مناضلات حصلن على نوبل -الحلقة 14 الجزء 1-

“…أن تكون مُؤمنًا بقضية لا يعني الكثير، أما أن تقرّر أن تُناضل من أجلها فأنت تُقرّر حينها أن تحيا أسطورتك الذاتية، يعني أن لديك قلبًا ينبض وعقلًا يضيء فتشعر حينها بأنك تحيا إنسانيتك، وتستشعر وجودك، فإذا كان صنع السلام أصعب من خوض الحرب لأن صنعه والمحافظة عليه يتطلبان الشجاعة ويفترضان أحياناً مقاربات جديدة وصعبة، إلا أن ذلك يبقى رهينا بالتمتع بشخصية مدنية مُحببة ورأسمال ضخم من الإرادة والطموح والعمل والمثابرة والعزيمة للوصول إلى الهدف، شعرن دومًا بقلوبهن النابضة وعقولهن المضيئة بذلك الإنسان القابع في نفوسهن برغم القيود التي فرضها عليهن المجتمع لا لشيء إلا لكونهن ملحقات بتاء التأنيث، وبرغم ذلك قررن أن يحملهن تاء التأنيث سلاحا في نضالهن، ينتشرن في التاريخ كالزهرات الجميلات يمنحن الأمل ويتركن حلما لدى الجميع يقول: أنا المرأة، أنا النضال، أنا الحرية، أنا الإنسان دون تمييز… فتدافعن نحو الحرية وحماية حقوق الإنسان بشجاعة ومُثابرة، ناضلن في سبيل الحقيقة والعدالة والأمل والإصلاح والسلام، دافعْن عن القضية الإنسانية وحملن لأجلها راية الحرية والديمقراطية والحفاظ على كرامة الإنسان، حتى كوفئن أخيرا بتسجيل أسمائهن في وصية ألفريد نوبل التي كتبها تكفيراً عن شعوره بالذنب لاختراعه الديناميت القاتل، إنهن مناضلات دافعن عن الحياة وحصلن على نوبل….”.

الأم تيريزا….. عندما يُباركك الله

الفقيرة والمتشردة صاحبة النداء الروحي التي أنشأت إمبراطورية الحب والخير

كان الظلام لا يزال مُخيّما حين خرجت المرأة هزيلة العود غير المُتطفلة إلى الشارع وأغلقت خلفها البوابة الضخمة للمنزل عالي الجدران الذي عاشت فيه باطمئنان لأكثر من أربعين عاما، وبدت تخطو خطواتها الأولى على طريق ستقودها إلى رحلة طويلة عبر العالم بعد أن تركت رسالتها التي تقول: عزيزي القاريء، أهديك حُبْي وصلواتي..، يبدأ الحب في المنزل…، فحين يُصلي أفراد العائلة معا يبقون معا، وإن بقيتم معاً فستحبون بعضكم كما يُحبكم الله، فليشرق حب الله عبرك على عائلتك من خلال ابتسامتك وعينيك وكلماتك وأعمالك…، فليشرق حب الله من خلال عنايتك واهتمامك بهم، حافظ على فرحة الحب عبر المشاركة… باركك الله… الأم تيريزا..”.

الفقير والمجذوم ورئيس الجمهورية

لم تكن المرأة التي ناهزت الأربعين تدرك صبيحة يوم الجمعة من شهر غشت 1948 بأنها ستبدأ رحلة حياتها وتجعل اسمها يتردّد في أصقاع العالم وتؤسّس مع هذا الصوت الرباني أكبر امبراطورية للحب والخير قبل أن تجد نفسها وبعد ثمانية عشر عاما وحيدة مع بعض مقتنياتها بعد أن أخذت سلطات الكنيسة الكاثوليكية تنجز القرارات نيابة عنها، حينها فقط أخذت تتذكر ذلك اليوم الذي أغلقت فيه باب منزلها وكتبت رسالتها المليئة بالحب والخير والصلوات “……حين أغلقت الباب ورائي ووقفت في الشارع وحيدة في ذلك اليوم حيث السادس عشر من غشت 1948 انتابني شعور قوي بالضياع، لا.. بل بالخوف وكان من الصعب التغلب عليه، كنت أسمع الصوت الذي لا يوصف وأرى الضباب الرقيق يغشو الشوارع القذرة كوشاح لا يمكن اختراقه، لكنني كنت قوية واثقة بحماية الكنيسة الكاثوليكية وحماية الله لي، وقفت في الشارع ولم أغادره مطلقا، إنها شوارع كالكوتا الهندية التي اخترتها أرضا وموطنا لي….”.

