قال رئيس الفرقة الوطنية للشرطة القضائية، هشام باعلي: إن العمليات الميدانية أبانت على أن الخلايا الإرهابية كيانات متحركة وغير جامدة، بل يمكن الجزم والقول بأنها أصبحت عالمية وكونية، خاصة مع الانترنيت التي ساعدتها في تحقيق ذلك، مشيرا إلى أن السياقات الدولية عامل حاسم في انتشار هذه الخلايا جغرافيا وإيديولوجيا، وخير مثال على ذلك ما وقع ويقع حاليا في الساحة الدولية كأفغانستان وسوريا والعراق وليبيا ودول الساحل، التي أصبحت بؤرا لاحتواء هذه الخلايا.
وشدد باعلي في حوار خاص مع جريدة بيان اليوم، على أن منطقة الساحل والصحراء أصبحت ملاذا لكثير من التنظيمات الإرهابية والمتطرفة من أقصى الساحل الإفريقي بالمغرب إلى أقصى الساحل بالشرق، مبرزا أنه مع سقوط دولة الخلافة نتيجة التحالف الذي قادته الولايات المتحدة الأمريكية، وجد المقاتلون الإرهابيون موطئ قدم لهم في إفريقيا (الساحل والصحراء) التي تعاني من تراجع قدراتها على القيام بوظائفها الرئيسية، وفي مقدمتها الوظيفة الأمنية، ما أدى إلى فشل العديد من دول القارة في السيطرة على حدودها المترامية الأطراف والتي أصبحت ملاذا لكثير من التنظيمات الإرهابية والمتطرفة.
وأشار رئيس الفرقة الوطنية للشرطة القضائية، إلى أن الأحداث الإرهابية التي عرفتها مدينة الدار البيضاء بتاريخ 16 ماي 2003 عجلت بالقطيعة مع الاعتقاد الذي كان سائدا بكون المغرب في منأى عن التهديدات الإرهابية، كما عجلت بوضع إستراتيجية تروم تحصين المجتمع من آفة التطرف والإرهاب من خلال مقاربة شمولية همت العديد من المجالات.
واعتبر باعلي أن الجريمة التي تعرض لها شرطي المرور مؤخرا تدل على أن الخطر الإرهابي مازال محدقا ويتربص بالأبرياء من المواطنين، الشيء الذي يفرض على الأجهزة الأمنية خاصة منها الفاعلة في مجال محاربة الجريمة الإرهابية رفع التحدي، مؤكدا أنه على مدى 20 سنة، وإلى حد ما، تم النجاح في محاربة الظاهرة والحد من خطرها بنسبة 99,99 بالمئة، باعتبار أن الإرهابيين يتكيفون مع المقاربة الأمنية أو السياسية العالمية، ودائما يكون هناك جديد
وهذا نص الحوار:
> بمناسبة مرور عقدين من الزمن عن أحداث 16 ماي 2003 الإرهابية، كيف هي حصيلة نجاعة التنسيق في إطار القطب الأمني الذي تشكله المديرية العامة للأمن الوطني والمديرية العامة لمراقبة التراب الوطني، تحت رعاية مؤسسة إمارة المؤمنين، وما هي الآثار الإيجابية لهذا التنسيق في مكافحة الإرهاب ومحاربة الجريمة عموما؟
< بالفعل قد مر الآن عن أحداث 16 ماي عقدين من الزمن، ويشار إلى أنه قبل هذه الأحداث الإرهابية كانت الأجهزة الأمنية تعمل في محاربة الجريمة الإرهابية، ففي سنة 2001 تم تفكيك الخلية الإرهابية التي كانت تستهدف قطع بحرية بجبل طارق، وتورط فيها مواطنون سعوديون، وتم إيقاف عصابة إجرامية خطيرة كان يتزعمها يوسف فكري، والتي قامت بمجموعة من أعمال القتل والاعتداءات باسم الدين.
غير أن الأحداث الإرهابية التي شهدتها مدينة الدارالبيضاء سنة 2003، شكلت منعطفا خطيرا أو جديدا في تاريخ المغرب، ذلك أن المجتمع المغربي يعيش على دين التسامح والوسطية والاعتدال، وهذه الأحداث العنيفة غريبة عن أعرافه وتقاليده ونمط عيشه على مدى قرون، وتم التأكد حينها على أن المغرب ليس في منأى عن الهجمات الإرهابية التي عرفتها مجموعة من الدول.
