وجوه فنية راسخة في القلوب والذاكرة -الحلقة 4-

يضرب المغاربة منذ سنوات طويلة، موعدا خاصا واستثنائيا خلال شهر رمضان الأبرك، مع وجوه فنية مميزة ومتألقة تضفي طابعا خاصا على مائدة الإفطار العائلي، وتزيد من قوة الطابع الاستثنائي لهذا الشهر الفضيل، سواء عبر الشاشة من خلال الوصلات الفنية المتنوعة طيلة اليوم، أو عبر المواعد المباشرة مع جمهور الركح أو السينما أو الحفلات…

وتتميز الساحة الفنية المغربية بصعود أسماء جديدة بشكل متواصل، إلا أن هناك وجوها فنية خاصة ألفها المغاربة وأصبح غيابها عن الساحة بشكل عام وخلال الشهر الفضيل بشكل خاص يشعرهم بفجوة في أجواء رمضان.    

ورغم أن الأسماء الجديدة منها ما تميز وأبدع ووصل إلى قلوب المغاربة، إلا أنه من الصعب جدا تعويض الوجوه التي كبر وترعرع معها المغاربة وشكلت جزءا كبيرا من ذكرياتهم، حيث إنه في الأخير يبقى للجيل الجديد دوره ومكانته في إغناء الساحة، لكن ما من أحدهم قد يعوض آخر أو يحتل مكانته، خاصة في الذاكرة والقلوب.

وحيث إننا نضرب موعدا خلال هذا الشهر الكريم مع إبداعات فنية متنوعة سواء عبر الشاشة أو المسرح والسينما وغيرهما، يساهم فيها خليط من أجيال متعددة، سنستغل هذه المناسبة بجريدة بيان اليوم، لنستحضر عددا من الوجوه الفنية المغربية التي غادرتنا إلى دار البقاء في مجالات التمثيل والغناء التمثيل والإخراج، التي بصمت الساحة الفنية الوطنية بعطاءات ظلت شاهدة على تفرد موهبتها، التي رسختها في سجل تاريخ الفن بالمغرب والعالم بمداد من ذهب.

الراحل عبد القادر البدوي.. صوت البسطاء وعراب المسرح المغربي

نعرج في فقرة اليوم، على أحد أبرز رواد المسرح المغربي، الفنان الراحل عبد القادر البدوي، الذي كان يستعدّ للإحتفال بمرور 70 سنة على تأسيس فرقة مسرح البدوي، عقب خروجه من المستشفى. غير أن القدر حال دون ذلك، فقد غادرنا الفنان المغربي الجمعة 28 يناير 2022، عن عمر يناهز الثامنة والثمانين بعد تدهور وضعه الصحي في المستشفى العسكري في الرباط. ووري جثمانه مساء اليوم نفسه بمدينة طنجة التي ولد فيها سنة 1934.

غادر البدوي طنجة، التي ولد فيها عام 1934 منذ طفولته، مرافقا والده إلى مدينة الدار البيضاء بسبب انتقال مهني، وترك المدرسة سريعا بعد أن توقف والده عن العمل، ليستأنف بدلا عنه مهمة إعالة أسرته، ولم يكن حينها قد تجاوز الخامسة عشرة من عمره. والطريف أنّ البدوي بدأ حياته لاعبَ كرة قدم في فرق الدار البيضاء، قبل أن ينقل اللعب إلى المسرح.

“لأي مواطن الحق في الهواء والشمس والحرية وله أيضا الحق في الثقافة” بهذه الكلمات دافع عميد المسرح المغربي عبد القادر البدوي -في حوار صحفي- عن حق البسطاء وسكان المدن الصغيرة والقرى في العروض المسرحية.

ويعتبر الراحل البدوي، واحدا من رواد المسرح المغربي، ومؤسس فرقة البدوي التي تعد من أشهر وأعرق الفرق المسرحية بالمغرب.

ونعى فنانون مغاربة رحيل البدوي عن عمر 88 سنة، ووصفوه بالهرم والفنان المبدع الذي ترك بصمة وأثرا في أجيال من الفنانين.

كما نعت البدوي “النقابة المغربية لمهنيي الفنون الدرامية” عبر “فيسبوك” واصفة إياه بـ “أحد أهم رجالات المسرح المغربي تأليفا وإخراجا وتمثيلا”.