 

 

الأم تيريزا

ففي أواخر القرن العشرين كانت الأم تيريزا واحدة من أشهر النساء وأكثرهن نجاحا بعد أن أسست خلال أربعين عاما إمبراطورية دولية للخير قائمة على شبكة علاقات كبرى شملت خمسة وسبعين فرعا في أكثر من مائة دولة، وضمت في صفوفها أربعة آلاف أخت وراهبة وأكثر من ثمانمائة أخ راهب، ففي الوقت الذي كانت فيه الجماعات الدينية تفقد بريقها وتعاني من مشاكل في انضمام الناس لها كانت أفواج من الأشخاص تتوافد للانخراط والتعاون مع هذا الاتحاد الكبير من الحب الودّي الناشط الذي أضحى يضم العالم بأسره بشكل فرض معه الاعتراف الرسمي لبابا بيوس الثاني عشر عام 1950 دون أن تملك أهداف اقتصادية أو تجارية، ودون أن تخضع لقانون العرض والطلب، ودون أن تمتلك مكاتب تمثيلية لها بقدر ما كانت تلك الإمبراطورية تخضع لإرادة الراهبة العجوز التي أخذت تطوف العالم وتحمل حقيبتها البالية وترتدي الساري الهندي مع سترة صوفية وتسير في صندل بال كأنها حافية القدمين، تردّد كلماتها التي جعلت رؤساء العالم يدعمون عملها وينحنون أمامها بكل فخر واعتزاز وتقدير “……إن جميع هؤلاء الرؤساء هم رعايا الله سواء أكانوا فقراء أو مجذومين أم رؤساء جمهورية…، إنهم جميعهم بحاجة إلى الحب والعناية..، إن الناس يعملون معا ولأجلنا ولأجل الإنسانية…، فأنا لا أحدثهم أبدا عن المال ولا أسألهم شيئا بقدر ما أكتفي بتشجيعهم على التآخي ومحبة بعضهم ومحبة البشر وتقديم يد العون والحب لهم، لا اُخضْع نفسي لقوانين دنيوية أو اقتصادية ولا أوجه نفسي بحسب الإيديولوجيات السياسية أو الاجتماعية لأنني لا أثق إلا بالنظام الإلهي فقط حيث ثمرة الصلاة الإيمان، وثمرة الصلاة الحب، وثمرة الصلاة الخدمة، إن الكائنات البشرية اليوم تتوق إلى الحب الذي يعتبر الجواب الوحيد للوحدة والفقر المدقع ومعاناة الإنسانية….”.

النداء الروحي

منذ ولادتها في السابع والعشرين من غشت 1910 شعرت آغنيس بوجاكسيو الشهيرة بالأم تيريزا (ولدت آغنيس غونكسا بمدينة بواكسيو في سكوبي بمقدونيا) بندائها الروحي “….كن شجاعا لتلبية ندائك الروحي…” كلما حرصت على مرافقة شقيقها الأكبر آغا وشقيقتها لازر إلى القدّاس الصباحي التي أخذت تقرأ لأجله وتنقب في المجلات الدينية وترافق المُبشرين كلما أتوْا إلى سكوبيا تلك البلدة الصغيرة التي يقطنها عشرون ألف نسمة وخضعت لسيطرة الإيريين واليونان والرومان والبلغار والصرب قبل أن تسقط أخيرا في أيدي الأتراك وتتحرّر منه عام 1912 بعد احتلال الصرب لها من جديد لفترة قصيرة وتحصل على استقلالها في العام نفسه نتيجة لاندلاع الثورة الألبانية وعمرها لم يتجاوز بعد الثانية عشر ربيعا، حينها فقط أخذت تشعر بأنها مدعوْة الآن لخدمة الفقراء بعد أن أخذت تردّد كلمات والدتها التي تقول “…يجب عليكم مساعدة الفقراء فإن فعلتم الخير فافعلوه سراً…، لا تتوقعوا أي مكافأة أو عرفان لقاء عملكم..، فإن غسلتم مُتسولا وضمدتم جراحه فأنتم تقومون بعمل صالح…”، حينها انطلقت أغنيس سريعا إلى الهند وقدّمت نذورها الأبدية وترأست مدرسة القديسة مريم ماي 1937 وكتبت لوالدتها تحت اسمها الجديد تيريزا كلمات مليئة بالحب والعزيمة والتضحية “… أنا آسفة جدا لأنني لست معك، ولكن كوني سعيدة يا أمي الحبيبة لأن ابنتك أغنيس سعيدة الآن، فأنا أعيش حياة جديدة تماما، مركزنا جميل جدا وأنا مدرسة وأحب عملي، كما أنني مديرة المدرسة بأكملها والجميع رهن إشارتي…”، وكم كانت سعيدة لحظات أخذت تقرأ فيها جواب والدتها وكلماتها التي تقول: طفلتي العزيزة… لا تنسي أنك ذهبت إلى الهند لمساعدة الفقراء…..، قومي بما يمليه عليك الضمير ولا تتواني في تقديم المساعدة للآخرين….”.

