نوح لا يعرف العوم” لرشيد الوالي: فداحة الواقع

 عرض النادي السينمائي لسيدي عثمان بمدينة الدار البيضاء، مساء الجمعة الماضي، الفيلم السينمائي الأخير للممثل رشيد الوالي “نوح لا يعرف العوم” وهو ثاني فيلم للوالي كمخرج، بعد فيلمه الأول “يما” الذي حصل على عدة جوائز سينمائية أهمها جائزة أفضل ممثل في مهرجان السينما والهجرة بأكادير، وهو أمر تعودنا عليه حقيقة مع رشيد الوالي، الذي يمثل أحد أهم الوجوه الفنية التي وسمت السينما المغربية في فن التمثيل لأكثر من 30 سنة، تنزل من خلالها منزلة رفيعة ومرموقة كممثل في المشهد السينمائي المغربي إلى جانب جملة من الممثلين ممن صنعوا مجد السينما المغربية، كيونس ميكري وسعيد باي ومحمد البسطاوي ومحمد خيي على سبيل المثال لا الحصر. لا أحد منا ينكر قيمة ما لعبته مثل هذه الأندية السينمائية، التي احتضنت هؤلاء الممثلين من أدوار طلائعية في توطيد الثقافة السينمائية داخل المجتمع المغربي المتأرجح بين الحداثة والتقليد من خلال لقاءات ومحاضرات وعرض لأفلام سينمائية مختلفة ومناقشتها إبان سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم، ولا سيما أن هذه الأندية السينمائية ظلت في يد اليسار المغربي والذي لعب دورا كبيرا في تسييرها والتعريف بالتجارب السينمائية الواعدة في تلك الفترة، وهي تجارب استطاعت أن تخط لها مسارا سينمائيا متميزا منذ سنوات إلى اليوم، إذ هي الأسماء عينها (ممثلون، مخرجون، نقاد)، التي تمثل السينما المغربية في الكثير من المهرجانات والملتقيات والمحافل الوطنية والدولية.
يحكي فيلم “نوح لا يعرف العوم” على مدى 90 دقيقة، والذي شخص أدواره كل من: رشيد الوالي، سعيدة بعدي، فاطمة عطيف، فاطمة الزهراء بلدي، حسن فلان، هشام الوالي.. . قصة طفل مغربي “عطيل” يولد بدون ذراعين. تموت والدته “يامنة” غرقا في النهر، ليشكل هذا الحدث البداية الحقيقية للفيلم والانتكاسة النفسية التي ستصيب زوجها “نوح” الذي سيجد نفسه وحيدا وملزما بتربية ورعاية ابنه الصغير عطيل المغرم بـ”جمانة” أحد أفراد عائلة شيخ القبيلة “عطاش”. تستمر مشاهد الفيلم في هدوء وحميمية بين نوح وابنه عطيل إلى دخول الفتاة جمانة إلى حياتهما وهربا ذات ليلة من زوج أمها “عطاش” خوفا من اغتصابها مرة ثانية بعد أن تكتشف قبل موتها أنها حامل منه وأيضا لتخبره أنه يشك في علاقتها بنوح. وفي أحد المشاهد أمام بيت نوح على إثر اصطدام وتشابك بين الشيخ وجمانة تقتل هذه الأخيرة الشيخ (زوج أمها). ويتهم نوح بجريمة القتل ليقرر الهرب مع ابنه عطيل وجمانة بين القبائل المغربية الواقعة في الجبل. لقد مثّل الفيلم حقيقة صرخة قوية في وجه ظاهرة الإعاقة وزنا المحارم، كأحد السلوكات الاجتماعية البدائية، التي ظلت مكبوتة في المغرب المنسي منذ أمد بعيد. إذ كشف الفيلم عن فداحة الواقع المغربي وما تعيشه القرية المغربية من ألم وتنكيل لحقوق القاطنين بها من طرف المؤسسة المخزنية، التي مثلها في الفيلم أحد أعوان السلطة وهو الشيخ، وما كانت تفرضه هذه المؤسسة من قوانين وسياسات زجرية في حق سكان القبائل وتجنيدهم بالقوة لمحاربة النصارى. كما كشف الفيلم أيضا عن هشاشة القرية المغربية وفقرها وضعف الاهتمام بها وبحياة سكانها، وهي مسألة ليست بالجديدة داخل الفيلم، وإنما تعودنا عليها في جل الأفلام المغربية، التي حاولت نوعا ما إبراز الخصوصيات والمميزات التراثية والمجالية للقرية المغربية، وهي من الأشياء التي آخذتها عن فيلم الوالي، وهي سقوطه في نفس المواضيع الكلاسيكية حول القرية وشخصياتها.
