يشكل مشروع قانون التحكيم والوساطة الاتفاقية في الفترة الراهنة أحد أهم الدعائم الأساسية للاقتصاد ببلادنا، خصوصا في مجال جذب الاستثمار الأجنبي وتشجيعه من خلال العمل على توفير بنية قانونية قادرة على الاستجابة لرهان الملائمة للمستجدات التي أصبحت تعرفها التجارة الدولية.
لذا فمجرد الحديث عن مشروع قانون خاص بالتحكيم، فهو بدوره يجسد قفزة نوعية في مجال الارتقاء بعجلة الاقتصاد الوطني إلى مصاف العالمية.
مشروع لم يكن وليد اللحظة، بل أتى كنتيجة حتمية للعديد من المحطات الأساسية التي ساهمت بالأساس في رسم واغتناء الأبعاد القانونية لهذا المشروع، بدءا من الشكل النظامي الذي كان عليه أول مرة في ظل قانون المسطرة المدنية لسنة 1913 ، مرورا بالتعديل التشريعي لسنة 1974 ، قبل أن تتعرض أحكام هذا الأخير إلى النقد بسبب عدم انفتاح أحكامه بما فيه الكفاية على التحكيم الدولي، لذا أضحت ملائمة التشريع المغربي في مجال التحكيم مع المبادئ الدولية في التحكيم ضرورة ملحة استلزمت معها إصلاحا تشريعيا عجل بصدور قانون رقم 05-08 المغير بموجبه الباب الثامن من القسم الخامس من قانون المسطرة المدنية، والذي أتى بهدف تزويد المنظومة القانونية المغربية بالأدوات الضرورية لتطبيق القرارات التحكيمية وإدخال شكل جديد من التسوية البديلة للنزاعات وهو الوساطة الاتفاقية .
لكن نظرا للتطور الاقتصادي الكبير والسريع الذي أصبحت تعرفه بلادنا في السنوات الأخيرة، بشكل أضحت معه ضرورة ملائمة المقتضيات القانونية للتحكيم مع المستجدات التي أصبحت تعرفها التجارة الدولية أمرا ملحا، وكذا بالنظر للعديد من المرجعيات الأساسية التي تشكل خريطة الطريق ونقطة انطلاق من بينها التعليمات الملكية السامية الواردة في الخطاب الملكي ليوم 20 غشت 2009 ، والذي أكد فيه جلالته على ضرورة تطوير الطرق القضائية البديلة كالوساطة والتحكيم والصلح، أضف إلى ذلك التوصيات التي خلص إليها ميثاق إصلاح منظومة العدالة بخصوص تشجيع اللجوء إلى الوساطة والتحكيم والصلح لحل النزاعات، من أجل الانفتاح على مشروع قادر على تحقيق طموحات المستثمر الأجنبي وكذا تشجيع الاستثمار الأجنبي .
لذا فصدورمشروع قانون التحكيم والوساطة الاتفاقية بهذا الزخم التشريعي، الذي حاول من خلاله المشرع استدراك مجمل النواقص والشوائب التي تخللت ثنايا فصول القانون المنظم للتحكيم والوساطة الاتفاقية رقم 05-08، والانفتاح على رؤية جديدة وفق منظور جديد، سنحاول من خلال هذه القراءة المتواضعة الوقوف على أهم المستجدات التي حملها هذا القانون في طياته، من خلال قراءة ثنائية همت بالأساس الجانب الشكلي (أولا) والموضوعي (ثانيا).
أولا:من ناحية الشكل
– تأتي في مقدمة الملاحظات الشكلية التي يمكن إبدائها بخصوص هذا المشروع، هو انفصال المقتضيات القانونية المنظمة للتحكيم والوساطة الاتفاقية عن قانون المسطرة المدنية، وهو مايشكل بدوره استجابة والتفاتة تشريعية للنقاش الفقهي الذي لطالما حث على ضرورة تنظيم وتجميع النصوص القانونية لنظام التحكيم سواء التحكيم الوطني أو الدولي وكذا الوساطة الاتفاقية في قانون موحد شامل وجامع .
