مشانق مغروسة في الأفق

لطالما كنت دائماً على مسافة عقرب واحد ودائرة وحلم لم أستطع لاختراقه سبيلاً لأتدور هناك كل يوم وأعلق وجهي كضحية باهتة تنظر إلى العمر باستخفاف لكل الذين صعدوا أو انتظروا أن يلتهموا أطرافهم من جديد..

عند آخر الحلم كانت الساعة في منتصفها فينقطع حبل الأمل الذي علقت عليه كل ضحكاتي، وكلما غابت الشمس وطأطأ برأسه قرصها الدوار أو كلما وقعت على الأرض نجمة وماتت أو كلما دُهس حلم على ناصية الوجع أو وئد جنين الأمنية أفرغ كل حمولتي في جوف الأقدار وأعود إلى عبثية الدوار ،حوينها فقط، أقترب بامتثال نحو النافذة وأقتلع الزهرة التي لطالما احتضرت، ثم لفت حولها حبل الحنين المشدود إلى سقف تمنياتي لأتنفس رحيق صمتي بهدوء تام.. فأنا لم أكُن بهذا البرود، لكن لوهلة أصابني في مرحلة ما من حياتي، فالفكرة التي تمشي على الأرض وتجول بيننا مفخخة بطبيعتها تقبل الانفجار وأنا انفجرت فأصبحت أختزِل علاقاتي بعدد أصابعي، لقد قطعت رحلة شاقة مع الراحلين حتى قررت أخيراً أن أستريح مع نفسي، تصالحت مع دواتي وتقبّلت أخطائي واقتنعت بضُعفي، ثمّ مضيت أهوّن على نفسي عناء الهموم وأربّت على أكتافي في لحظات الضعف، فالفكرة التي تمشي على الأرض وتجول بيننا متخمة بالكرامة، ومنتفخة بالكبرياء، ولعلها مفعمة بالتكبر. هي تشعر بالإهانة وتنتقم أحياناً، وتموت جوعاً بيننا فنتلاشى حتى حينَ نسقط فلا ننتظر أحدا أن يساعدنا في النهوض فقد اعتدنا أن ننهض وحدنا ونداري كسورنا، نحنُ الآن نعيش أعلى مراحل النضج ولا يهمّنا سوى راحتنا  لقد تغيّرنا جذرِيًّا وأصبحنا أصدقاء أنفسنا.. أما الأحلام التي تحلق فهي بعيدة عن متناولنا نحن الذين نخون، فتعاقبنا بمزيد من الارتفاع وقد تنتحر قهرا.. لحظة، هل جرب أحدكم يوماً أن يطير؟ أن يحترق؟

نحن ننظر إلى الشمس كل يوم ونغبطها على نورها، ولكننا على الدوام نجبن أمام الاحتراق

المعادلة بسيطة جداً هنا: اعتمر الفكرة وطف حولها لتحترقا معاً، وحينها فقط يتناسل النور، النور ذاته الذي يتغذى على العتمة التي تسكننا..

تبا، أهذي من جديد فقد أصبحتُ أعيش حالة من الصمت، ما عادَ يُزعجني شيء، ما عدتُ أُعاتب أحدا على تصرّفاته، توقفتُ عن الشكوى من الضغوطات مهما بلغَ حجمها، أصبحتُ أتجنّب المناقشات الطويلة واحتفظتُ بتفاصيلي لي وحدي، صرتُ أستقبل كل شيء بهدوء، أصبحتُ شاردة رغمَ تركيزي بمهامي اليومية، تائهة روحي رغمَ حضوري وسط الجميع، لستُ يائسة ولستُ حزينة، أعيش حالة هدوء وصمت داخلية، لقد أرهقتني الحياة بتفاصيلها فلم أجد سوى الصمت يُعبّر عمّا أشعر به.. وتبقى الذاكرة أسيرة الماضي والروح تبحث عمّن يحتويها، غباء منا سجنّا التفاصيل في ذاكِرتنا للأبد وليتنا نستطيع إطلاق سراحها فترتاح هي ونرتاح نحنُ أيضاً..

مرّت سنوات عِدّة ولازالت ألف ذكرى وشعور يؤلمني، لازلتُ أسأل نفسي يوميًّا: كيفَ هُنتُ وهانَت أحلامي على الزمن؟ مازلتُ أشتاق لتفاصيل ذكرياتي التي خططت لها، مازلتُ أحِن لضِحكة ارتسمت يوماً على شفاهي، مازلتُ أفتقِد كل كلمة وحديث دارَ بيني وعقلي، مازلتُ أبحث عن سبب حقيقي أقتنِع بهِ، كيفَ وصلت إلى النهاية، كيفَ انتهت سنين الحلم بسهولة؟ مرّت السنوات ومازلتُ لا أدري كيفَ السبيل للنسيان، لقد تركت ندبةً في صدري جعَلتني كلما أوشكتُ أن أطمئن لحلم يأكلني الفزَع..

