مناضلات حصلن على نوبل -الحلقة 8 الجزء 2 –

“…أن تكون مُؤمنًا بقضية لا يعني الكثير، أما أن تقرّر أن تُناضل من أجلها فأنت تُقرّر حينها أن تحيا أسطورتك الذاتية، يعني أن لديك قلبًا ينبض وعقلًا يضيء فتشعر حينها بأنك تحيا إنسانيتك، وتستشعر وجودك، فإذا كان صنع السلام أصعب من خوض الحرب لأن صنعه والمحافظة عليه يتطلبان الشجاعة ويفترضان أحياناً مقاربات جديدة وصعبة، إلا أن ذلك يبقى رهينا بالتمتع بشخصية مدنية مُحببة ورأسمال ضخم من الإرادة والطموح والعمل والمثابرة والعزيمة للوصول إلى الهدف، شعرن دومًا بقلوبهن النابضة وعقولهن المضيئة بذلك الإنسان القابع في نفوسهن برغم القيود التي فرضها عليهن المجتمع لا لشيء إلا لكونهن ملحقات بتاء التأنيث، وبرغم ذلك قررن أن يحملهن تاء التأنيث سلاحا في نضالهن، ينتشرن في التاريخ كالزهرات الجميلات يمنحن الأمل ويتركن حلما لدى الجميع يقول: أنا المرأة، أنا النضال، أنا الحرية، أنا الإنسان دون تمييز… فتدافعن نحو الحرية وحماية حقوق الإنسان بشجاعة ومُثابرة، ناضلن في سبيل الحقيقة والعدالة والأمل والإصلاح والسلام، دافعْن عن القضية الإنسانية وحملن لأجلها راية الحرية والديمقراطية والحفاظ على كرامة الإنسان، حتى كوفئن أخيرا بتسجيل أسمائهن في وصية ألفريد نوبل التي كتبها تكفيراً عن شعوره بالذنب لاختراعه الديناميت القاتل، إنهن مناضلات دافعن عن الحياة وحصلن على نوبل….”.

أونغ سان سو كي.. المناضلة التي حصلت على جائزة نوبل وهي قيد الإقامة الجبرية

صوت يصدح للحرية والعدالة الاجتماعية

بإثنتين وسبعين خطوة إلى الأمام، ومثلها إلى الوراء، ولأشهر طويلة عرف ذلك الجندي كل حجرة من حجرات منزل تلك الشابة الصغيرة المُقيمة في أحد شوارع بورما، المنزل الذي يتناوب على مراقبته مع زملائه السبعة على مدار الساعة..، كانت المسافة ذاتها حيث عيناه اللتان تحملقان إلى الأمام وفي الاتجاه نفسه، فالمنزل والشارع يجب أن يبقيا على مرأى منه دون أن يفوت أي شيء ودون أن تظهر على وجهه أي علامات توحي بماذا يفكر أو بمن تكون تلك الفتاة التي تسكن في هذا المنزل الصغير حيث إقامتها الجبرية الكائن بشارع الجامعة بضاحية رانغوتن الشهيرة بمينامار أو بورما كما يطلق عليها الآن إحدى دول جنوب شرق آسيا …

شعار النظام العسكري 

كان هذا الجندي يُحملقُ لساعات طويلة في هذا المنزل الصغير ومحيطه دون أن يلاحظ الأسلاك الحديدية المنتشرة حوله التي باتت مألوفة في ميانمار التي حملت اسم بورما منذ العام 1989، لكنه كان يلاحظ جيدا تحركات المرأة القابعة وراء السلك الحديدي والتي تخرُج مرارا وتكرارا إلى حديقتها التي زينت بالورود وفاحت منها رائحة الياسمين وهي تنظر بامتعاض وحسرة إلى اللوح الأحمر الكبير الذي كتب عليه وبخطوط عريضة (أي شخص يتصرّف بشكل مُدمر ويرفض أن يوجهه أحد هو عدونا)، باعتباره شعار من شعارات النظام العسكري الذي استولى على الحكم في البلاد منذ ثلاثين عاما وعمد إلى قتل والدها     (أونغ سان) يوليو 1947 البالغ حينها الثانية والثلاثين وعدّ لسنوات طويلة بطلا قوميا وزعيما شرعيا لبورما، ووضعت الجنرالات العسكرية منذ ذلك الحين اللوحات الكبيرة الحمراء في جميع أنحاء البلاد والتقاطعات والمباني الهامة والمطارات ومحطات القطار المختلفة والمُتعددة.