فتزامنا مع هذه الأحداث كانت عملية إرهابية بالظهران بالسعودية وفي بالي باندونيسيا وفي مدينة جربة التونسية، ومسلسل من هذه العمليات كان تزامنا مع أحداث الدار البيضاء، بل كانت هناك أحداث مدريد في 2004 وغيرها من البلدان الأوروبية.
ومما لا شك فيه فإن الأحداث الإرهابية التي عرفتها مدينة الدار البيضاء بتاريخ 16 ماي 2003 عجلت بالقطيعة مع الاعتقاد الذي كان سائدا بكون المغرب في منأى عن التهديدات الإرهابية، كما عجلت بوضع إستراتيجية تروم تحصين المجتمع من آفة التطرف والإرهاب من خلال مقاربة شمولية همت العديد من المجالات، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
– المجال القانوني حيث تم إصدار القانون 03-03 المتعلق بمكافحة الإرهاب، الذي ما فتئ يتطور وفق ما تشهده الجريمة الإرهابية من تطور، كما هو الحال عند التنصيص على تجريم الالتحاق ومحاولة الالتحاق ببؤر التوتر الإرهابية.
كما تم تعيين محكمة واحدة لمعالجة القضايا الإرهابية وهي محكمة الاستئناف بالرباط، حتى يتأتى لها أن تستجمع كافة عناصر هذا النوع من الجرائم على غرار الدول الأخرى.
– المجال المؤسساتي حيث تم إحداث وحدة معالجة المعلومات المالية التي تم مؤخرا تحويلها إلى هيئة وطنية ANRF وهي مؤسسة تابعة مباشرة لرئاسة الحكومة وتعنى بتتبع الأنشطة المالية المشبوهة المرتبطة أساسا بعمليات تبييض الأموال وتمويل الإرهاب.
فمن المؤكد أن المقاربة الأمنية في محاربة الإرهاب لم تكن كافية، فاتسعت لتشمل المقاربة الدينية من خلال توحيد الفتوى وكذلك إعادة هيكلة المجلس العلمي الأعلى وكذلك المجالس المحلية، وكذلك وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية التي أصبحت تؤطر خطب الجمعة.
هناك أيضا مقاربة اجتماعية واقتصادية من خلال مبادرة التنمية البشرية ومحاربة دور الصفيح.
إذن كانت هناك مواكبات أخرى لاحتواء هذه الظاهرة وعلى مدى 20 سنة استطعنا، إلى حد ما، محاربة الظاهرة والحد من خطرها بنسبة 99,99 بالمئة، لأن الإرهابيين يتكيفون مع المقاربة الأمنية أو السياسية العالمية، ودائما يكون هناك جديد.
غير أن قطب الرحى في هذه الإستراتيجية يبقى التنسيق القائم بين المؤسسات الأمنية ممثلا في القطب الأمني الذي تشكله المديرية العامة للأمن الوطني والمديرية العامة لمراقبة التراب الوطني، والمتتبع للشأن الأمني الوطني يلاحظ مدى النجاعة التي ميزت عمل المديرية العامة للأمن الوطني في ظل هذا القطب ثنائي الأضلاع والسرعة في حل ألغاز بعض الجرائم المستعصية وفي وقت قياسي، ولا أدل على ذلك من قضية شرطي المرور الأخيرة.
> حل جلالة الملك محمد السادس بشكل شخصي إلى الدار البيضاء على خلفية أحداث 16 ماي 2003 الإرهابية، كما حضر جلالته إلى عين المكان بمدينة مراكش على خلفية أحداث أركانة في فبراير 2011، ما هي دلالات هذا الحضور وكيف أثر على سير البحث والتحقيق ومعنويات العناصر التي أشرفت على الملفين؟
< صاحب الجلالة نصره الله باعتباره أمير المؤمنين، هو حامي الملة والدين والضامن لحرية ممارسة الشؤون الدينية فوق تراب المملكة، وبالتالي فهو الضامن للأمن الروحي للمغاربة وفق مذهب معتدل ووسطي كما أنه الضامن للأمن بصفة عامة لرعاياه ولضيوف المملكة، كما أنه شكل ولا زال يشكل دعما ذو قيمة كبيرة لجميع المصالح الأمنية والعناصر العاملة بها لتقديم المزيد من الجهود في سبيل ضمان أمن المغاربة وسلامتهم وصيانة استقرار البلاد والحفاظ على النظام العام.
