إعتبارا لما تتخبط فيه المؤسسة التعليمية ببلادنا من مشاكل لا تنتهي، رغم الجهود المبذولة من قبل الدولة، واقتناعا من لدن الجميع أن مسألة الإقلاع المعرفي الذي يطمح إليه كل غيور على المصالح العليا لوطننا، هي الركيزة الأساسية لأي نماء وتقدم، وأخذا بعين الاعتبار أن مجال التربية والتكوين هو حقل منتج بإمتياز في المسار التنموي لأي مجتمع، فإن معركة إصلاح المنظومة التعليمية تعتبر أم المعارك، خاصة وان “ميثاق التربية والتكوين” في مادته الواحدة والعشرين تعلن “أن قطاع التربية والتكوين يعتبر أسبقية وطنية بعد الوحدة الترابية”.
ومن هنا، لابد من إقتحام كل المهتمين بهذا المجال وكذا العاملين في هذا الحقل في النقاش الدائر حول العملية التعليمية، وبشكل مستمر، من أجل إغنائه، برأي جريئ لكن بنقد بناء، وبتقويم سليم لكن بإقتراحات ملموسة،ذلك النقاش المراعي للرغبة المتوخاة وإمكانية التطبيق.
وفي هذا الصدد، وإمتدادا للجهود المبذولة من قبل الدولة من أجل تجاوز التعثرات التي تعرقل المسار التنموي للمجتمع، وتخطي العقبات التي تقف حاجزا في وجه الرقي الإجتماعي الذي يطمح إليه الجميع، حيث بادرت الدولة منذ 1957 بتكوين اللجنة العليا للتعليم، مرورا باللجنة الوطنية لإصلاح التعليم سنة 1980، ومحطات أخرى أيضا، وصولا إلى اللجنة الملكية للتربية والتكوين سنة 1997، وبعد إعلان “الميثاق” في مادته العشرين كون عشرية 2000-2009 عشرية وطنية للتربية والتكوين، فإن هذا المبتغى لم يرق بعد على ما ينتظر بلادنا من رهانات وتحديات، وجب التصدي لها بتجنيد كل المجالات والإمكانيات والوسائل ومنها حقل التعليم. وارتباطا بهذا تم إصدار ملخص للتقرير السنوي الصادر عن المجلس الأعلى للتعليم في جزئه الأول تحت عنوان “إنجاح مدرسة للجميع”.
هذا الملخص المتضمن لستة محاور، إذا كان قد تطرق إلى النتائج “الواعدة” التي حققتها المدرسة المغربية رغم وجود “بعض” الإختلالات من قبيل تعميم التمدرس والتكافؤ بين الجنسين في ولوج التربية، وتطور موارد البشرية والمالية، والرفع من التأطير، وتزايد عدد المدارس الابتدائية ، إضافة إلى التطورات التي شهدتها الجوانب البيداغوجية…، فإن رغم هذا، لابد من تسجيل الملاحظات والإقتراحات الآتية:
1- القضاء على الاكتظاظ داخل الأقسام، باعتباره “السكين الحاد” الذي يمزق جسد العملية التعليمية التعلمية في العمق، وذلك بتوفير الموارد البشرية الكافية وبنيات الإستقبال اللازمة، على ألا يتجاوز عدد التلاميذ داخل الفصل 24 تلميذا.
2- وباعتبار المدرس قطب رئيسي في العملية، فلابد من تحفيزه لما يضمن راحته النفسية ويدفعه ويشجعه على العطاء المتميز، في إطار إعادة النظر في منظومة الأجور بالبلاد، إضافة إلى تحديد ساعة العمل بالنسبة له، لما يوفرله الوقت للمطالعة وتحيين المعلومات ومتابعة الإصدارات والتكوين الذاتي.
3- وباعتبار المتمدرس قطب رئيسي والمستهدف في العملية، لابد من مراعاة ظروف التخفيف من ساعات التمدرس حتى يتسنى له إستغلال الوقت المتبقى في التعلم الذاتي خارج الفصل وفي الترفيه لما يتماشى وقدراته.
4- التخفيف من مواد المقرر لما يضمن جانب الكيف، وما يقتضي ذلك من إعادة النظرفي البرامج والمناهج، واستدراك ما اغرقت فيه مادتي الفلسفة والتربية الإسلامية من أعطاب.
