مهرجان طنجة الدولي للفنون المشهدية يكرس علاقة الفن بالعلم

تميزت فعاليات الدورة 12 لمهرجان طنجة الدولي للفنون المشهدية، التي نظمها المركز الدولي لدراسات الفرجة، أيام 15، 16، 17، 18 شتنبر المنصرم، بكثافة وغنى برنامجها الذي استطاع أن يمزج بين فضاءات الفرجة المسرحية والورشات التكوينية والمؤتمر العلمي الذي اتسم بإثارة نقاش جاد وعميق حول موضوع: “المنعطف السردي في المسرح: عودة فنون الحكي”، وذلك في سياق سعي منظمو التظاهرة إلى استكشاف ممارسات فرجوية وخطابات جديدة تتناول العلاقة المتبادلة بين الحكي والمسرح.

المحور العلمي

وحول ما نصطلح عليه بالمنعطف السردي في المسرح، اجتمع باحثون وخبراء من مختلف أنحاء العالم حول طاولات نقاش طنجة المشهدية، وتناولوا بالدرس والتحليل مجموعة من الإشكاليات المختلفة التي لامست موضوع الدورة من جوانب متعددة: المنعطف الفرجوي/ المنعطف السردي في المسرح المعاصر: أية علاقة؟ / جماليات الفرجة السردية المعاصرة / مظاهر تسريد الأحداث الواقعية في المسرح / الرقص كآلية سردية: جدلية “الجسد الناطق” و”النص المتحرك” / الحكي الجريح: شهادات سنوات الجمر والرصاص في المسرح المغربي / المحكي الذاتي والمحكي الجماعي في المسرح / عودة فنون الحكي العربي في الممارسة المسرحية المعاصرة/ السرد العربي القديم: من التراث إلى النص إلى العرض.
اختيار هذا الموضوع للنقاش، فرض نفسه نظرا لازدهار العروض السردية والمسرحيات المونولوجية في الآونة الأخيرة؛ حيث لاحظ النقاد والباحثون في المسرح وفنون الفرجة أن السرد  بدأ يعود إلى المسرح، ويأخذ المونولوج الأسبقية على الديالوج؛ ومن ثم يزلزل وهم الدراما. وقد خلص المتدخلون في الجلسات العلمية، التي تجاوزت 17 جلسة، إلى أنه لا ينبغي النظر إلى هذه العودة من حيث هي التفاف حول القصة، بل هي عرض لممكنات الفعل القصصي، وسعي إلى تحقيق علاقة جديدة مع التمثيل المسرحي بعيدا عن العودة إلى الدراما.
المدخلات التي عرفتها الندوة، سلطت مزيدا من الضوء حول التداخل الحاصل بين “المنعطف السردي” ونظيره “الأدائي”، حيث أن السرد، داخل معترك الممارسة المسرحية البديلة، لا ينشد رهانات تمثيل واقع الحال كما هو؛ فالمادة الحكائية  في كثير من الأحيان لا تتحكم في تصريفها مرونولوجية خطية.
وأشار المتدخلون في معرض نقاشاتهم، إلى أن أداء القصص السير ذاتية والوقائع يجسد في العديد من التجارب المسرحية المعاصرة الإمكانيات الهائلة للمسرح السردي، حيث يغزو المسرح الواقع من جديد، ويستفزه انطلاقا من ردم الهوة  بين السرد الذاتي والحكايات الجماعية، الخاص والعام، الجمالي والسياسي…
كما أشار الخبراء خلال هذه الجلسات العلمية، إلى أن السرد المحكي قد يتحول في العديد من الأعمال المسرحية المعاصرة إلى حكي موغل في استعمال الصورة، وهي حامل قد يبدو سهل الاستيعاب، إذ يغازل النظر من حيث هو أسهل أداة تواصلية وهنا، يعيد بعض المتدخلين طرح السؤال الذي سبق أن طرحه بصيغة أخرى في سياق ندوة طنجة المشهدية في دورة “المسرح والوسائط”: هل أبعدت الدراماتورجيا البصرية غالبية الجمهور عن الولع بالحكي المنطوق، حتى وإن تحقق من خلال الميكروفون؟. وجوابا على هذا السؤال، لاحظ المتسائلون تدافع المؤدين أحيانا نحو ميكروفون ما، من أجل تحقيق وهم ذلك التدفق المفاجئ لدواخل الذات ومعاناتها وانكساراتها، كما هو الحال بالنسبة لـمسرحيتي “دموع بالكحول” أو “حادة” من المغرب… وهنا تحديدا يصبح الميكروفون الآلية التي تمكن من تحقيق عملية البوح، من جهة، ووسيلة الانفتاح على الآخر، من جهة ثانية. وهو في نهاية الأمر أداة وسائطية تذكر مستعمليها بأنهم بصدد مخاطبة أناس آخرين عبر أثير ما…. ومع ذلك، يجب الإقرار بأن التوظيف واسع الانتشار للمايكروفون في مسارحنا يستفز تدافعنا الهوياتي وطمأنينتنا، ويدفعنا للاعتراف بتأثيرات الآخر، بما فيها الأسلوب مابعد الدرامي. فالميكروفون هو جهاز يحول الموجات الصوتية إلى طاقة كهربائية، ومن ثم، يخلق قناعا صوتيا إلكترونيا يحجب الصوت الحقيقي للمؤدي. وهنا تحديدا نكون إزاء قطيعة مع التمثيل الطبيعي والاندماج. كما أن نص المونولوج، غالبا ما يقدمه الممثلون/ المؤدون وهم في وضعية جسدية ثابتة لا تعكس تعبيرا معينا، وهي وضعية أشبه بالقناع المحايد لدى جاك لوكوك؛ وهذا القناع يزيح الاندماج الكلي في الشخصية..
وقد خلص المتدخلون إلى كون العودة إلى “المونولوغ” و”الجوقة” في الدراماتورجيا المعاصرة تكتسي أيضا دلالات عميقة، بحيث يعود استعمال المونولوج إلى المسرح الكلاسيكي، وهو وسيلة الكاتب الدرامي للكشف عن اضطرابات وأحاسيس وحالات نفسية ونوايا الشخصية، وهي تفكر بصوت مرتفع، صوت مسموع لدى الجمهور.. دون أن يغفلوا بالإشارة إلى أن النقد المسرحي لم يطور آلياته النظرية والنقدية في اتجاه التعاطي مع هذه الظاهرة كما هو الشأن بالنسية إلى النقد الروائي.