– وفي إطار الملاحظات الشكلية أيضا، ينبغي الإشارة إلى تضخم عدد الفصول من 91 فصلا في ظل قانون التحكيم والوساطة الاتفاقية الحالي إلى 104 مادة في ظل المشروع، وهو بالمقابل تضخم أتى ليراعي خصوصية الأقسام الثلاث التي حملها المشروع في طياته، بين قسم احتل العتبات الأولى ليخصه أعضاء لجنة المشروع ( للتحكيم ) وبين أخر (للوساطة الاتفاقية )، وآخر ثالث تضمن أحكاما اتفاقية تم الاحتفاظ في ظلها على الطرح الذي تضمنه الفصل 327-70 فيما يخص عدم تنافي مقتضيات هذا الباب أو القانون، كما أصبح عليه الآن في ظل المشروع مع كل الإجراءات المتعلقة بتسوية بعض النزاعات التي جاءت في قوانين خاصة، بالإضافة إلى زيادة في عدد فصول هذا القسم بثلاث مواد منها، ماهو مخصص للحديث عن كون الآجال الواردة في هذا القانون هي أجال كاملة، ومنها ما هو متعلق بحالات تطبيق القانون الحالي بشكل انتقالي، وكذا ما خصص منها لتحديد المجالات القانونية محل نسخ هذا القانون.
ثانيا:من ناحية الموضوع
إذا كانت من بين أولى المستجدات التي أبان عنها أعضاء لجنة المشروع في ظل مذكرة التقديم هي كالاتي:
التوجه نحو إضفاء طابع الاستقلالية والخصوصية على آلية التحكيم من خلال تبني خيارعدم إخضاع المحكمة لرقابة جهاز النيابة العامة، والتي تفيد في ظل المرجعية القانونية للتحكيم الحالية (قانون 05-08 ) ما يعرف بالتصريح لدى السيد الوكيل العام للملك من قبل الأشخاص الراغبين في ممارسة المهام التحكيمية بالمغرب، من خلال التوجه الذي أبان عنه مشروع قانون التحكيم والذي سرعان ما استجاب للإشكاليات التي لطالما إثارتها مقتضيات الفصل 321 لكن ليس بالإلغاء التام للرقابة القبلية للقضاء، وإنما بالإعلان عن الجهة الجديدة صاحبة الاختصاص والمستفيد بالدرجة الأولى من هذا التصريح ألا وهو الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف عوض جهاز النيابة العامة .
الجدير بالملاحظة بخصوص هذا المستجد، أن تبني أعضاء اللجنة لهذا التوجه يعتبر صائبا، لأنه حسم بالمقابل في النقاش الفقهي الكبير الذي أبان عن معارضين كثر لهذا الفصل، نظرا لكونه يجعل رقابة القيام بوظيفة التحكيم لجهاز النيابة العامة البعيدة كل البعد عن وظيفة التحكيم الاختيارية، مما يشكل بدوره ضربا صارخا لحرية الأطراف في اختيار المحكمين .
إذا كان الموقف التشريعي بخصوص الجهة التي أناط بها المشرع في ظل القانون الحالي رقم 05-08 صلاحية البث في طلب تذييل الحكم التحكيمي بالصيغة التنفيذية يتخلله نوع من الغموض واللبس، بحيث نجده تارة يتحدث عن رئيس المحكمة التجارية هو المقصود في هذا القانون (الفصل 312) ، بينما نجده تارة أخرى يتحدث عن رئيس المحكمة المختصة، فانه بالمقابل قد أبان المشروع عن رؤية واضحة المعالم بخصوص هذه الجهة من خلال إسناده الاختصاص لإضفاء الصيغة التنفيذية على الأحكام التحكيمية بناء على معيار موضوعي يتعلق بموضوع النزاع ( رئيس المحكمة الابتدائية أو رئيس المحكمة الإدارية أو رئيس القسم المتخصص في القضاء الإداري بالمحكمة الابتدائية ، أو رئيس المحكمة التجارية، أو رئيس القسم المتخصص في القضاء التجاري بالمحكمة الابتدائية )، مما سيؤدي بدوره إلى الحسم بشكل لارجعة فيه في الإشكال الذي كان يثير مفهوم “رئيس المحكمة” .
ليس هذا فقط ، بل من أجل ايضاح الرؤية التشريعية بخصوص الغموض والبس الذي تخلل بعض المقتضيات القانونية للتحكيم في ظل القانون الحالي ، قد استطاع المشرع في ظل المشروع الحسم في الإشكال الذي لطالما أثارته مقتضيات الفقرة الأخيرة من الفصل 310 من خلال منح صلاحية التذييل بالصيغة التنفيذية لرئيس المحكمة الإدارية أو رئيس القسم المختص في القضاء الإداري بالمحكمة الابتدائية الذي سيتم تنفيذ الحكم التحكيمي الوطني في دائرتها وذلك بدل مصطلح “المحكمة الإدارية” ، أو لرئيس المحكمة الإدارية بالرباط عوض مصطلح “المحكمة الإدارية بالرباط ” عندما يكون تنفيذ الحكم التحكيمي يشمل مجموع التراب الوطني، وهذا بحسب ما أبانت عنه مذكرة التقديم قد أتى بهدف توحيد جهة الاختصاص المانحة للصيغة التنفيذية في شخص رئيس المحكمة كل بحسب اختصاصه .