ومما لا شك فيه فإن الأعمال الإرهابية مهما كانت درجة خطورتها فهي تترك آثارا وخيمة على المستوى النفسي فيما يتعلق بالضحايا وذويهم أو على المستوى المادي من خلال الخسائر المادية الفادحة التي تعقبها.
جلالة الملك نصره الله وحرصا منه على دوره الأبوي ورعايته التي يشمل بها كافة المغاربة وحتى الأجانب المتواجدون فوق التراب المغربي، فإنه لا يتوانى في تجسيد هذا الدور من خلال حضوره الفعلي إلى مكان ارتكاب هذه الأفعال الإجرامية الدنيئة ومواساته للضحايا والتكفل بعلاجهن، كما أن جلالته لا يفوت الفرصة في التواصل مع الفعاليات الأمنية العاملة على الميدان من أجل إسداء النصح لها مما يزيد من معنوياتها ويشكل عامل تحفيز لها في الأبحاث والتحريات التي تقوم بها.
> على مستوى الفرقة الوطنية للشرطة القضائية، ما هي أهم التطورات والتغيرات التي عرفتها المؤسسة في إطار مكافحة الإرهاب والتطرف سواء على مستوى الموارد البشرية أو التقنية؟ ثم التطورات التي عرفتها محاربة الإرهاب على مستوى القطب الأمني الذي تشكله المديرية العامة للأمن الوطني والمديرية العامة لمراقبة التراب الوطني، الذي كانت انطلاقته الحقيقية مع تعيين السيد عبد اللطيف حموشي مديرا عاما لكلتا المديريتين؟
< الفرقة الوطنية للشرطة القضائية هي فرقة رائدة في مجال محاربة الجريمة بصفة عامة والإرهابية منها على وجه الخصوص، وقد اشتغلت على هذا النوع الأخير من القضايا منذ سنة 2002 عندما حاولت خلية تتكون من بعض المواطنين العرب استهداف بوارج حلف الشمال الأطلسي العابرة لمضيق جبل طارق، لتليها بعد ذلك الأحداث الإرهابية لسنة 2003 ولتتوالى عقب ذلك عمليات تفكيك الخلايا الإرهابية ومنها: خلية فتح الأندلس، خلية المرابطون الجدد، خلية أمكالا وغيرها…، وقد استمر العمل بهذه الوثيرة إلى غاية سنة 2015 تاريخ بدء العمل بالمكتب المركزي للأبحاث القضائية.
الجانب الاستخباراتي هو جانب مهم في محاربة هذه الظاهرة، ولعبت فيه مديرية مراقبة التراب الوطني دورا كبيرا، واستطاعت على مر هذه السنوات تكوين جيل أصبح يمتلك خبرة كبيرة في التعامل مع هذه القضايا. ومن أهم الركائز التي يعتمدون عليها هو الدور الاستباقي قبل وقوع الجريمة الإرهابية، لأن الجريمة الإرهابية متى وقعت تكون قد حققت هدفها، سواء إعلاميا بالنسبة لبروباغاندا الجماعات الإرهابية، أو لأنها تمس بالنظام سواء اقتصاديا أو من حيث الشعور بالأمن، فهي تكون ذات تأثير سلبي على المجتمع.
وعلى الرغم من إنشاء هذا المكتب وتخصصه في محاربة الجريمة الإرهابية، فقد بقي دور الفرقة الوطنية للشرطة القضائية فاعلا في هذا المجال من خلال الاشتغال على تنفيذ الإنابات القضائية الدولية، ومحاربة جميع أشكال الإشادة بالأعمال الإرهابية أو الإشادة بالتنظيمات الإرهابية والدعاية والترويج لها أو الانتماء لجماعات دينية متطرفة، علما أن الفرقة الوطنية للشرطة القضائية تشتغل في هذا المجال في إطار القطب الأمني المديرية العامة للأمن الوطني والمديرية العامة لمراقبة التراب الوطني بتنسيق وثيق ومباشر مع المديرية العامة لمراقبة التراب الوطني.
هذا ومن أجل القيام بعمل كهذا عملت المديرية العامة للأمن الوطني على توفير كل وسائل العمل من إمكانيات تقنية وموارد بشرية وخير دليل على ذلك البناية التي تشتغل بها حاليا الفرقة الوطنية للشرطة القضائية والتي تضاهي في بنائها ومرافقها وأدوات اشتغالها كبريات المؤسسات الأمنية العالمية.