 البعد التنويري

فعاليات الدورة الثانية عشر من مهرجان طنجة الدولي للفنون المشهدية، تضمنت توقيع مجموعة من الإصدارات الجديدة لمنشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة، من بينها: “الكتابة المسرحية العربية وأسئلة ما بعد الكونوليانية” للدكتورهشام بن الهاشمي/ الترجمة العربية لكتاب “من مسرح المثقافة إلى تناسج ثقافات الفرجة” للمفكرة الألمانية إيريكا فيشر/  “المرأة في المسرح المغربي: خطابات وتجارب” لحليمة البوخاري/ “جزيرة السلمون وأتراني سعيدا” مسرحيتان لأنس العاقل/  “ليلة بيضاء” مسرحية لبوسرحان الزيتوني/ “حوارات في المسرح المغربي” لعبد الجبار خمران. إلى جانب توقيع “محادثة قصيرة”، وهو آخر كتاب صدر للشاعرة والباحثة الأمريكية مارجو ريكانتر.

 البعد التنموي

حرصا منه على تفعيل أهدافه التي سطرها لنفسه منذ تأسيسه، والتي من جملتها خلق فضاءات غنية بمختلف أنواع البحث، وسعيه إلى إظهار التنوع الثقافي وفنون الفرجة باعتبارها وسائل مساعدة من أجل تحقيق تنمية مستدامة، وحرصا منه على أن تشمل أنشطته الإشعاعية مختلف الشرائع الاجتماعية، فقد ضمن المركز الدولي الدولي لدراسات الفرجة فقرات مهرجانه الدولي طنجة المشهدية ورشتين تكوينيتين؛ الأولى تحمل عنوان “الصوت منبعا للحكي: محاولة أخرى للبحث المسرحي” من تأطير مختبر لاليش من فيينا، من إشراف الفنانين شَمال أمين ونكار حسيب، وقد استفاد منها مسرحيون محترفون من فرق: افروديت، دهاها واسا، بارطاج.. والثانية بعنوان “إعداد فرجة الحلقة وأداء الحلايقي” من تأطير الدكتور رشيد أمحجور، وقد استفاد منها شباب ينحدرون من مختلف ضواحي طنجة.

