نصوص مغربية وعالمية من أدب الوباء

واكب الإبداع الأدبي في مختلف مراحله الزمنية، المحطات الكبرى التي تمر بها البشرية، ومن بين هذه المحطات بطبيعة الحال، الوباء أو الجائحة، وما ينتج عنها من جوانب سلبية وإيجابية كذلك. في هذه النصوص نجد الذات والمجتمع في صراع مع عدو غير مرئي، وتلك هي سر قوته وطغيانه. من خلال حلقات هذه السلسلة إذن، نقف على عينة من النصوص الإبداعية المغربية والعالمية ومدى تفاعلها مع الوباء، حاضرا وماضيا على حد سواء.

< إعداد: عبد العالي بركات

الحلقة 19

كأننا أسرى حربٍ صامتة

< بقلم: ياسين عدنان *

كأننا رهائن عالقون وسط خيوط بيتٍ لا مرئيٍّ لعنكبوتٍ خرافي. كأننا أسرى حربٍ صامتة. هكذا نحسّ اليوم مع هذا الوباء الغامض. وهكذا نعيش يوميات حجر مديد لا يريد أن ينتهي. وأزعم أن قلّة فقط عاشت الحَجْر الكوروني بالانضباط الذي عشتُه به. كان حَجْرًا شاقًّا أشبه بحِمْية طبية قاسية. فمنذ عودتي من معرض الكتاب ببروكسل، في الأسبوع الثاني من شهر مارس المنصرم، وأنا مُعتكِف في مراكش لا أبرحها. كان لديّ مشروع سردي مؤجَّل عكفت عليه. كما كانت أمامي خزانة مزدحمة من الأعمال الأدبية والفكرية الرفيعة حديثة الصّدور لم أجد الوقت حتى لتصفُّحِها خلال السنتين الأخيرتين وأنا شبه منغلق على قراءاتي المُوجَّهة لزوم الإعداد، ثم وأنا في لهاثي الاعتيادي بين
مراكش والقاهرة، بين العواصم والمطارات. هذا دون الحديث عن الكلاسيكيات الأساسية. من ذلك مثلا أنني قرأت دونكيخوتِ دِ لامانتشا
كاملة من الغلاف إلى الغلاف. كنتُ على الدوام أحسّ بالخجل والتقصير، فالانتماء لعالم الأدب والاجتراء على فنّ الرواية لا يستقيمان لمن لم يقرأ تحفة سِرفاتنِس العجيبة. قرأت مترجمات أخرى عديدة في الشعر والرواية. عدت لأدونيس، عبد اللطيف اللعبي وآخرين أعدت قراءتهم بمزاج صافٍ هذه المرّة، وخارج حسابات التّحضير لا لندوة ولا لتصوير. رُبَّ ضارةٍ نافعة إذن. وحينما استتبَّ الصيف بمراكش، حارًّا كالعادة، لم أجرّب الانفلات لا هنا ولا هناك. اعتبرتُ صبري على قيظ المدينة سلوكًا مُواطِنًا. سافر الأصدقاء تباعًا. والأهل سافروا. وأنا في الحمراء لم أبرحها. كأنّي لستُ العابر.. لست صاحب دفتر العابر
ولستُ القائلَ مع المتنبي:
ذَراني وَالفَلاةَ بلا دَليلٍ / ووجهي والهجيرَ بلا لِثام / فإنِّي أستريحُ بِذي وهذا / وَأتعَبُ بالإنَاخَةِ والمُقامِ”.
انتظرت حتى نهاية أكتوبر، لأحسّ بأن المقام في مدينةٍ حمراءَ لا بحر فيها قد نال مني ولم أعد قادرًا على احتمال البُعد عن الزُّرقة. كيف يمكن للمرء أن يعيش سنة كاملة بدون موجٍ يصطخب أمامه وهديرٍ يدغدغ سمعه ونوارسَ تحلّق فوقه؟ لكننا في نهاية أكتوبر. ونوفمبر الرّمادي على الأبواب. لا حلّ إلّا أكادير. تذكّرتُ إعلانًا قديمًا صادَفْتُه مرّةً في قلب مطار هيثرو يحرّض على أكادير. شمسٌ ساطعةٌ طوال 300 يوم على مدار السنة. الشاطئ الملكي الممتدّ على ضفة المحيط الأطلسي على امتداد كيلومترات. هناك حيث يمكنك السباحة شتاءً. حسنًا، ما زلنا في عزّ الخريف. والإعلان القديم الذي صادفته قبل عقد في مطار هيثرو يلحُّ عليّ بقوة وكأنني تلقيته بالأمس فقط، فحسمتُ أمري.