5- إعتماد التوقيت المستمر في التعليم من الساعة 8 و30د صباحا إلى حدود الساعة 2 و30د زوالا، مع تقسيم عقلاني لساعات العمل بين المدرسين، ولما يخدم العملية التعليمية. فلم يعد مستساغا ولا مجديا إطلاقا إستئناف العمل بعد الثانية زوالا إلى حدود السادسة المعمول به حاليا، لابيداغوجيا ولاتكوينيا ولاحتى علميا، باعتبار أن عقارب الساعة البيولوجية تصاب بالفتور إبتداءا من المرحلة الزوالية، إضافة إلى طبيعة العمل لدى المدرس داخل الفصل.
على أن يتم استئناف الدراسة من الإثنين إلى الجمعة فقط، مع إبقاء زوال يوم الأربعاء بدون حصص التحصيل، لاستغلاله في اللقاءات الأسبوعية بين جمعية آباء وأولياء التلاميذ وبين المدرسين والأسر، لإشراك هذه الأخيرة في عملية تتبع مسار أبنائها الدراسي والمساهمة في حل المشاكل المطروحة أمام أبنائها، بتعاون مع الأطر التربوية ومتدخلين آخرين حسب الحالات.
6- تزويد النيابات التعليمية بمختصين في علم الاجتماع وعلم النفس، للإسهام في حل مشاكل المتمدرسين المتعلقة بالجوانب الإجتماعية والنفسية وبتشارك مع المهتمين بحقل التربية والطفولة والمراهقة ،و بإنشاء لجن مختصة في ذلك داخل المؤسسات.
7- تجهيز المؤسسات التعليمية بمكتبات ذات الكتب المتنوعة، ومجهزة بوسائل الإتصال والتواصل والمعلوميات الحديثة،وبفضاءات/قاعات كبيرة مناسبة، لإستغلالها، من أجل إكتشاف ميولات التلاميذ ومواهبهم المتنوعة في الجانب الإبداعي والرياضي، واستعمالها كذلك في مناسبات ذات صلة بشؤونهم كاللقاءات الأسرية الدورية وأثناء الحملات التحسيسية والتوعوية وغيرها…
8- إعادة النظر في طريقة إجراء الامتحانات، لما يبعد عن ذهن المتمدرس فكرة الغش بتاتا، ويقوي فيه روح الإعتماد على النفس، تتكلف بها لجن مختصة، وهناك اقتراحات كثيرة إذا فتح النقاش في الموضوع…
9- التخلي نهائيا عما يسمى بـ “الخريطة المدرسية”، لأنها أعدمت في التلاميذ روح المنافسة الخلاقة، وأبعدتهم عن فضاء التحفيز، وألقت بهم بين أيدي الاستهتار بالتحصيل والتكوين والتثقيف، وأجهضت فيهم روح الاجتهاد والمنافسة، وزرعت فيهم الروح الاتكالية وما أفرزته من إبتكار التلاميذ لطرق غريبة وعجيبة في الغش أثناء اجتاز الامتحانات، والمستوى الذي صار عليه التلاميذ حاليا في الثانوي التأهيلي في كل المواد، خير برهان على ذلك.
10- مراقبة حقل التربية والتكوين من لدن ذوي الاختصاص، وعن كثب، من مفتشين ومؤطرين تربويين ومهتمين بمجال التربية، ولكن بطرق حديثة، وبتعاقد بينهم وبين المدرسين، وبوسائل تحفيزية وأدوات ردعية.
11- ولكي تبقى المدرسة المغربية تضطلع دوما بدورها التربوي التعليمي والتثقيفي لابد من إحداث بتواز معها مراكز التكوين، لماذا؟ عندما يتعثر التلميذ في مستوى السادس إبتدائي، وييأس المتدخلون التربويون من قدرته على ولوج المستوى الإعدادي، يجب أوتوماتيكيا إلحاقه بمراكز التكوين حسب قدراته وميولاته، وهناك يتلقى تعليما يستدرك به جوانب أخرى في مساره التكويني ويتم إكتشاف مستواه في مجال معين قصد توجيهه وتأهيليه. وكذلك الشأن بالنسبة للتلاميذ المتعثرين في المستوى التاسع إعدادي. وهكذا نحصل على تلاميذ يلجون المستوى الثانوي مؤهلين من حيث مستوى التعليم والتكوين والثقافة، قادرين على استعاب ومواكبة المواد المقررة في هذه المرحلة الدراسية الهامة في حياتهم، وآنذاك يخضعون لطرق امتحان الكتابية والشفوية، مما سيزرع في التلميذ البحث عن سبل التحصيل الصلب بشكل تلقائي.