فيما يخص العنصر البشري، فهناك تكوين مستمر للعناصر التي راكمت خبرة منذ سنة 2001، وهناك أيضا الجدد الذين التحقوا من المعهد الملكي للشرطة للعمل بهذه الفرقة، والتي من خلال التئامها بالعناصر السابقة يستفيدون من خبرتهم ويضيفوها إلى ما تحصلوا عليه من تكوين، سواء في الكليات بسلك الإجازة أو غيرها من ديبلومات المعهد.
ليس فقط جانب العنصر البشري، بل كذلك تم التزود بالوسائل اللوجستيكية اللازمة، السيارات ومختبرات الآثار الرقمية ومختبر الشرطة العلمية والتقنية الذي تم تجهيزه بأحدث الأجهزة… إلخ.
إذن الإدارة تسير بخطى سريعة، ظهرت تجلياتها بوضوح منذ سنة 2015، حيث إن هناك قفزة نوعية في المؤسسة الأمنية، وتلاحظونها أنتم الآن عندما تحضرون إلى بناية الفرقة الوطنية للشرطة القضائية، وكيف أن البناية هي بتصميم عالمي تتوفر فيه الظروف الملائمة للعمل.
> ما هي أهم التطورات الجيوستراتيجية التي يتم تسجيلها على مستوى نشاط الخلايا الإرهابية والفكر المتطرف خلال العقدين الأخيرين؟
< لعل أهم التطورات الجيوستراتيجية التي يتم تسجيلها على مستوى نشاط الخلايا الإرهابية والفكر المتطرف خلال العقدين الأخيرين، تلك المرتبطة بالتحالف بين الجماعات الإرهابية وعصابات الجريمة المنظمة خاصة بالقارة الإفريقية التي يشكل المغرب جزءا من فضائها.
فمنطقة الساحل والصحراء مثلا أصبحت ملاذا لكثير من التنظيمات الإرهابية والمتطرفة من أقصى الساحل الإفريقي بالغرب إلى أقصى الساحل بالشرق، وقد تبلورت ظاهرة الاعتماد المتبادل بين الجماعات الإرهابية وشبكات الجريمة المنظمة في أفريقيا، من خلال محاولة كل طرف توظيف الآخر لتحقيق أهدافه لتعويض الضعف في التمويل بعد وجود إرادة دولية للتشديد على التدفقات المالية نحو التنظيمات الإرهابية، وقد تعددت صور ممارسة الجماعات الإرهابية للنشاط الإجرامي، مثل عمليات الاختطاف وطلب فدية، الاتجار في البشر والمخدرات، تهريب البضائع وتجارة الأسلحة.
إن نشاط الفكر المتطرف مرتبط دائما بالأوضاع السياسية العالمية، فمثلا تأثرت هذه الخلايا في بداية الألفية الثالثة بالحرب الأفغانية، والصراع العربي الفلسطيني، مرورا بالحرب على العراق، والفترة التي عرفت بالربيع العربي والتي أنتجت لنا ما يسمى بـ”الدولة الإسلامية”، والذي لم يعد حاليا كيانا قائما بصفته تنظيم إرهابي فقط بل أيديولوجية عالمية واسعة الانتشار اعتمادا على شبكة الإنترنيت والتي أضحت معتمدة من قبل المتطرفين في جل بقاع العالم، والتي تنبني إستراتيجيتهم على القتل والتدمير، لكن نحن في المغرب خاصة على مستوى الجهاز الأمني على وعي تام بهذه التطورات، ونتابعها بشكل دائم في إطار الإستراتيجية الاستباقية التي تنهجها المملكة المغربية تحت قيادة جلالة الملك.
من خلال العمليات الميدانية تم الوقوف على أن الخلايا الإرهابية كيانات متحركة وغير جامدة، بل يمكن الجزم والقول بأنها أصبحت عالمية وكونية، خاصة مع الإنترنيت التي ساعدتها في تحقيق ذلك، وكما أشرنا سابقا فالسياقات الدولية عامل حاسم في انتشار هذه الخلايا جغرافيا وأيديولوجيا، وخير مثال على ذلك ما وقع ويقع حاليا في الساحة الدولية كأفغانستان وسوريا والعراق وليبيا ودول الساحل، التي يمكن القول إنها أصبحت بؤرا لاحتواء هذه الخلايا.