تركتُ مراكش تعيش انتعاشة سياحية صغيرة بسبب العطلة. فوجدت الانتعاشة ذاتها تدبُّ في أوصال أكادير. لكنني كنت سيّء الحظ. فالفندق الذي استدرجتني إليه بوكينغ كان بلا استقبالات. الكونتوار خاوٍ على عروشه. شرح لي بوّاب الفندق أن ولوج الزّبناء الجدد لا يتمّ قبل الرابعة. لا بأس. فلأنتظر في باحة الاستقبال إذن. كان الزبناء يتوافدون فرادى وزُمرًا ويتوزّعون على ردهات استقبالات الفندق، فيما الكونتوار مهجورٌ إلى أن دقّت الرابعة. الرابعة بالضبط. حينها فقط هلّ هلال موظف الاستقبال. اصطفّ الزبناء في طابور، وبدأ الرجل يشتغل على أقلّ من مهله. كان يشتغل بضجر موظف حكومي يكابد وظيفة روتينية لا راتبُها يكفي ولا البقشيش فيها مُتاح. بعد نصف ساعة تقريبًا التحق به زميل له. استبشرنا خيرًا. هكذا صارت الأمور أفضل قليلا. سألت موظف الاستقبال حين حلَّ دوري، بعد أكثر من نصف ساعة في الطابور، على سبيل الفضول: “أما كان أجدر لو شرَّفتُم قبل الرابعة؟ هناك زبناء كانوا موجودين منذ الثالثة وقبلها؟ كان أفضل لو خدمتموهم بأريحية ولينتظروا الرابعة إذا كان موعد ولوج الغرف لديكم مُقدَّسا. على الأقل كي لا نجد أنفسنا في مثل هذا الطابور الغريب. وإلا، فما دام المغادرون مطالبين بإخلاء الغرف في منتصف النهار، فالمؤكد أن بعض الغرف المُخْلاة كانت جاهزة على الواحدة وربما الثانية بعد الظهر أو الثالثة. وكان بالإمكان أن توفِّرُوا لبعض الزبناء غرفهم قبل الموعد. سيكون كرمًا محمودًا منكم وأنتم بالنهاية لا تبيعون سوى كرم الضّيافة ولطف الاستقبال. هذه مهنتكم فيما أتصوّر. لكن موظف الاستقبال كان منشغلًا بي عنّي، مستغرقًا في “خدمتي” في صمت متجهِّم. لا وقت لديه يضيِّعه في الكلام الفارغ. الظاهر أنني في “كومونة”، قلت في نفسي، إدارتها صارمة والقبضة فيها حديدية. لذا التزمتُ الصمت.
وأخيرًا استلمتُ غرفتي، بعد الخامسة بقليل. فاتني وقت البحر. عليَّ بالمسبح إذن. على الأقل لأزيل عنّي في حوضه بعض وعثاء السفر. لكنني اكتشفت أنّ المسبح مزدحمٌ بالأطفال، وشرطُ التَّباعد غير متوفر. انتبَذْتُ مكانا في أقصى المسبح على اليمين وواصلت قراءتي في رواية هوليود. لشارل بوكوفسكي
إنما في لحظة أثارني شخص غريب خرج من بلكونة غرفته في الطابق الأرضي وتوجّه بخطى ثابتة باتجاه الحوض. وقف أمامه وبدأ يرغي ويزبد، كأنّه يتوعّد الماء. كان يرتدي كيلوطًا بيتيًّا حميمًا من النوع الذي لا يصلح لا للسباحة ولا للاستعراض. كان يرتدي الكيلوط إلى مستوى مرتفع يكاد يعلو سُرّته. ثم في لحظة هجم على الماء. ارتمى وسط الحوض بضراوةٍ أخافت الأطفال الذين كانوا يسبحون بجواره. توجّستُ أنا الآخر، فغادرتُ المكان.

Related posts

Top