهم بالثورة.

محمود إنّ ما أفرزه الربيع هو عودة الإخوان المسلمين من المنافي، لا لاسترجاع فلسطين، ولكن لاستعادة الأمل في الخلافة، والتبشير بالخليفة الجديد الذي أسس في الظلام دولة التنظيم الاسلامي التي تضرب في كل مكان في الأرض، وفي كل دول الدنيا، إلا في فلسطين المحتلة، دولة الكيان الصهيوني إسرائيل.

4
محمود ، سنة 1986 ، كتبت،”على هذه الارض ما يستحق الحياة ” ولعلك قلت العبارة إثر نشوة ما أصابتك بباريس، هذه المدينة التي تبيع شعرك بالفرنسية أكثرمما تبيع من الشعراء الفرنسيين.
لقد أحببت هذه العاصمة العالمية، ومطاعمها، ومقاهيها، وكانت لغة رامبو بعيدة عن لسانك إلا من بعض العبارات الودودة. لقد كانت هذه المدينة مدينة سارتر وكامو وأندريه مالرو واراغون وهنري ميشو.
وهذه المدينة التي أجرى لك فيها الطبيب الفرنسي عملية خطيرة ناجحة على القلب، وفاز عشاق شعرك بجداريتك الشعرية. هذه المدينة العالمية والإنسانية شهدت عمليات شماتة في ثقافتها. وانتقام من جمالها، لا لشيء إلا لأنها مفتوحة للجميع، وتتطلع إلى أن تكون منارة حرية، ومن هذه المنارة، تطلع جماعة من المسلمين يسمون داعش لزرع الرعب والبارود في مدينة الورود.
وثمة من يحسدك يا محمود لا لأنك عشت سنوات في باريس، ولكن لأنك لم تعرف ولم تقرأ ولم تشهد ما فعلته داعش من شنائع في باريس، وفي أوروبا.
أعرف أنك لا تعرف داعش، ولكن القارئ يعرفها، فأنت لن تقرأ رسالتي هذه إليك.يا محمود،باريس هي التي فازت بالنصيب الأوفر من انتقامات داعش، فقد هجموا على مجلة ساخرة وقتلوا فريقها وأسرة تحريرها، وكبار رساميها. وقتلوا الناس في الملعب الرياضي، وأنت تحب متابعة كبريات الفرق الرياضية، وقتلوا ناساً أبرياء يشربون الشاي أو الخمرة في هدوء وسلام.

5
مجلة “الكرمل” التي أسستها أنت وأنهيتَ مهمتها أنت، وكأنك تقول “انتهت المهمة”،
وها نحن يا محمود نشهد سقوطاً حراً للمجلات الثقافية العربية، واحتفاظها البطيء وكأنّ الثقافة العربية تقول عبر وزارات الثقافة:

ليس الآن وقت ثقافة، ولا وقت لمجالاتها، خاصة بعد أن حل الربيع العربي عاري الرأس وبلا ثقافة أو صحافة ثقافية ، فلا وقت لها في زمن الهواتف الذكية.
وَيَا محمود انت لا تعرف الفيس بوك إلا قليلا، فهذا موقع للتواصل الاجتماعي يتكاثر فيه أهل الشعر والتشاعر، وفيه ينسبون لك أقوالاً تعجبهم، ولا يحيلون على المصدر الذي أخذوا منه أقوالاً ليست لك، ولكن هناك قراء يحبونك وينسبون لك ما طاب لهم من أقوال لم تقلها أبداً، ولكن ألفوها، وزفّوها للقراء مشفوعة بصورتك.
المطربون والمطربات الذين كانوا يغنون شعرك، تَرَكُوا شعرك بعد أن تركت الحياة، والنقاد الذين كانوا يتابعونكم شعراً ونثراً أهملوا مدونتك، وانخرطوا في البحث عن رواية جديدة وصاحب جديد فلا وقت للشعر في زمن الرواية .
وأما مؤلفاتك، فإن الناشر لم يعد يجني منها شيئاً كثيراً لأن أعمالك باتت منشورة بالمجان على الإنترنت، ولا عزاء للناشرين الذين يريدون أن يرثوك ميتاً، وأنت لم تترك أولاداً حتى يفهموا في حقوق التأليف العربية المنهوبة مثل فلسطين.

6
ماذا أخبرك ؟
لقد نشروا لك كتاباً جمعوه من مجلة اليوم السابع وهو بعنوان “خطب الديكتاتور الموزونة”، وأنت نشرته في المجلة الفلسطينية التي كان يديرها بلال الحسن من باريس، نشروا لك هذا الكتاب غصباً عنك.
هكذا الشاعر يمكن أن يتحكم في حياته، ويمكن له أن يختار ما يشاء من دواوينه ضمن أعماله الكاملة، ويقصي ما يشاء كما فعلت مع ديوانك الأول: عصافير بلا أجنحة الذي اجتهدتُ طويلاً حتى حصلت على نسخة منه، بعد إقصائك له من المجموعة الكاملة
ولكنك لم تستطع أن تتحكم من وراء الموت في ما يرغب فيه الناشرون الذين لا يعنيهم غير الربح، وحدث ما حدث من أخطاء في كتابك الأخير الذي لم تره عيناك، ( لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي، وعملوا عنك مسلسلاً مرتجلاً سريعاً في ثلاثين حلقة، وتكلمت زوجتك الأولى كما أرادت دون اعتراض منك، وروت روايتها كما اشتهت، وجرت مياه كثيرة تحت الجسر .
جنازتك كانت رسمية جداً، وشعبية جداً، وجثمانك وصل على طائرة من دولة الإمارات العربية المتحدة.
سنوات مرت، وأنت تكبر رغم الغياب وتصل إلى سن الخامسة والسبعين، فسلاماً على روحك، وإلى رسالة أخرى، بلا رد في ذكرى أخرى .
ختاماً،
ضريحك في رآم الله تحفة ثقافية، وقد صار مزاراً، ومكتبة، وأنت مغبوط عليه ومحسود يا محمود.

Related posts

Top