في أفغانستان قبل 2001 كانت هناك معسكرات وتنظيم القاعدة وطالبان، وكانوا يستقطبون الأشخاص ويستقبلونهم ويوفرون لهم تدريبات ويعلمونهم فنون القتال وحرب العصابات وغيرها، بعد ذلك حرب العراق وتنظيم القاعدة في بلاد الرافدين حيث أصبحت ساحة للقتال حيث انتقل مجموعة من المغاربة على غرار جنسيات أخرى إلى هناك، وقاتلوا إلى جانبهم.
بعد ذلك ظهر الإرهاب في دول الساحل، حيث ظهرت مجموعات إرهابية كتنظيم “الدولة الإسلامية” في المغرب الإسلامي إلى غير ذلك، نفس الأمر بالنسبة لسوريا بعد الربيع العربي حيث صارت مرتعا وبؤرة للتوتر، إذن فهذه العوامل السياسية هي التي تؤسس بؤرا للتوتر وبالتالي توفر مناخا مناسبا للإرهاب.
> من خلال عمليات مكافحة الإرهاب والتطرف، هل تتغير خريطة انتشار الخلايا الإرهابية والمتطرفين أم تتمركز بنقاط محددة؟ وهل يرتبط تواجدها بمناطق محددة بظروف وسياقات محددة ؟
< مما لا شك فيه فإن خريطة انتشار الخلايا الإرهابية تتغير بتغيير الظروف والسياقات الجيوسياسية، فاشتداد الضربات على تنظيم القاعدة بأفغانستان عقب تفجيرات الحادي عشر من شتنبر، جعل بوصلة التنظيم وأتباعه تأخذ وجهات متعددة، منها على وجه الخصوص نقل الجهاد إلى البلدان الأصلية بعد عودة الجهاديين إليها، قبل أن ينصب التركيز على منطقة العراق والشام التي عرفت التحاق عشرات الآلاف من المقاتلين من مختلف دول العالم وقيام دولة ما يسمى ب”دولة الخلافة” سنة 2014.
مرة أخرى ومع سقوط “دولة الخلافة” نتيجة التحالف الذي قادته الولايات المتحدة الأمريكية، وجد المقاتلون الإرهابيون موطئ قدم لهم في إفريقيا (الساحل والصحراء) التي تعاني من تراجع قدراتها على القيام بوظائفها الرئيسية، وفي مقدمتها الوظيفة الأمنية، ما أدى إلى فشل العديد من دول القارة في السيطرة على حدودها المترامية الأطراف والتي أصبحت ملاذا لكثير من التنظيمات الإرهابية والمتطرفة: بوكو حرام، القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، أنصار الدين، حركة الجهاد والتوحيد، داعش في الصحراء الكبرى… إلخ.
> ما هي أبرز التحديات التي تطرحها الخلايا الإرهابية في ظل التطور التكنولوجي والمعلوماتي؟ وكيف تواجهونها؟
إن التطور السريع لتقنيات الإعلام والاتصال وتنوع شبكات الربط أدى بطبيعة الحال إلى توسيع ميادين استعمال هذه التقنيات سواء على المستوى الثقافي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الإداري وغيره، وقد واكب هذا التوسع في استعمال هذه التقنيات ارتفاع مواز في أرقام الإجرام المرتكب بواسطتها، وهو ما يصطلح على تسميته بالجرائم الإلكترونية أو الجرائم المعلوماتية، الأمر الذي أثر على حقوق الأفراد، حيث وفرت الأنظمة المعلوماتية وسيلة جديدة في أيدي المجرمين لتسهيل ارتكاب العديد من الجرائم.
فخطورة الجريمة المعلوماتية تكمن في كونها تستخدم أحدث التقنيات وتتميز بانتشار مرتكبيها في أغلب الأحيان عبر دول مختلفة، بحيث فقدت الحدود الجغرافية كل أثر في الفضاء الشبكي المتشعب، وأصبحنا بالتالي أمام جرائم عابرة للحدود تتم في فضاء إلكتروني معقد عبارة عن شبكة اتصال لا متناهية متاحة لأي شخص حول العالم وغير تابعة لأية سلطة حكومية.
