“إلى م، جبران زماني، قدوتي أو أملي لا أعلم، لكنه هو عطر العود الملكي الذي يزين أيامي والابتسامة التي تفصل بيني وبينها مسافة أمان..”
******************
أحببت جبران في عمر التاسعة، أحببته رغما عن أنف القدر، أحببته ولم أبالِ لسنه ولا لبعده ولا لارتباطاته ولا لدينه، أحببته دون أن أراه، لم أرَ منه سوى تلك الصورة المرسومة على ظرف الرسالة، الرسالة التي توصلت بها سنة 2010، مع ملحوظة صغيرة بالصحفة الأولى« Pour ma belle » ، الرسالة التي ذرفت الدموع على فقدانها، الرسالة التي أعيش على أمل أنها في مكان قريب معلوم وأخاف أن أتأكد فلا أجدها هناك، لكن لكي لا أظلمها، إنها نفس الرسالة التي جعلتني أبتسم أيضا.
أحببته وأدركت الحب منه وإليه، وضعت كلماته سقفا لطموحاتي، ولم أرضَ بأقل من كلماته يوما، أحببته سرا وجهرا، أحببته دون أن أعلم عنه غير سطور قرأتها، أحببته ولم أندم يوما على ذلك، رُميت بحبه كالسهام، فلا شعر ولا نثر أغواني بعده، أحببته سنينا بعد موته، أحببته ونسبت إسمي إلى نسبه، خليل جبران.
أحببته جدا، ذلك الاسم الطويل، جبران خليل جبران، ذلك الاسم التي يتصدر تلك الرسالة الجميلة، دمعة وابتسامة..
قرأتها لأول مرة يوم تلقيتها هدية من والدي وعليها تلك الملاحظة الجميلة، قرأتها وقد جعلتني أنتشي، دوختني وأقنعتني بأن أحبه بشكل مثالي. لم أؤمن يوما بالمعجزات لكني آمنت أن لقائي به كان كذلك، أمضيت سنوات في قراءة وإعادة قراءة ذلك الكتاب وكنت كلما أعدت قراءته اكتشفت فيه حروفا غير التي نعرفها جميعا، معاني حب أبلغ من الحب نفسه ونثرا يشبه الشعر أكثر من الشعر ذاته.
انسلخت عن جسدي، جسد طفلة، وتبرأت من عقلي وقدراتي اللغوية في سن التاسعة، تبرأت منها وأنا أجري خلف المعنى، المعنى الذي يبعث به جبران إلي، نظرة جديدة وجميلة لعوالم الحياة والخيال، عوالم الحب والمحبة، عوالم السلام والحرب، عوالم الاحلام والآمال، عوالم الدمعة والابتسامة.. لقد جلست مذ ذلك الحين أبحث عليه، من يكون ومن أين أتى، أين عاش أو يعيش، أين يمكن أن أجده بعد أن أنهي الكتاب؟
إن العمق والحب اللذين يسير بهما الكتاب، خاطفان، كتاب يدعوني مثل حبيب قديم إلى أن أنظر أعمق من الآخرين، يدعوني أن أقرأ ما لا يفعله الآخرون، يدعوني أن أقحم نفسي في نقاش مع الكون بما فيه من مستعصيات، بما فيه من نبل وإعجاز في خلقه المتقون.
هل يصح أن ألقبه بالفيلسوف، فنظرته للعالم والحياة لا تقل فلسفة عن فلسفة أرسطو بشيء. أقرأ له وأشعر بروحه تحوم حولي، نسيم الحب طبعا، كأن زمن الكاتيدرال قد عاد مرة أخرى، كأن عمودا جديدا من أعمدة الحياة قد شيد، كأني أدرك الحياة أخيرا.