فصرت متعبة أنا من الماضي، مضى وبقيَ راسخا في عقلي ويبدو فعلا أنّ هناك ثقبا ما في قلبي تسرّبَ منهُ تعبي..

فخورةٌ بنفسي لأنني قضيتُ حياتي أسعى بطريقة ما إلى الوصول في النهاية لحياة مسالمة، لم أنوِ أبداً وأنا في طريقي أن أخدُش أحدا أو أسيء إليه ولا أسمح في المقابل أن يُزعزِع أحد أمان خطوات كلماتي الهرمة، التي ترفض الاعتراف بقدر لا يشبه أحدا.

فخورة بنفسي وكفى لأنني كنتُ طِوال حياتي أنا، بصورتي العادِيّة الغير مُبهِرة، لم أتصنّع الكمال يوماً بقيتُ بعفوِيّتي، صريحةٌ بأفكاري ومخاوفي، صادقة بمشاعري لم أخدَع أحداً، كنتُ دوماً أعرف من أكون لكنها الحياة غير عادلة وأنا لا زلت هنا منذ آخر مرة شعرت بيدي، يدي التي اتكأت على كلمات مشبعة بالأفكار المبللة حد الغرق..

وكأن الليل قد قال كلمته الأخيرة، غير آبه لتلك المشانق المغروسة في الأفق، وكأنه يستخف بمصيره المحتوم ذات صباح..

ترى، هل يعلم الجلاد أن الموت اليومي يفقد الكثير من رونقه ويتراخى الماضون إليه بتهمة التكرار؟؟ ألا يحق لي الولادة مرة واحدة؟ لمرة واحدة فقط وبعدها لا يحملني غياب ولا يحضنني تراب؟ حلمي أن يبقى لليل أفياء تضيئ، وفي النهار باحات مظللة بالعتم المعتق، إن الحياة لا تطاق بلون واحد لا تقلقها جغرافيا الوجوه ولا تاريخ الأجساد، فيا ليل لو أنك تواضعت قليلاً.. شتّان بينَ من يخوض الحزن معنا، من يأخذ بيدنا ويفعل المستحيل من أجل أن يعيد لنا ابتسامتنا من جديد ويبقى قربنا حتى نعبُر سوِيًّا إلى بر السعادة والأمان، وبينَ من ينتظرنا على الضفّة الأخرى ليُخبرنا بعد أن نتعافى أنه كانَ يتذكّرنا، ويتمنى لنا الخير، نحنُ لا نغيّر أماكن من نعرفهم في قلوبنا، هم من يفعلون ذلك..

حسناً يا سادة،

هو الأرق مجدداً الذي تنفثه شفاه الألق من حولنا، كسحب غليظة من الدخان يذهب ويجيئ ويصعد ويهبط ويقفز ويحبو ويمشي ويركض ثم نوبة من الركود تشبه موسيقى بيدين.

هذا الدخان الذي أبتلعه الآن نيابة عن كل جائع، وأخرجه من دوائر مجهولة الهوية والنسب، هل علمت يوماً عن نوتة تحمل حضناً كبيرا..

أنا لم أشرب الكحول يوما، ولكني أغازل اللغة الآن كي تنجبني من جديد.

لقد أعددت كل شيء، مزجت الأضواء، وأطعمتها للجدران الجائعة، ثم صففت شعر الوردة التي أحبها، واندملت على خد أمنية يقتلها سرير لم يهدهد له أحد، وغفوت بكثير من الطمأنينة البلهاء، التي تخنق الفكرة دون أن تعلم، ودون آن نعرف بأن الأمان المراوغ قد غيبنا مرة جديدة، وأن ذاك لم يكن رحماً بقدر ما هو أنبوب من الزجاج على طاولة، ولذلك اسمعيني جيدا أيتها الأيام، كما تسمعنا الآن تلك القذائف وزخات الرصاص التي تمخر عبابنا، وتغتال يقظتنا وغفوتنا أيضاً، ها أنا أضع صوتي أمامي وهو يقول: أنا مستعد تماماً لمقايضة واحدة، خذي آيتها الحياة خاصرة القصيدة ودعي لي عنقك الطويل..

وحين أحسَستُ في النهاية أنّي سعيدة بكيتُ، لا أدري أيبكي الإنسان في نهاية المطاف لأنه نال السعادة أخيراً؟ أم يبكي لأنه مرّ بالكثير من الحزن قبلَ أن يصل؟

ثم ماذا؟؟                                                                             

مفجِعة تلكَ الأوقات التي ندرك فيها أنّ جميع الأحلام التي أقسمت لنا بالبقاء قد رحلت .

مفجعة تلكَ الأوقات التي ندرك فيها أنه لا عادَ للآمال في حياتنا وجود وأنها غادرتنا قبل رؤيتها لمكانتها في قلوبنا..

فسلام لي..

ولضجيج حرفي ..

وللطريق التي تأخذني إلي دون هوادة..

بقلم: هند بومديان

Related posts

Top