وفي إطار الحرص على تعزيز الضمانات القضائية على مستوى أحد أوجه الرقابة التي يمارسها القضاء على التحكيم من خلال البث في طلب منح الصيغة التنفيذية للأحكام التحكيمية، كان من بين أهم المستجدات التي أتاه المشروع النص على إجراء منح الصيغة التنفيذية في إطار”مسطرة تواجهية” في جميع الأحوال سواء كان التحكيم وطنيا أودوليا، وذلك من خلال ما أتته مقتضيات الفقرة الأولى من المادة 65 من مشروع قانون التحكيم والوساطة الاتفاقية بنصها على أنه: ” لا ينفذ الحكم التحكيمي جبريا ……. في إطار مسطرة تواجهية “، وكذا مقتضيات الفقرة الأخيرة منها .
– أما فيما يخص الشق المتعلق بالتحكيم الدولي، فقد استهلته لجنة المشروع بمستجد يروم الى التراجع عن التعددية على مستوى المعايير المعتمدة لتحديد دولية التحكيم، والتي قد حددها المشرع المغربي وفقا للمادة الأولى من القانون النموذجي الذي وضعته لجنة القانون التجاري الدولي التابعة للأمم المتحدة (unistral) ، في مقابل انفتاح المشروع على المعيار الموضوعي كأساس لتحديد دولية التحكيم، وهذا ماكرسته مقتضيات المادة 70 من المشروع بنصها على أنه : ” يعتبر دوليا، حسب مدلول هذا الباب، التحكيم الذي يتعلق بمصالح التجارة الدولية والذي يكون لأحد أطرافه على الأقل موطن أو مقر بالخارج “.
وفي إطار التحكيم الدولي أيضا، ومن أجل استكمال مشوار توحيد جهة الاختصاص المانحة للصيغة التنفيذية في شخص رئيس المحكمة كل بحسب اختصاصه، توجه المشروع نحو الحسم في إشكالية الاختصاص بإعطاء الصيغة التنفيذية بالنسبة للأحكام التحكيمية الدولية سواء الصادرة في المغرب والتي يتم انعقاد الاختصاص للبث فيها لرئيس المحكمة التجارية أو لرئيس القسم المتخصص في القضاء التجاري بالمحكمة الابتدائية التي صدرت في دائرة نفوذهما تلك الأحكام (الفقرة الثانية من المادة 77 )، أو تلك الصادرة خارج المغرب بحيث ينعقد الاختصاص لنفس الأشخاص لكن باختصاص مكاني أخر (التابع لهما مكان التنفيذ ) (الفقرة الثالثة من نفس المادة )، لكن إذا صدرت هذه الأخيرة في مادة إدارية فالاختصاص المكاني يبقى نفسه لكن الأشخاص تختلف فتصبح رئيس المحكمة الإدارية أو رئيس القسم المتخصص في القضاء الإداري بالمحكمة الابتدائية .
هذا وتجدر الإشارة هنا، إلا أن استقرائنا لمضامين النصوص المؤطرة لهذا المشروع خصوصا في الشق المتعلق بالتحكيم توصلنا إلى نتيجة أساسية مفادها:
– أولا: أن وعي المشرع بكون التحكيم ليس بمسطرة خاصة فقط ، كما هو عليه الآن في ظل قانون المسطرة المدنية ضمن القسم الخامس المخصص للمساطر الخاصة، وإنما هو ببديل عن القضاء الرسمي وعن المسطرة القضائية قد بات واضحا ولعل الدليل على ذلك هو أفراد هذه المؤسسة بقانون خاص .
– ثانيا : أن المنظور الذي أعد وفقه هذا القانون بعيد كل البعد عن الطرح الذي هي عليه الآن نصوص القانون رقم 05-08 لا سواء فيما يخص التعديلات الجوهرية التي أبانت عنها مذكرة التقديم بشكل مفصل ولا سواء من ناحية الصياغة البناءة التي طالت العديد من المواد القانونية منها ماهو مخصص لإيضاح الرؤية التشريعية بخصوص بعض المفاهيم التي كان يشوبها الغموض واللبس (رئيس المحكمة – المحكمة الإدارية ..) وكذا بعض الصياغات المعيبة للنصوص التي كانت تخالف روح مؤسسة التحكيم، كلها أبعاد تعكس في طياتها عمق هذا البعد التشريعي ورهان ملائمته للمستجدات التي عرفتها التجارة الدولية.
بقلم: ذ.حمزة التريد
باحث بسلك الدكتوراه بكلية الحقوق بفاس