خمس أقدام وأنش واحد

لم يمر سوى عامان فقط (1991) حتى أخذ هذا الجندي الشاب يتناسى مكان وجوده بتناسى الأسلاك الشائكة واللافتات العسكرية الحمراء التي تحيط بمنزل الشابة، وخط كلماتها جنرالات الجيش بعد أن أخذ يتسائل مع نفسه عن سر غياب تلك المعزوفات الرائعة  التي تعوْد على سماعها من هذا المنزل ومنذ لحظات وجوده الأولى هناك، وعلم سريعا بأن صاحبته قد اضطرت إلى بيع البيانو الخاص بها بسبب حاجتها إلى المال، لكنه لم يكن يعي بأن تلك المعزوفات المُسالمة والرائعة ليست سوى رسالة موجهه للجميع وتقول في محتواها (لا تفقدوا الأمل.. عليكم بالنضال جميعا من أجل حرّيتكم التي سلبت منكم..)، فتجاهل محتواها ومضمونها بوجه لا انفعال فيه ولا تأثر، “فالحزمة المُشعة لانتصارات لا تنسى” كما يوحي اسمها (أونغ سان سو كي) التي يحرسها هذا الجندي الشاب تعتبر الآن العدو العام رقم واحد للنظام العسكري الحاكم الذي يريد تجريدها من إرث والدها النضالي الذي قاد البلاد ومنذ سنوات خلت إلى الاستقلال دون أن يمنحه الوقت فرصة حكم بلاده بورما بعيد اغتياله، وبالتالي على ابنته التي لم تتجاوز حينها الثامنة ربيعا (لحظة مقتله واغتياله) أن تكمل مشواره النضالي وتثبت للجميع بأنها جديرة بهذه الواجبات التي تحققت فعلا بعد أن استطاعت أن تلفت انتباه العالم إلى بورما عام 1991 لحظات نيلها جائزة نوبل للسلام من داخل إقامتها الجبرية وزنزانتها الضيقة وهي قيد الاعتقال والإقامة الجبرية دون أن يتجاوز طولها الخمس أقدام والإنش الواحد فقط تماما كما حصل للعديدين ممن منحوا جائزة نوبل وثاروا ضد الطبقة السياسية في بلادهم كما هو الحال بكارل فون اوستينر الذي كان بمعسكر الاعتقال لحظات منحة الجائزة عام 1935 واندري سلفاروف الذي منعته سلطات موسكو للذهاب إلى النرويج لاستلام جائزته عام 1975 ولالكسندر سولخنييتين عندما حاز على جائزة نوبل للآداب عام 1970.

ميليشيا الرفاق الثلاثين

ففي أبريل من العام 1937 تمكنت بورما من الانفصال عن حكومة الهند البريطانية وبدأت معها مناوشات لتكوين جيش الاستقلال البورمي الذي تكونت لبناته عام 1940 من خلال ميليشيا الرفاق الثلاثين التي كان من ضمنها أونغ سان (والدها) وحدّدت مهمته في طرد الاحتلال البريطاني الذي سرعان ما تمكنت من إعادة البلاد إلى حظيرة الدولة البريطانية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وتعود المناوشات من جديد حتى تم استشهاد البطل القومي أونغ سان وقبل سنة واحدة من حصولها على الاستقلال عام 1948 وتنفصل بورما كليا عن الاستعمار البريطاني وتبدأ  من جديد حزمة من التفاعلات والحروب الداخلية في تسابق قوي على الحكم والسلطة في بلاد التجارة الغنية ومناجم الأحجار الكريمة التي تعتبر من أغنى المناجم في العالم، ويصل الديكتاتور (ني وين) إلى سدة الحكم عام 1926 (بقي في الحكم حتى العام 1988) وحكم البلاد حكما ديكتاتوريا دمويا ووصل بها إلى وضع اقتصادي حاد بعد أن بدّد معها فرص النمو وباع خشب التيك الثمين مقابل الحصول على السلاح ووصل به الأمر حد طلبه من الأمم  المتحدة عام 1987 تصنيف بورما بأنها البلد الأقل نموا على كوكب الأرض، في شكل عده الكثيرون بأنه إنذار مسبق للجيش ليقوم سريعا بالاستيلاء على الحكم في بورما ويحكم البلاد لسنوات طويلة مُقلصا معه حريات الفكر والإبداع والديمقراطية والعدالة وسيادة الانتهاكات التي طالت سريعا ابنة الزعيم الوطني المغدور أونغ سان سو كي وتم اعتقالها ووضعها قيد الاقامة الجبرية لسنوات عجاف.

فروض الملوك العشرة

كان البطل القومي (أونغ سان) قد زرع في طفلته الصغيرة ذات الأقدام الخمسة والإنش الواحد تعاليم (فروض الملوك العشرة) التي تم تبنيها من طرف ميليشيا الرفاق الثلاثين وجعلها مبادئ عامة يمكن من خلالها تقييم عهد الحكومات الحديثة لحكم البلاد في جو من العدل والحرية والديمقراطية والرخاء الاجتماعي حيث دانا (رحابة الصدر)، سيلا (الأخلاق)، باتريكاغا (التضحية بالنفس)، آجافا (الاستقامة والأمانة والصدق)، مادافا (الطيبة)، تابا (الاعتدال)، آخودا (الهدوء ورباطة الجأش)،

أفيفهامسا (اللاعنف)، خانتي (التحلّي بالصبر)، أفيفرودها (عدم العمل ضد ارادة الشعب) باعتبارها واجبات تقليدية لا تصف فقط توقعات الشعب من الحكومة الديمقراطية بل تعطيها الشرعية أيضا، تلك الشرعية التي سرعان ما ستسارع إلى إقامة الحكم الجائر على ابنته ووضعها تحت قيد الإقامة الجبرية بدايات العام 1989 دون أن تتحرّر منها نهايات العام 1995 رغم حصولها على جائزة نوبل للسلام قبل ذلك بأربع سنوات فقط .

