وجوه فنية راسخة في القلوب والذاكرة -الحلقة 3-

يضرب المغاربة منذ سنوات طويلة، موعدا خاصا واستثنائيا خلال شهر رمضان الأبرك، مع وجوه فنية مميزة ومتألقة تضفي طابعا خاصا على مائدة الإفطار العائلي، وتزيد من قوة الطابع الاستثنائي لهذا الشهر الفضيل، سواء عبر الشاشة من خلال الوصلات الفنية المتنوعة طيلة اليوم، أو عبر المواعيد المباشرة مع جمهور الركح أو السينما أو الحفلات…
وتتميز الساحة الفنية المغربية بصعود أسماء جديدة بشكل متواصل، إلا أن هناك وجوها فنية خاصة ألفها المغاربة وأصبح غيابها عن الساحة بشكل عام وخلال الشهر الفضيل بشكل خاص، يشعرهم بفجوة في أجواء رمضان.
ورغم أن الأسماء الجديدة منها ما تميز وأبدع ووصل إلى قلوب المغاربة، إلا أنه من الصعب جدا تعويض الوجوه التي كبر وترعرع معها جيل من المغاربة وشكلت جزءا كبيرا من ذكرياتهم، حيث إنه في الأخير يبقى للجيل الجديد دوره ومكانته في إغناء الساحة، لكن ما من أحدهم قد يعوض آخر أو يحتل مكانته، خاصة في الذاكرة والقلوب.
وحيث إننا نضرب موعدا خلال هذا الشهر الكريم مع إبداعات فنية متنوعة سواء عبر الشاشة أو المسرح والسينما وغيرهما، يساهم فيها خليط من أجيال متعددة، سنستغل هذه المناسبة بجريدة بيان اليوم، لنستحضر عددا من الوجوه الفنية المغربية التي غادرتنا إلى دار البقاء في مجالات التمثيل والغناء التمثيل والإخراج، التي بصمت الساحة الفنية الوطنية بعطاءات ظلت شاهدة على تفرد موهبتها، التي رسختها في سجل تاريخ الفن بالمغرب والعالم بمداد من ذهب.

الراحل عبد الرؤوف.. «تشارلي تشابلن» المغرب

امتلأت الطريق المؤدية نحو مقبرة الشهداء بمدينة الدار البيضاء، في الاثنين الأول من السنة الجارية، حيث شيع المغاربة فنانهم الشعبي – الذي أمتعهم وأضحكهم لما يزيد عن نصف قرن – إلى مثواه الأخير، مودعا حياة عاش فيها كل التناقضات، فقد أصابه اليتم طفلا صغيرا، وذاق عذاب السجن والتنكيل على يد المستعمر الفرنسي، وخرج متنكرا في ثوب كوميدي، متجنبا نيران الاضطرابات الأولى لفترة الاستقلال.
لجأ عبد الرحيم التونسي في بداية حياته إلى سكن وظيفي توفره مهمة حراسة وتدبير مقبرة، فكان يودع الموتى بين الحين والآخر ليرافق أصدقاءه الممثلين في عرض مسرحي كوميدي هنا أو هناك.
هكذا مضت 86 عاما الفاصلة بين يوم الأحد 27 دجنبر 1936 ويوم الاثنين 2 يناير 2023 حافلة بالتناقضات، وهي الفترة التي قضاها فوق البسيطة «تشارلي تشابلن» المغرب وكوميدي الفقراء والبسطاء عبد الرحيم التونسي المعروف بعبد الرؤوف.
تقول الفنانة الكوميدية المغربية حنان الفاضلي في كلمة ألقتها خلال تكريم الفنان الكوميدي عبد الرحيم التونسي بمهرجان مراكش للسينما عام 2016: «كان الإنسان المغربي على مدى عقود طويلة، حين يرى الشوارع وأحياء المدن والقرى المغربية فارغة من سكانها يخمن أن هناك حدثا من اثنين؛ إما أن المنتخب الوطني يلعب مباراة في كرة القدم، أو أن هناك مسرحية معروضة في التلفزيون المغربي لعبد الرحيم التونسي الشهير بعبد الرؤوف»، مضيفة أن «الفارق يكمن في كون أعصاب المغاربة كانت تتوتر مع مباريات المنتخب، فيكونون على موعد مع فوز أو هزيمة أو تعادل، بينما يبقى الربح مضمونا مع عبد الرؤوف، لأن الفرجة تكون مضمونة والربح مضمونا».
مارس الفنان عبد الرحيم التونسي التمثيل ودخل عالم المسرح صدفة في مرحلة مبكرة من عمره، إذ لم يكن من المهتمين بالمجال السينمائي، واتجهت اهتماماته نحو السياسة والنضال، فانتمى إلى الحركة الوطنية.
وعندما نفى المستعمر الفرنسي سلطان المغرب محمد الخامس عام 1953، خرج مع كثير من الشباب إلى الشارع؛ فاعتقل وعذب وأُدخل السجن.


وأثناء اعتقاله تعرف على مجموعة من الثائرين الذين كانوا يقاومون بعروض مسرحية تتحدث عن الاستعمار. وبعد خروجه من السجن، شارك مع مجموعة من رفاقه في تكوين فرقة مسرحية قدمت عروضا في المحمدية، وبعض المدن المغربية الأخرى.
وعمل في خضم هذه الفترة المليئة بالأحداث محافظا لمقبرة الشهداء بالدار البيضاء، لكنه لم ينقطع عن التمثيل والمواظبة على العمل المسرحي لأنه وجد ذاته فيه، إذ كان يؤمن بأنه يقدم رسالة هادفة تخدم الأمة المغربية.
شكل لاحقا فرقة خاصة به، وبدأ الجمهور يتعرف عليه من خلال شاشة التلفزيون، ولقيت أعماله نجاحا وقبولا جماهيريا؛ ففي سنة 1971 طاف أرجاء المغرب وقدم نحو 170 ليلة مسرحية.
تميز عبد الرحيم التونسي بتركيزه على الفن الساخر بأسلوب بسيط، ورغم الظروف السياسية التي كانت تفرض قيودا على المحتوى الثقافي حينها، فإنه استطاع الجمع بين الشعبية الكبيرة واحتفاء السلطات بالمنتج الفني الذي يقدمه.
فاحتضنت فرقته وقدمت له المساعدات وفتحت أمامه الأبواب، ودعي إلى القصر الملكي في الرباط وقدم عرضا أمام الملك الحسن الثاني، فنال إعجابه والتقاه بعد انتهاء المسرحية.
وحافظ على الإطار الساخر والفكاهي لأعماله لقناعته بأن الفنان من واجباته إدخال السرور على المواطنين.
خلال مسيرته التي ولدت مع الكفاح والاستقلال المغربي، قدم كثيرا من الإنجازات المسرحية والدرامية، ومن أهم الأعمال المشهورة التي شارك فيها بدور محوري:
مسرحية «إمتى يجي المدير».
مسرحية «مراتي لعزيزة».
مسرحية «ضلعة عوجة».
وعلى الصعيد السينمائي قام بأدوار مميزة، فشارك في:
فيلم «ماجدة» عام 2011.
فيلم «عمي» سنة 2016.
حصل عبد الرحيم على جائزة أفضل فنان كوميدي مغربي في القرن العشرين من مؤسسة «ليالي الفكاهة العربية» في بلجيكا عام 2011.
وفي السادس من دجنبر 2016، خصصت إدارة مهرجان مراكش الدولي للفيلم في دورته 16 حفلا خاصا لتكريم الفنان عبد الرحيم التونسي وتوشيحه.

< عبد الصمد ادنيدن

Related posts

Top