وبكلمات مؤثّرة، ودّع الراحل فنانون وناشطون، مستذكرين أعماله التي وصفوها بـ “الخالدة” خاصّة وأنّه أغنى المسرح لأكثر من 6 عقود بالكتابة والإخراج.

ونشر الفنان الصديق مكوار صورة الراحل على تطبيق إنستغرام، وأرفقها بتدوينة جاء فيها “رحم الله الأستاذ عبد القادر البدوي واحد من أهم ركائز المسرح المغربي ورائد من رواده، تعازي الحارة والخالصة لفرقة البدوي للمسرح التي كان لي شرف الانتماء إليها وكل أسرته وألهمهم الله الصبر والسلوان وجعل الجنة مثوى الفقيد”.

وكتب الفنان رشيد الوالي، عبر حسابه على إنستغرام “عبد القادر البدوي في ذمة الله هذا الصباح، بالأمس فقط سألت عنه وقيل لي إنه في حالة جد سيئة، القلب يحزن لكن لا نقول إلا ما يرضي الله”.

بدورها، رثت الممثلة فاطمة بوجو الراحل من خلال نشر صورته عبر حسابه الرسمي فيسبوك، قائلة “اليوم أيضا يغادرنا إلى دار البقاء أحد رواد المسرح الكبار بالمغرب، الممثل والمخرج عبد القادر البدوي، شاهدناه ونحن أطفال في أعمال تلفزية عديدة، وشاهدنا عروضه المسرحية ونحن كبار”.

كما رثته الفنانة لطيفة أحرار قائلة “فاجعة أخرى، الساحة الفنية المغربية تفقد أحد أعلامها. رحم الله المبدع الكبير عبد القادر البدوي”.

وكانت انطلاقته في عالم المسرح منسجمة مع وضعه الاجتماعي والاقتصادي، ففي الوقت الذي اشتغل عاملا في شركة للتبغ، أسس فرقة “أشبال العمال”، وأعد مسرحيات ذات طابع نضالي، ونقل حياة العمال ومكابداتهم إلى خشبات المسارح في مدينة الدار البيضاء على الخصوص. فكانت أولى مسرحياته تحمل عناوين تلك المرحلة: “العامل المطرود” و”كفاح العمّال” و”المظلومون”. ويبدو أن البدوي ورث روح النضال بشكل عفوي عن والده الذي كان عضواً في الحركة الوطنية المناوئة للاستعمار الفرنسي، كما ساهم في تأسيس النقابة الأولى في المغرب.

كان المغرب لا يزال يعيش المرحلة الكولونيالية، وبالتالي كانت مسرحيات البدوي ورفاقه بمثابة لافتات احتجاج في وجه المستعمر، فعبرها كان يعرّي استغلال المحتل لشباب البلاد وخيراتها، ويطالب بحقوق الطبقة العاملة التي لم يكن يصلها من حصاد كدّها، سوى قدر ضئيل.

غير أن هذه الأعمال لم تكن لترضي طموح البدوي، فقد بدت له شبيهة بالبيانات النضالية، وأقربَ إلى الخطابية والمباشرة منها إلى الفنّ. لذلك فكر في تطوير إبداعه، وتفرغ لكتابة (وتشخيص) أعمال تخرج من خانة الهواة باتجاه الإحتراف. وبالرغم من الاشتغال الفني ظل النضال، في شقه الإجتماعي بالأساس، هو منطلق أومرتكز معظم أعمال فرقة البدوي. فكانت التيمات الأثيرة لمسرحيات الفرقة هي الفوارق الطبقية وحياة العمّال والبطالة والتهميش والمحسوبية والفساد الإداري والنفوذ الاقتصادي والسياسي وانتقاد المؤسسات الاجتماعية.

وقد توجهت فرقة البدوي بعد حقبة السبعينيات، التي تقاطع فيها الفن مع الأيديولوجيا، إلى الجانب الإنساني والاجتماعي بالخصوص، ومقاربته عبر أعمال مسرحية عديدة: “البخيل” 1989، “سهرة مع الحكيم” و”مطربة الحي” 1990، “المتقاضون” 1995، “رأس الدرب” 1996، “وصية الثعلب” 1998، “الشيطان في خطر” 1999 ، “حمّان الدنادني” 2000، “سهرة مع تشيخوف” 2002، “يوم الذكرى” و”دار الكرم” 2006 وغيرها.