شخصيا لم يرق لي الفيلم كثيرا، وإن كانت بعض مشاهده تستحق منا أكثر من مشاهدة، فالوالي يستطيع دوما أن يتسلل إلى قلب الجمهور المغربي من خلال طرحه لمواضيع اجتماعية ونفسية يعيشها الشعب المغربي يوميا، وهو ما يفسر تناوله لموضوع جد مؤثر وهو الإعاقة. لكن الطريقة المذهلة التي جسد بها رشيد الوالي دور “نوح” تعطينا جرعة أمل تجاه الفيلم، إذ تصبح الصورة السينمائية داخل الفيلم، فعل مقاومة ضد تفاهة الواقع والتاريخ بكل أبعاده الاجتماعية والسياسية. إنه فيلم يعكس بشكل مستتر وخفي صورة جارحة لتفشي واستمرارية الظاهرة المخزنية في البوادي المغربية، وهي مسألة كان قد انتبه لها السوسيولوجي الراحل بول باسكون، وتكمن في الحضور القوي للمخزن في القرية من خلال الثلاثي الأكبر لتمظهراته: المقدم والشيخ والقائد، والتي كانت قد أفرزتها بعض التكتلات القبلية منذ العصر الوسيط، وكيف أن حضورها ووهجها مازال حاضرا إلى حدود اليوم حتى بالمدن في وقت “اختفت” فيه الميثولوجيات السياسية والقمعية. يقول بول باسكون في هذا الصدد حول تركيبية المجتمع المغربي “المجتمع المغربي…هو مجتمع قائدي مخزني يسيطر على نظام قبلي في طور الاندثار، ويسيطر على نظام أبوي (بطريركي) ما زال قائما ضمن الخلية العائلية ومن خلال وضعية المرأة، لكن هذا النظام الإقطاعي برمته يدخل تحت سيطرة النظام الرأسمالي العالمي كما يتجلى ذلك في ميدان الإنتاج والتبادل”. كما أن الفيلم بني بنفس حكائي مسترسل مغرق في التراثية، تكسر من إيقاعيته الرتيبة من حين لآخر، بعض المشاهد الطريفة للساكنة حول شيخ القبيلة، وهو يواجه صدمة الحداثة. وتعد الموسيقى التصويرية داخل الفيلم، والتي حصلت على جائزة أفضل موسيقى في مهرجان الوطني للسينما بطنجة في دورته الأخيرة، أهم مكون فني صنع مجد الفيلم وأتاح له إمكانيات أخرى للفهم والحلم والسفر بعيدا في مشاهده في بعدها الاجتماعي والنفسي، والذي ارتبط أساسا بفترة جد مهمة من تاريخ المغرب العميق قبيل الاستقلال.
وتجدر الإشارة، أنه بعد انتهاء الفيلم تم فتح مناقشة تضمنت جملة من الممثلين والنقاد، وإن كانت هذه الجلسة قد طرحت في نظري إشكالا كبيرا يتعلق بالثقافة السينمائية داخل المجتمع المغربي بمن فيهم داخل النقاد والممثلين أنفسهم، والذي يتمثل في غياب آليات ووسائل تفكيك الصورة السينمائية وفهم طرائق تشكلها واشتغالها من مشهد إلى آخر، فعوض الغوص في بنية الفيلم الفنية اكتفى المتدخلون بأهم المواضيع التي تطرق إليها الفيلم وتقييم جودة وضعف الممثلين وأهم المشاكل العويصة التي تعترض سير وتقدم السينما المغربية وضعف الدعم المادي، الذي يقدمه المركز السينمائي المغربي لدعم الأفلام السينمائية، في خضم ما تشهده الساحة المغربية من تحولات على المستوى الإنتاج السينمائي محققا المغرب بذلك مراتب “متقدمة” داخل المشهد السينمائي ليس عربيا فقط وإنما في حوض البحر الأبيض المتوسط ككل، بعد مصر وجنوب إفريقيا.

 >أشرف الحساني

Related posts

Top