ولمواجهة هذه التحديات تبنى المغرب إستراتيجية تمثلت في إحداث وحدات متخصصة في معالجة هذا النوع من القضايا منها ما هو متخصص في التحقيقات الالكترونية ومنها ما هو مرتبط بإجراء الخبرة التقنية كإحداث مختبرات لاستغلال الآثار الرقمية وفرق متخصصة في مكافحة الجريمة المعلوماتية، الشيء الذي مكن المغرب خلال السنوات الأخيرة عن طريق عدة عمليات استباقية من تفكيك العديد من الخلايا الافتراضية التي تكونت انطلاقا من الشبكات الإلكترونية وعلى مواقع التواصل الاجتماعي كانت تخطط للقيام بأعمال إرهابية أو لاستقطاب مقاتلين جدد للالتحاق بالتنظيمات الإرهابية بمختلف بؤر التوتر الإرهابية.
وفي هذا السياق عملت المديرية العامة للأمن الوطني أيضا على خلق المكتب الوطني لمحاربة الجريمة المرتبطة بالتكنولوجيا الحديثة بالفرقة الوطنية للشرطة القضائية لأجل تتبع جميع هذه التطورات وجعلها في متناول المحققين المشرفين على الأبحاث في القضايا الإرهابية بالمكتب الوطني لمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، حيث يعمل مختبر الآثار الرقمية التابع له على مساعدة المحققين أثناء مباشرة أبحاثهم، وذلك أثناء تتبعهم لمختلف العناصر المتطرفة التي تم رصدها ويتم رصد لجوءها للتكنولوجيات الحديثة، سواء أثناء ارتكاب جرائم إرهابية أو بعد ارتكابهم لها.
لم يعد من الضروري أن يجتمع مجموعة من الشباب من أجل تكوينهم إيديولوجيا واستقطابهم والتخطيط وغير ذلك، بل أصبحت هذه التنظيمات الإرهابية تمول مواقع كثيرة، بمجرد أن يلجها الشخص يتأثر بها ويتم استقطابه وتكوينه، ويتم منحه طرق لصناعة المتفجرات وغيرها، ويتم عبرها الدعوة لارتكاب عمليات إرهابية، وهنا تظهر ظاهرة الذئاب المنفردة، فيكون التكوين ذاتي من خلال الإنترنت، حيث يتشبع المعني بهذا الفكر ويمكن أن يصنع متفجرات من خلال الإنترنت، وينفذ العمل بشكل أحادي.
هنا المديرية العامة تعي بهذه المسألة ولدينا كفاءات عالية تعمل في هذا المجال في مختبر تحليل الآثار الرقمية، وتمكنا من إيقاف العديد من الأشخاص الذين كانوا يخططون للقيام بأعمال إرهابية.
ما هي المقاربة الحقوقية التي تعتمدها المؤسسة الأمنية في تعاملها مع المعتقلين في قضايا الإرهاب والتطرف (احترام الحراسة النظرية، التعذيب، حقوق المعتقل…؟).
تعتمد المؤسسة الأمنية في تعاملها مع المعتقلين في قضايا التطرف والإرهاب مقاربة مندمجة انسجاما مع الالتزامات الدولية للمملكة المغربية في مجال حقوق الإنسان، بحيث انخرطت المديرية العامة للأمن الوطني في مسلسل توطيد مبادئ حقوق الإنسان في الوظيفة الأمنية وترسيخ قيم الاستقامة والقطع مع الممارسات السلبية في مجال إنفاذ القوانين، فضلا عن اعتماد آليات إجرائية وقائية وأخرى تأديبية للحيلولة دون تسجيل أية تجاوزات شخصية من شأنها المساس بحقوق المعتقلين.
فهناك قناعة راسخة لدى جميع موظفي الأمن الوطني من أجل السمو بمعايير احترام حقوق الإنسان إلى مصاف القيم الإنسانية النبيلة والارتقاء بها إلى منزلة السلوك الجماعي الملزم لكافة منتسبي جهاز الشرطة.
أكثر من هذا فإن مدونة قواعد سلوك موظفي الأمن استحضرت بشكل دقيق جميع الحقوق المكفولة دستوريا، والحريات المضمونة قانونيا والضمانات المقررة إجرائيا وقامت بتجميعها وتبويبها في شكل دليل مرجعي يحدد سلوك موظف الأمن عند ممارسته لمهامه النظامية أو بمناسبة تطبيقه للقانون، مما أضفى على مدونة قواعد السلوك هذه صبغة المرجع السلوكي النموذجي لموظف الأمن في مجال النهوض بثقافة احترام حقوق الإنسان.