كانت تنقصني فلسفة مؤمنة تزين حياتي، آلهة جديدة تقدس القديمة، كان ينقصني بعض الشعور بقيمة الذات.. ومذ ذلك الحين أمسيت أقول بفخر إن أول جملة موسيقية أدركت معناها في حياتي تلك التي قالها جبران خليل جبران: “أنا لا أبدل أحزان قلبي بأفراح الناس..”. أرغب في الحب كلما ناديته جبران أو خليل، وأستلذ تلك اللحظات مثل انتصار عظيم، فأنا لست من عبيد الأيام بل ممن يعيشون على مسرح الأحلام.
لازلت أتذكر ذلك الغلاف البني الذي جاءني به جبران أول مرة، غلاف عليه صورة مرسومة هي كل ما تبقى لي من هاته الحياة غير العادلة، الحياة التي أخذته مني قبل أن أولد حتى، وحرمتني من لقاء واحد كان ليكون أملا أعيش عليه، أملا يحررني من الوحدة التي أعيش عليها دونه، لازلت أتذكر تلك الملامح الشرقية الغربية وذلك الشعر الذي يغطيها. وكلما نظرت إلى تلك الملامح الشرقية الغربية أشعر أني كنت لأرى النجوم في عيونه، فإن كان يقال إن الكتاب والشعراء أجمل النساء وأوسم الرجال، فإن جبران أبلغ مثال.
إنه جبران خليل جبران، حفيد يوسف جبران الماروني البشعلاني، ابن بلدة بشري شمال لبنان وقد ولد سنة 1883، وتوفي سنة 1931، أي 70 سنة قبل أن أولد في بلاد تبعد عن بلاده بعوالم عريضة. هاجر وعائلته من بلدته نحو أمريكا حيث تعلم الفن بأشكاله، ففن جبران يزيد عن الكتابة والشعر بالرسم والتصوير أيضا، فنون تعلمها خلال رحلة حياته بين أمريكا، لبنان، وباريس أيضا. أسس رابطة القلم مع نخبة من أصدقائه من كتاب المهجر وترأسها أيضا، لكنها لم تكن الشيء الوحيد الذي أسس بل أسس طعما وجنسا لغويا جديدا، وهو جنس القصائد النثرية التي ترتمي في أعماق القارئ دون حاجة لأن تكون منظمة ولا ذات قافية، قبل أن تتوفاه المنية بنيويورك.
كنت وأنا أقرأ هاته الكلمات لا أعرف عنه شيئا غير هاته الحقائق، لكنني تعلمت عنه ما أؤمن أن لا أحد غيري يعرفه، لأن تجربة القراءة بالنسبة لي تجربة خاصة.
“دمعة وابتسامة”.. حروف قوية جدا تجتمع لترسم أهم مظاهر الحياة الإنسانية، خريف الحياة وربيعها، نقطة الالتقاء أو الافتراق، لكن لا أعلم ولن نعلم أبدا، إلى أي من الحقلين ننتمي فعلا، فهما توأمان لا ندرك أحدهما إلا بالأخرى، لا ندرك أننا افتقدنا البسمة حتى نلاقي الدمعة ولا نحنُّ للدمعة حتى نمل الابتسامة. إن هذا العنوان لم يكن لمقال أدبي أو لكتابا فقط، بل شكل عنوانا لحياة بأكملها، حياة الشباب بين الطيش والنضج، حياة الصلابة والانحناء، حياة التسرع والبوهيميا، الحياة بكل بساطتها..
علمني جبران أن أستيقظ صباحا لهاجس واحد، أن أعيش الشباب قبل أن ينقضي، علمني أن أعيش الابتسامة وأنتظرها وهي قادمة أو ذاهبة لأن الرسام يرى تحت أصابعه الألوان سواء أكانت آتية أو راحلة، علمني أن أساعد الدمعة كي تذكرني بمن أكون.
علمني أن البحر يموت عندما نبكي على رمال شواطئه، وأن النهر يعيش عندما ننحني على ضفافه، علمني أن موت الشاعر يلفت إليه الأنظار أكثر من حياته في تلك المدينة المنسية، لكنه يظل شاعرا، علمني أن أبحث في البحر عن بنات البحر لأنهن يفهمن الإنسانية أكثر من الإنسان، علمني أن البسمة قد تعيش بين الخرائب سعيدة وأن الدمعة قد تعيش أمام عرش الجمال سعيدة أيضا.
