نفحات رمضانية في رحاب الشعر الملحون -الحلقة 19-

فن الملحون من أنواع الطرب التي ابتكرها المغاربة بعد أن تأثروا بالموسيقى الأندلسية خلال القرن السابع الهجري في العهد الموحدي للمغرب، فوظفوا النغمات والإيقاعات للتغني بقصائد الشعر والنثر سواء باللغة العربية الفصحى أو باللهجة الدارجة.
وبدأ الملحون بالمدح النبوي ومناجاة الله ثم الرثاء، وكان له دور كبير في المقاومة ضد الاحتلال الإسباني والفرنسي والبرتغالي، وانتشر الملحون بين الناس كفن شعري وإنشادي وغنائي، موطنه الأول كان مدينتي سجلماسة وتافيلالت الأمازيغية– جنوب المغرب- ثم انتشر ليصبح فنا شعبيا تتغنى به الفرق في مختلف مدن المغرب. وتشتمل قصيدة الملحون على كلام ينتظم، لكن في غير ضبط محكم لوحدة الوزن فيه والقافية، وتنقسم قصيدة الملحون إلى خمسة أركان، هي المقدمة، أو السرابة وهي قطعة قصيرة تؤدى على غير ما تؤدى به القصيدة، ثم الدخول، وهو شطر في استهلال القسم بدون عجز، والقسم الثالث هو الحربة، وهي اللازمة، ويؤديها الشداشة وهم جماعة المغنين والعازفين، والقسم الرابع هو الأقسام، وهي الأبيات المغناة، أما القسم الخامس فهو الدريدكة، وتختم القصيدة وتنشد على إيقاع سريع.
وارتبط الملحون كفن مغربي أصيل بشهر رمضان، وذلك منذ ثمانية قرون تقريبا، حيث تتاح خلال الشهر فرص زمنية للاستماع والاستمتاع بهذا الفن الذي يتميز بالتزامه بقواعد اللغة العربية الصحيحة في الغناء، واختيار القصائد العظيمة لعمالقة الشعر الصوفي لغنائها، وحتى اللهجة المغربية لا يتم غناء أي كلمات لا تلتزم بآداب وضوابط هذا الفن الأصيل. ولا غرابة في ذلك، فالملحون رسالة فنية وليس مجرد غناء للتسلية، ونجد فيه تمسكا بالآلات الوترية والايقاعية الأصيلة والتي تضيف للكلمات العربية الفصحى نوعا من السحر الذي يصيب قلوب المستمعين قبل آذانهم.
نعم، لقد توفق شاعر الملحون في أن يرسم صورة جميلة جدا لما يزخر به هذا الكون من مظاهر ربانية، تدل بشكل مطلق على عظمة وجلال الخالق . ومن ثمة، توجه بفكره وقلبه ليتفكر في ملكوت السماوات والأرض، ما دام التفكر عبادة حرة طليقة، لا يحدها ـ فيما عدا التفكر في ذات الله تعالى ـ عائق ولا قيد من مكان أو زمان أو عيب أو شهادة. وشاعر الملحون حين كان يجيل النظر، لا يرى حوله إلا دقة الصنع الإلهي، وجمال إبداع الكون  فيزداد خشية على خشية، وتعظيما لربه سبحانه وتعالى ..” الذي أحسن كل شيء خلقه، وبدأ خلق الإنسان من طين. “

 إن النماذج الشعرية التي سقناها سابقا، ذات وجوه ودلالات متعددة. فقد منح شعراء الملحون شعرهم بعدا تصويريا اتخذوا من خلاله معراجا لمعاني دينية، وأضافوا عليه من تجربتهم الحياتية ما يقوي إيمانهم بخالقهم. وقد ألهمهم شهر رمضان المزيد من التفكر والتأمل في خلق الله.
    فشاعر الملحون يتخذ من الصور الطبيعية نوعا من المعادل الموضوعي لتجسيد إيمانه وحضوره الروحي. ولعل ما يلفت النظر حقا، هو أن شاعر الملحون لا يكتفي بتوجيه النظر إلى مجال الطبيعة المباشرة، وإنما يعبر بمشاهد الطبيعة عن المعاني النفسية والفكرية، وإن جاءت في غير قليل من الأحيان مقترنة بنوع من الدعوة إلى التأمل في ملكوت الله وقدرته. يقول الحق سبحانه: ” قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق” وقوله تعالى: ” ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ..” 
لا نجازف إذن، إذا قلنا بأن شاعر الملحون قد اجاد فيما أبدع من قصائد تهم موضوع التأمل والتفكر فيما خلق الباري سبحانه .. مبتغيا الفوز برضى خالقه والتوبة والإنابة إليه عز وجل. وهذه الإنابة إلى الله، حاضرة بقوة عند شاعر الملحون، على حد ما نجد عند الشاعر اليوسفي الفيلالي :
        فيق أراسي فيق فيق وراك بقيتي في الطريق
       ما عندك زاد ولا رفيق غير افعالك وعمالو
       ما درت فعال ولا اعمال لمن نشكي حملي تقال
       من لا يقرا ولا يسال ضايع في الدنيا حالو
      ضيعت وقات الصلا ومشا لي عمري خلا
      كيف اللي تالف وانجلا لا من يلقاه يسالو
      أراسي يا راسي خليت ما صليت ما قريت
      حتى شبت هلي وعيت وراسك شاب كحالو
      توب أراسي توب توب يزاك خلاص من د الدنوب
     ضيعت اشبابك في اللعوب ومشى العمر في حالو ..
ولعل الناظر في هذه الأبيات، يدرك ـ لا محالة ـ دعوة شاعر الملحون إلى مراجعة الذات ومحاسبتها، وهو دور تربوي في غاية الأهمية، يميل بالصائم إلى إعادة النظر في مسيرة حياته حتى يصبح لها معنى وقيمة :
      الدنيا يا راسي تفوت ما يبقاشي من لا يموت
     وين رفاقك وين لخوت من مشى ما بان خيالو
     الدنيا يا راسي غرور لا تامنهاش راها تدور
     من بعد تعطي ترجع قشور مهبول اللي تحلا لو …
فلا شك أن تشبع شاعر الملحون بعقيدته الدينية، خلق منه إنسانا مؤمنا فطنا، استطاع أن ينتبه بعقله وقلبه إلى الإخلاص لخالقه عز وجل، وإلى ما يوحي به ذلك الإخلاص من فعل الطاعات وترك المخالفات، تنفيذا لأوامر الحق سبحانه ونواهيه .
  وتأسيسا على ذلك، دعا شاعر الملحون في قصائده الرمضانية إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهو أمر لم يكن عنده عبثا ولغوا، بل نتيجة تشبثه بالقيم المثلى لدينه الحنيف. ذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يتعلقان بالدعوة إلى خير الإنسان، ونهيه عما لم يبحه الشرع، وكذا بالتقوى والعمل الصالح، أي كل ما يعمل على تزكية النفس وتهذيبها وتقويمها. والدعوة إلى الخير والمعروف وحسن المعاملة، تحرير للنفس من حي الحياة وملذاتها وشهواتها، وذلك أرقى ما تهفو إليه النفس البشرية، وهو مطلب أساسي في الدين الإسلامي. ومن هنا جاءت دعوة شاعر الملحون إلى النهي عن اتباع خطوات الشيطان والإمساك عن الحديث عن أعراض الناس، وترك المشاركة في كل ما يؤذي المسلم.

يكتبها لـ” بيان اليوم”  الدكتور منير البصكري الفيلالي

*نائب عميد الكلية متعددة التخصصات بأسفي سابقا

Related posts

Top