أحيانا تكون هناك حوادث معينة إلا أنها حقيقة أحداث شخصية معزولة، تخص شخصا، ويخضع على إثرها للأبحاث والمحاكمة إذا ثبت تجاوزه للقانون.
فقانون المسطرة الجنائية يحدد إطار عمل ضابط الشرطة القضائية -الفصل 66 يقول لك إنه مباشرة بعد إيقاف الشخص تخبره بالأفعال المنسوبة إليه، وله حق الاتصال بالمحامي وبالتزام الصمت-، وكل هذا يدون في محضر الشخص المعني، الذي يستفيد من زيارة المحامي، وإذا كان يعاني من مرض ما فضابط الشرطة ملزم بنقله للمستشفى.
كذلك عندما يتقدم للمحكمة، فهو يخضع للتمديد، حيث يعرض على النيابة العامة، والتي إذا ما لاحظت آثار للتعذيب أو غيرها تعرضه على الخبرة الطبية، وفي حالة ثبوت تعرضه للتعذيب يفتح بحث في الأمر ويتم الاستماع للضابط الذي أجرى معه البحث.
ضباطنا تشبعوا بثقافة حقوق الإنسان، ويقولون: “أنا لست طرفا في القضية، فأنا مسؤول عن تنفيذ القانون فقط”.
لقد طورنا أساليب البحث، ولم يعد الاعتراف السبيل الوحيد للإثبات، فأصبحنا بناء على توجيهات المدير العام نمنح مجالا كبيرا للشرطة العلمية والدليل العلمي، إذن الإدارة استثمرت في الدليل العلمي من خلال المختبرات وكفاءة الأطر.
إذا ما تحدثنا عن الشرطي الذي تم قتله مؤخرا فهناك مجموعة من الأدلة التي ساعدتنا كي نصل للمتهمين، من خلال الكاميرا ومن خلال المختبر حيث فحصت العينات.
بالنسبة للحراسة النظرية يتم تسجيل الشخص في سجل بمراقبة النيابة العامة ويطلعون على السجلات، وأصبحت هذه المرافق مجهزة بالكاميرات، والدولة أصبحت هي المكلفة بالتغذية، وكل هذا لأجل أنسنة ظروف الحراسة النظرية.
إن القيادة لا تتسامح مع من تجاوز حقوق الإنسان في عمله، ويتم معاقبته بشكل شخصي، وهذه الحالات قليلة.
> هل هناك مواكبة و تتبع أمني للمعتقلين بعد مغادرتهم للأسوار السجنية؟ و هل تم تسجيل حالات العود؟
< عملت المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج على إحداث مجموعة من البرامج التأهيلية من ضمنها:
-برنامج مصالحة الذي يهدف إلى تأهيل السجناء المدانين في قضايا الإرهاب بشكل يجعلهم يتصالحون مع ذواتهم ومع المجتمع ومع النص الديني، اعتمادا على مبادئ الوسطية والاعتدال والتسامح.
-التأهيل الفكري والديني من خلال تفكيك خطاب التطرف وتصحيح بعض المفاهيم وتحديد الخلل في خطابات العفو والتطرف.
-التأهيل القانوني والحقوقي من خلال المساعدة على فهم واستيعاب الإطار القانوني المنظم لعلاقة الأفراد بالمجتمع و الدولة.
-التأهيل والمصاحبة النفسيين.
-التأهيل السوسيو اقتصادي لإعادة الإدماج.
-برنامج التخفيف بالنظير بشراكة مع الرابطة المحمدية للعلماء.
-برنامج الجامعات السجنية.
وبعد الخروج من السجن يكون هناك تتبع، الدولة نجحت في تأهيل 98 بالمئة، لكن هناك بعض حالات العود وهي قليلة.
> ما هي استراتيجيتكم في محاربة الإرهاب على المستوى الدولي (التعاون والتنسيق وتبادل المعلومات)؟
< لعل من بين أهم الأسس التي تقوم عليها الإستراتيجية المغربية لمكافحة الإرهاب، المقاربة المبنية على روح الإرادة الجماعية بين المملكة المغربية ومختلف الدول والتي تمت ترجمتها على أرض الواقع عبر شراكات من التعاون الصادق والوفاء بالالتزامات بعيدا عن أية حسابات أو مزايدات ضيقة.
كما أن الطبيعة الدولية للتهديدات الإرهابية تستوجب مقاربة تشاركية على المستوى الثنائي والجهوي والدولي من أجل إيجاد أجوبة فعالة في مواجهة هذه التهديدات.