علمني أن حكاية الصديق قد تتأرجح بين الحقيقة والخيال كي تحفظ لنا ذلك الصديق، علمني أن بيت السعادة قد يجدني في مدينة الماضي كما قد أجده أنا أيضا، علمني أن نشيد الشاعر هو صوت الإنسان والإنسانية، علمني أن أنصت لأغنية الموج والمطر والجمال والسعادة، علمني أن أناجي الأرواح وهي تنتظر رجوع الحبيب بشوق، علمني أن لا فرق بين أنشودة الزهرة وأنشودة الإنسان.
علمني أن أتذكر يوم ميلادي بقوة عمياء مثل ذلك الحيوان النبيل الأبكم، علمني أن أنظر للآتي تحت الشمس، علمني ألا أفرق بين طفلين، بين الكوخ والقصر، بين ملكة الجمال والمجرم والشاعر ورفيقي وخليلي. علمني الانبساط على ملعب الظهر، علمني أن الحروف نارية.. لذلك فلا يجب أن أغلط ولا أن أخلط بين الدمعة والابتسامة والابتسامة والدمعة، علمني أن أحيى حياة الحب مهما كان الثمن، علمني أن أرى الفرق بين رُؤيا الأمس ورؤيا اليوم، علمني أن أنادي: رحماك يا نفس رحماك. علمني قصة الأرملة وابنها، كما علمني حكاية الطفلين وحكاية شعراء المهجر. علمني أن الحكمة لا توجد في الحقيقة ولا الخيال وإنما بينهما، علمني أن العناوين قد تبني شعرا أكثر شاعرية من الشعر…
إن الجمال الذي يبدأ به جبران كل نص وينهيه لا يغني القارئ عما تبقى من السطور، بل إن القارئ يذهب بشوق لما بين السطور وما بعد السطور أيضا، فتجده بين الحيرة والبهجة يستمد حياته بكل ما فيها من مبادئ، أهوال، وإيمان من نصوص جبران، لأن جبران قد كتب هذه الكلمات قبل أن يتعلم ألا يتمايل مع العواصف، قبل أن يمسي صلبا بالتجارب بما يكفيه كي يتجاوز لغة الحب التي كتبت بها “دمعة وابتسامة”.
إنه هو نفس الجمال الذي ينتشل هذا الجيل من فوضى التلوث الذي ولدنا تحت رحمته، لذلك نشعر بالاحتياج إلى هذا النص أكثر من الأخبار اليومية. إن تعبير “العيش تحت الرحمة” الذي كتب عنه جبران قرنا قبل ولادة هذا الجيل، أصح تعبير عما يعيشه هذا الجيل من نقص في مصادر الرقي، لذلك يضطر للاختيار بين العيش في وحدة في زمن جاف أو الرجوع إلى زمن فائت ماض.
لم تنتهِ حكاية جبران مع موته وإن اضطرت كلماتي لأن تنتهي، لأنه لم يكن يحمل لقب شاعر فقط، بل كان شاعرا فعلا، عاشت كلماته وجعلتنا نعيش أيضا. ألبسني جبران ثوب الذوق فلم أعد مذ ذلك الحين أخاف الموت ولا الظلام حتى وأنا طفلة، فقهني لكيف أنادي الموت بفخر وأتمسك بالحياة بفخر أكبر، أَرشد نفسي إلى كأس السرور التي أهدانيها الإله في الحياة الأخرى. أصبحت أستمتع لتقلبات الجو بين العواصف، فلم تعد ضلوعي تحمل قلبا واحدا بل قلبين أو ثلاثة، أولهم يحب الحياة، أحدهم أحب الحياة بجبران والآخر أحب جبران بالحياة..
<بقلم: كوثر الصابري