 المحور الفني

إضافة إلى الجانب العلمي، فإن المهرجان، وعلى غرار الدورات السابقة، قدم عروضا فنية/ فرجوية مفتوحة لعموم المتتبعين وفي فضاءات متنوعة. وقد بلغ عدد هذه العروض 15 عرضا فرجويا، إضافة إلى ثلاثة أفلام وثائقية. وكل هذه العروض تدور حول محور نقاش الدورة الذي هو “المنعطف السردي في المسرح”.
حيث قدمت فرقة “مسرح أكون” من المغرب، مباشرة بعد الافتتاح الرسمي، عرضا مسرحيا بعنوان “شوكة”، بفضاء متحف القصبة، تلاه عرض LOUBANA لفرقة CORPS SCENE من المغرب أيضا. ثم عرض سهوف بفرقة سارة مولينا من إسبانيا بمسرح جمعية تبادل.
في اليوم الموالي، تم تقديم الفيلم الوثائقي “لسنا أرقاما” للباحثة المصرية/ الألمانية مروة مهدي، قدمت من خلاله صورا وشهادات لوضعية اللاجئات السوريات بألمانية. وفي مساء نفس اليوم، قدمت النجمة المصرية حنان شوقي عرضا مسرحيا بعنوان “خط أحمر” بقاعة مسرح جامعة نيو إنجلند بطنجة. ثم عرض “بلا سمية” للفرقة المغربية “داها وسا” بفضاء متحف القصبة. فعرض Je suis une Femme, Moi من فرنسا، بقاعة مسرح جمعية تبادل.
ثالث أيام المهرجان، تميز بتقديم الفرقة الأمازيغية “تيفيوين” عرضا مسرحيا بعنوان “بيريكولا” بفضاء متحف القصبة، بعد ذلك قدمت فرقة نبيل الحلو عرضا مسرحيا آخر بمسرح نيو إنجلند بعنوان La Chute، ثم عرض Prise de parole لفرقة عبور المغربية بفضاء جمعية تبادل.
أما في اليوم الأخير من المهرجان، فقد قدم كل من مختبر لاليش من فيينا والمؤطر رشيد أمحجور من طنجة، خلاصات أشغال الورشتين التكوينيتين اللتين انطلقتا صبيحة اليوم الأول من فعاليات المهرجان. حيث قدم شمال أمين ونكار حسيب، عرضا في 20 دقيقة كنتيجة لـ 10 ساعات من التكوين بقاعة متحف القصبة، والتي استفاد منها أعضاء من الفرق المسرحية المشاركة بالمهرجان؛ في حين قدم رشيد أمحجور خلاصة ورشته بحديقة “رياض السلطان” بمتحف القصبة مباشرة بعد انتهاء نتائج ورشة لاليش.
وبعد زوال نفس اليوم، قدم الدكتور حميد العيدوني فيلمين وثائقين، الأول حول محمد شكري لمخرجه ادريس الدباغ من مدينة مليلية السليبة، والثاني من إعداد طالبة بماستر السينما بكلية الأداب بمارتيل.
وخلال الفترة المسائية من نفس اليوم، قدمت الفرقة الإيرانية عرضها الفرجوي “Hirpplyt II” وهي الفرقة التي تديرها الفنانة عائشة الصدر، تلاه عرض “الحريق” الذي قدمه العراقي محمد سيف والمغربي عبد الجبار خمران، ليختتم المهرجان فعالياته بعرض فرجوي راقص من أداء الفنانة المصرية نورا أمين بعنوان “انبعاث”.

 التكريم

حظي الباحث الأمريكي، مارفن كارلسون، بتكريم خاص، في اليوم الأول خلال افتتاح المهرجان..
وأبرز المتدخلون في هذه الجلسة التكريمية دور مارفن كارلسون، الذي فاز بالعديد من الجوائز الدولية، كجائزة “جورج جان ناثان” و”وإدغار روزنبلوم”، في تطوير فنون التمثيل، وتعزيز مجالات المسرح والأدب المقارن وإشعاعهما.
 وأكدوا أن هذا التكريم يعد اعترافا بدور مارفن كارلسون في إبراز الإنجازات المسرحية العربية في المحافل الدولية، من خلال ترجمة عدة نصوص للمسرحيين العرب، من بينهم على الخصوص الطيب الصديقي، وعبد القادر علولة، وفاطمة غالير، وجليلة بكار، إلى جانب الإشراف على عدة أطروحات تتعلق بالمسرح العربي.
وقد ألف مارفن كارلسون، مؤسس مجموعة عمل المسرح العربي التابع للفدرالية الدولية للبحث المسرحي، أكثر من 100 مقال علمي و14 كتابا، من بينها كتب حول المسرح العربي، خاصة “أربعة عروض مسرحية من شمال إفريقيا”، و”أوديب العربي” و”مسارح المغرب والجزائر وتونس” التي كتبها بتعاون مع الباحث المغربي الدكتور خالد أمين إذ تعد مرجعا للباحثين على الصعيدين الوطني والدولي في مجال الإنجازات المسرحية بالمغرب الكبير.
 وفي هذا الصدد، اعتبر مدير المركز الدولي لدراسات الفرجة، خالد أمين، أن هذا التكريم يهدف إلى تسليط الضوء على الدور المحوري الذي قام به مارفن كارلسون في نشر ثقافة المسرح العربي على الصعيد الدولي، وإبراز إسهاماته في تعزيز إشعاع الحقل المسرحي، مشيرا إلى أن المهرجان كرم في دوراته السابقة أسماء كبيرة مثل حسن المنيعي ومحمد قاوتي وثريا جبران وعبد الحق الزروالي.

Related posts

Top