لم تكن فرقة البدوي تعرض أعمالها داخل المغرب فحسب، بل شاركت في عدد من المهرجانات في العالم العربي، وعرضت مسرحياتها في فرنسا وبلجيكا وهولندا وغيرها من البلدان الأوروبية. لكنّ عبد القادر البدوي كان يشتكي في السنوات الأخيرة من الحصار والتضييق على مسرحه، كما كان ينتقد باستمرار اقتحام المتطفلين للمسرح الاحترافي.

وإذا كان المغرب بلد المسرح منذ حضارة الرومان والأمازيغ، فإن المسرح بشكله المعاصر لم ينطلق في البلاد إلا مع العقد الثاني من القرن العشرين، تزامناً مع وصول فرق أوروبية إلى مسرح سرفانتيس، فضلاً عن الفرق المشرقية التي بدأت تتردد على المغرب، ونستحضر هنا بالأساس مسرحيات يوسف وهبي ونجيب الريحاني. وخلال مرحلة الاستعمار الفرنسي للمغرب بدأت تظهر أعمال مسرحية ذات طابع وطني، كانت في أغلبها بسيطة ومباشرة، خصوصاً أن الذين كتبوها كانوا في الغالب سياسيين وأعضاء في الحركة الوطنية، مثل الزعيمين علال الفاسي وعبد الخالق الطريس.

ولا يمكننا الحديث عن مسرح مختلف ومعاصر إلاّ مع منتصف القرن الماضي، حين استفاد الطيب الصديقي من ثقافته الغربية لينجز اقتباسات لأعمال عالمية، ويتماهى معها لاحقاً في تقديم مسرحيات تنهل من الواقع المغربي. في تلك الفترة أسس عبد القادر البدوي الفرقة التي حملت اسم العائلة وشارك فيها أفراد منها. كان ذلك سنة 1952، حين تخصص أخوه الأصغر عبد الرزاق البدوي في الإخراج فيما كان هو مكلفاً بالتأليف. وبعد إعداد القطع المسرحية كانا يصعدان معاً إلى الخشبة قبل أن ينفصلا سنة 1995 بسبب بعض الخلافات المرتبطة بالقطاع، بحيث أسس عبد الرزاق فرقة مستقلة بعد سنتين من ذلك.

مع مطلع التسعينيات استدعاه الملك الراحل الحسن الثاني برفقة أبرز المسرحيين المغاربة للتناقش حول سبل تأهيل المسرح المغربي ووضع خطة تدعم أبا الفنون وتحفظ حقوق أهله. وكان في تلك اللجنة الطيب الصديقي وعبد الواحد عوزري والإعلامي إدريس الإدريسي ووزراء الثقافة والإعلام والشباب. وأسفر ذلك اللقاء مع الملك، عن تنظيم مناظرة وطنية كبرى وترسيخ الرابع عشر من ماي يوما وطنيا للمسرح.

كان البدوي غزير الكتابة والإنتاج، وهذه الغزارة تجلت أيضا في العروض التي قدّمها، ليس في المدن الكبرى فحسب، بل في القرى والتجمعات البعيدة، هو الذي عُرف عنه دفاعه الدائم عن حقّ الجميع في المسرح. لذلك خصّص عروضاً للطلبة وسافر بفرقته إلى الحواضر والقرى النائية. ويُحسب له أنه أخرج أبا الفنون من قاعات العرض التقليدية وأدخله إلى أماكن أخرى لم يكن من المعتاد في المغرب أن تعرض فيها المسرحيات، فبدأ بالمدارس وخصص تمثيليات قصيرة للطلبة، كما اتجه بفرقته إلى المستشفيات والثكنات العسكرية والسجون. ولم تفت فرقة البدوي، في سياق تنويع فئاتها المستهدفة، أن تنفتح على الطفل، فخصصت لهذه الفئة العمرية عدداً من المسرحيات القصيرة ذات البعد التربوي.

ولم تكن التربية، في تصور فرقة البدوي، وقفاً على الأطفال فحسب، بل كان منظّر الفرقة عبد القادر البدوي يرى أن الوظيفة الأولى للمسرح هي التربية، وأن أي عمل فنّي يفقد قيمته ووظيفته إذا خلا من رسالة ذات بعد تربوي وتنويري.

عبد الصمد ادنيدن

Related posts

Top