12- هنا أيضا لابد من تسجيل ما يخلقه شبح البطالة من الناحية السيكولوجية من إحباط لدى المتعلمين لما يشاهدونه ويسمعون عنه، ولهذا، لابد من فتح آفاق للشغل، لتحفيز المتعلمين على التحصيل الدراسي، ثم ملائمة المسالك التعليمية التوجيهية مع سوق الشغل، وما يتطلب ذلك من استراتيجيات بناءة وفتح أوراش خلاقة لتحقيق ذلك.
13- وهناك مسألة هامة وخطيرة من حيث أهميتها، والتي ضربت هي الأخرى عملية التحصيل في العمق، هي مسألة “التعريب”، وهنا أقترح طرحه لـ “استفتاء شعبي”•
نظرا لما للمسألة من أهمية قصوى في حياة الإنسان، وذلك لتقرر الأسر في مصير أبنائها من حيث مداركهم اللغوية. لأن الجميع اكتشف أوراقه، حيث استعمل كأسلوب مراوغاتي للحد من صلابة التكوين لدى الفئات الشعبية ورسم حد لآفاقها وطموحاتها، وإضعاف مداركها المعرفية.
14- ومادام أن ثمن الإقلاع المعرفي باهض ومكلف ماديا، فلابد البحث عن طرق التمويل حتى لا يثقل كاهل الدولة، وبالتالي يجب أن تتحمل مؤسسات وطنية أخرى عبء المصاريف، ولهذا اقترح إشراك أطراف أخرى على سبيل المثال لاالحصر في عملية التمويل: المكتب الوطني للمطارات، المكتب الوطني للسكك الحديدية، المكتب الوطني للنقل، الأوقاف، الأبناك….
هكذا إذن، بدل امطار المؤسسات التعليمية بمذكرات لاتسمن ولاتغني من جوع ولايمكن لها في أي حال من الأحوال أن تغير من أوضاع التعليم المزرية والمتردية في بلادنا بتاتا، ما دامت لاتضع أصابعها على الجرح وعلى مواطن الخلل في العمق، بدل ذلك، إذن، اعتقد من الأفيد تنظيم لقاءات من طرف الأكاديميات والنيابات مع الأساتذة والتلاميذ بشكل مباشر مسؤول ومنظم، على مستوى كل جهة، لفتح نقاش حول راهن التعليم ورصد حاجياته العاجلة بشكل مدقق وباعتمادات معقلنة، ومساهمة كل هؤلاء باعتبارهم الأقطاب المعنية في العملية التعليمية التعلمية، في رسم الآفاق المستقبلية لهذا الحقل الهام بصيغة ذات طابع ميداني وقابلة للتطبيق، وبلورة الإقتراحات إلى قرارات ملموسة، بعيدا عن الارتجالية وعن الإملاءات الخارجية وعن الأوامر الأفقية.
فيقول الفيلسوف الألماني نيتشيه “إن أعلى ما في الحياة الإرادة”.
هكذا إذن، إذا أردنا إنجاح مشروع “مدرسة للجميع” فعلينا التخلي ولو مرة عن “الأسلوب الفوق” في حل معضلة التعليم، ما دامت أن هذه الطريقة لم تفض إلى أي نتيجة إيجابية، بل أدت إلى هدر الأموال الطائلة للدولة التي أنفقتها ومازالت، على هذا القطاع الحيوي والأساسي في البلاد، لكن بدون جدوى، وإلى هدر للوقت الذي لاينتظر أحدا، وبطبيعة الحال الذي لايتقدم يتأخر، أمام شراسة التقدم العلمي والتطور التكنولوجي الذين يشهدهما العالم. وعلينا التحلي بالواقعية والموضوعية، بعيدين عن كل حسابات ضيقة التي لم يعد لها محل من الإعراب في هذا الكون الذي شهد تغيرات كبيرة على عدة مستويات، في هذه المرحلة التي يجتازها العالم بأسره، وعلينا بالتالي إتباع “الأسلوب القاعدي” لحل هذا المعضلة.
فمدرسة للجميع، نعم، ولكن بإرادة حقيقية ونية حسنة، برؤية نفاذة وتفكير خلاق، بأسس متينة وسبل قويمة، بتكوين صلب وإدراك معرفي قوي، من أجل تحقيق ما نصبو إليه جميعا من تعليم وتكوين قادرين على المنافسة وفي مستوى التحديات والرهانات المطروحة حاليا ومستقبليا.