أماكن الأمل

 

 

“….ما أن وصلت الهند حتى بتُ أشعر بطعم المعاناة وحجم الفقر المنتشر في ظلّ وجود الثراء الفاحش كأنهما غريبان وغريمان في آن واحد، كانت كالكوتا تضم نصف مليون شخص على الأقل ينامون على الأرصفة وفي مواقف السيارات وتحت القناطر والأشجار ليلا، الآلاف يُولدون ويعيشون ويموتون بلا مأوى، رضّع يُتركوْن عند مستودعات النفايات، مُتسولون ومجذومون بلا أيد ولا أقدام ولا أوجه يئنون ألما، أطفال يتسولون بلا مبالاة بين الباصات والعربات، النفايات مكومة في كل مكان، المجارير مفتوحة والتسهيلات الصحية معدومة، فيما يحاول الأجانب والمحلّيون الأثرياء حماية أنفسهم من البؤس المنتشر في كل مكان من دون اكتراث لمعانة الفقراء والمحتاجين، كانت تلك المشاهد حافزا قويا للتوجه لإيجاد أماكن الأمل لهؤلاء الفقراء البائسين الذين عجّت بهم المدينة التي تحمل اسم الإلهة كالي وأكثر المدن كثافة في العالم، رفعت كمّي استعدادا للعمل ومنذ لحظاتي الأولى في مدرسة سانت تيريزا….، أخذت أمسح الأرض بجدّ ومُثابرة بينما ينظر لي الأطفال باستغراب ولا مبالاة حتى تسارع الجميع إلى العمل معا وأخذوا ينادونني حينها بأمي (ما بالهندية)…، كنت مقتنعة بأن المرء لا يحتاج إلا للقليل لإسعاد روح طفل وإرجاع البراءة إليه، إنه الحب الذي بات يغمر الجميع، إنها السعادة التي أخذت أشاهدها الآن على وجوه الأطفال في المدرسة وفي الشوارع حيث الفقراء الذين ذهبت إليهم وانجذبتُ لهم وتشابكوا من حولي أينما حللت وارتحلت داخل المدينة….”.

الطريق الطويل

“… كنت أشعر بالنداء الداخلي المُوجه لمساعدة الفقراء لكن الطريق لتنفيذه مليئ بالعقبات خاصة في ظلّ المناوشات السياسية التي أخذت تحدث قبيل استقلال الهند بسنوات قليلة، لكن ندائي الداخلي كان يعلو صوته يوما بعد يوم وبتُ عازمة على إنشاء إرسالية جديدة للراهبات التي رفضتها الكنيسة ورفضها البابا بيوس الثاني عشر بعد أن قدّمت التماسا له عام 1948 وبعد عام من حصول الهند على استقلالها وتزايد حدّة الصراعات الدموية بين المسلمين والهندوس، وكان هذا سببا مباشرا لرفض التماسي لاستحالة تأسيس رهبانية مسيحية في الوسط الهندي السائد نحو الدموية العقيمة، لكن هذا الطلب سرعان ما تم قبوله عام 1950 ومنحني البابا تأسيس رهبانيتي الجديدة التي حملت اسم (مرشدات المحبة) التي خصّصتها للراهبات وعلمتهنّ فيها دروسا في محاربة الفقر وسرت بهنّ حافية لساعات حتى استجد الألم أوصالي وبتّ أعلّم الصغار القراءة والكتابة بإعدادهم المتزايدة كل يوم …”.

سلسلة من إعداد وتقديم: معادي أسعد صوالحة

Related posts

Top