العمل مع إرادة الشعب

بعد اغتيال والدها بعشر سنوات تقريبا (1958) اتجهت (أونغ سان سو كي) إلى الهند رفقة والدتها التي عينت سفيرة لبلادها هناك وأخذت تجول مدرجات جامعاتها حيث الفلسفة والسياسة والاقتصاد التي طارت معها سريعا عام 1960 إلى جامعة اكسفورد وعادت منها رفقة زوجها المستقبلي والخبير في شؤون التيبت (مايكل آريس) غير مبالية باستنكار البعض لزواجها من أجنبي، وفي هذا تقول: “… صحيح أنني عُدت إلى بلدي وأنا متزوجة من رجل أجنبي لكن هذا الأمر لم يخفف ولم يضعف حبي لوطني، قيلت عني أمور أخرى كثيرة منها أنني لا أكترث بسياسة بلادي لكن المشكلة أنني أعرف عنها الكثير، فعائلتي تعرف  أكثر من غيرها وكم عاني والدي من أجل قضية بورما ودفع الثمن غاليا لذلك…”، وأخذت بتوجيه أولى رسائلها الهادفة إلى الحكومة (15 غشت 1988) جاعلة المطالب السياسية شأنا عاما حتى التفّ حولها الكثيرون وساد الإضراب العام في البلاد (16 غشت) بعد أن عرضت (اونغ سان سو كي) المبادئ العامة لسياستها أمام جمهور مليء بالحماسة لتحقيق المطالب الاجتماعية حتى احتد الصراع والمواجهة مع قوات الديكتاتور (ني وين) وتعرض فيها الطلاب والمتظاهرون إلى مجزرة على أيدي قواته (3000 ضحية من الطلاب) وعمّت البلاد فوضى عارمة اضطر معها مجلس الدولة بقيادة الجنرال (سو ماونغ) إلى تولي زمام الأمور مُلغيا بذلك الدستور ومُعلنا حالة الطوارئ والقانون العرفي في ظل توجهات (اونغ سان سو كي) ورفاقها بإنشاء الرابطة الوطنية لأجل الديمقراطية، وتمكنت فيها من توحيد مجموعات المعارضة في حزب شعبي واحد انتخبت أمينة عامة له بعد أن صاغت أهدافه في ضرورة التمسك بحقوق الإنسان والنضال اللاعنفي لتحقيق الديمقراطية والحرية في البلاد، واعتُبرتْ حينها خطراً كبيراً على استقرار البلاد وأمنها خاصة بعد أن أخذت تعمل مع إرادة الشعب البورمي ضد إرادة الاستبداد وقتل الحرّيات الأساسية للشعب.

ثورة الفكر والإقامة الجبرية

بوفاة والدتها ديسمبر 1988 انطلقت (اونغ سان سو كي) تجول أصقاع البلاد لنشر مبادئ الرابطة الوطنية لأجل الديمقراطية وتبدأ سريعا بتنظيم منظمات طلابية وأحزاب وتجمعات شعبية انطلاقا من صيف 1989 متجاهلة بذلك لأحكام القانون العرفي الذي أطلقته الزمرة العسكرية الحاكمة حتى أعلن حظر التجوال وتم إلغاء كافة أشكال الاحتفالات المخطط إجراؤها بمناسبة يوم الشهيد احتفالا بذكرى استشهاد والدها (أون سان)، وبدأت على إثرها ثورة الفكر لمواجهة الخوف (سيقت على إثرها إلى مقر اقامتها الجبرية 20 يوليوز 1989 وبقيت فيها حتى تاريخ 11 يوليوز 1995) التي اعتبرت تغييرا شاملا في القيم الفكرية لإعادة تنمية الوطن الذي قدمت لأجله حريتها بعد أن تم اعتقالها ووضعها قيد الإقامة الجبرية لسنات طوال حتى انطلقت لتقول حينها: “… لو لم تحدث تلك الثورة لكانت هذه القوى التي تسببّت بانعدام العدالة في النظام القديم قد بقيت تعمل وتُهدّد الإصلاح وعملية التجديد، فلا يكفي أن نبكي على الحرّية والديمقراطية وحقوق الإنسان بقدر ما يجب أن نستمر في النضال الذي يتطلب تضافرا للجهود وتقديم التضحيات باسم الحقيقة والعدالة ومقاومة الفساد والجهل والخوف..، إن شظايا من الزجاج حتى أصغرها حجما مليئة بسلطة مُشعة لمقاومة اليد التي تريد سحقنا..، إنها المثال الحيّ لهذه الشرارة من الشجاعة التي تعتبر السمة الأساسية المُشتركة لجميع الذين يريدون تحرير أنفسهم من الاستبداد والقهر والظلم الاجتماعي…..”.

سلسلة من إعداد وتقديم: معادي أسعد صوالحة

كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في المغرب

Related posts

Top