فتقوية التعاون الميداني للمملكة المغربية أصبح ضروريا وله دور استباقي سيما في ما يتعلق بظاهرة المقاتلين الإرهابيين الأجانب وعائلاتهم وكذا ظهور بؤر إرهابية جديدة.
هناك تعاون مع العديد من الدول الأوروبية كفرنسا وهولندا وإسبانيا وتم العمل بالفعل على المستوى الميداني، وهناك تعاون أيضا مع الولايات المتحدة الأمريكية.
المغرب بالطبع يحتاج للتعاون الدولي لكن أيضا هذه الدول هي بحاجة للتعاون مع المغرب في هذا المجال.
> فيما يهم العائدين من داعش أو بؤر التوتر، ما هي السياسة التي تعتمدونها في التعاطي مع هذا الملف؟
< مما لا شك فيه فإن عودة المقاتلين الإرهابيين تشكل مصدر قلق لدول الاستقبال، فالخطر الذي يمثله الإرهابي العائد يظل قائما على اعتبار أن هذا الأخير هو في الغالب شخص نذر نفسه للموت، تمرس على حرب العصابات، تمكن من تفكيك وتركيب الأسلحة على اختلاف أنواعها بل واستعمالها، انخرط في صناعة المتفجرات كما أنه يبقى دائما عنصرا نشيطا داخل خلية نائمة يمكن تفعيلها في أي وقت، وقد يشكل ذئبا منفردا يمكن تسخيره لارتكاب أعمال إرهابية بحلول الوقت المحدد من قبل التنظيم.
لذلك فالمقاربة المعتمدة في حالة هؤلاء هي مقاربة زجرية عقابية بالدرجة الاولى تخولهم في مرحلة ثانية من الاستفادة من جميع البرامج المعتمدة من طرف المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج كبرنامج مصالحة وغيره؛ وقد صدر سنة 2015 قانون يعنى بهذه الفئة.
أما بالنسبة للنساء، تراعى عدة الظروف، مثل ما إذا شاركت في عمليات إرهابية هناك وما دورها تحديدا؛ فإذا كانت قد التحقت بزوجها أو غيره، فالأجهزة الأمنية تراعي الجوانب الاجتماعية، لكن إذا كانت تشكل تهديدا على أمن المملكة فيتم تقديمها للقضاء، وإذا تبين أنها لم تشارك في أعمال إرهابية يتم إخضاعها للتقويم ويخلى سبيلها باستشارة مع النيابة العامة، وتظل متابعة أمنيا.
> اهتزت المملكة المغربية مؤخرا على وقع فاجعة جريمة القتل التي راح ضحيتها شرطي أثناء مزاولته لمهامه على أيدي إرهابيين متطرفين، ما هي التحديات التي أصبحت تضعها المؤسسة الأمنية أمامها على خلفية هذه الجريمة؟
< لا شك أن الجريمة التي تعرض لها شرطي المرور مؤخرا قد تركت بالنظر لبشاعتها ونوعية مرتكبيها أثرا سيئا في نفوس جميع المغاربة.
وهذه الجريمة إن دلت على شيء فإنما تدل على أن الخطر الإرهابي مازال محدقا ويتربص بالأبرياء من المواطنين، الشيء الذي يفرض على الأجهزة الأمنية خاصة منها الفاعلة في مجال محاربة الجريمة الإرهابية رفع التحدي من خلال مضاعفة الجهود لوأد هذا الخطر في مهده، ولعل الضربات الاستباقية التي ما فتئت هذه الأجهزة توجهها للخلايا النائمة لخير دليل على هذه اليقظة وهذا الحزم الذي طالما طبع عمل الأجهزة الأمنية المغربية.
أخيرا ما هي أهم الإنجازات التي طبعت العقدين الماضيين؟
< يبقى أهم إنجاز طبع العقدين الأخيرين هو صدور دستور 2011 الذي نص على مؤسسة جديدة تم إحداثها لأول مرة وهي المجلس الأعلى للأمن، وهي قيمة مضافة تعزز مسار التنسيق المؤسساتي المغربي وهو عبارة عن هيئة للتشاور بشأن استراتيجيات الأمن الداخلي والخارجي للبلاد وتدبير حالات الأزمات والسهر أيضا على مأسسة ضوابط الحكامة الأمنية الجيدة.
حاوره : عبد الصمد ادنيدن
تصوير أحمد عقيل مكاو