وجوه فنية راسخة في القلوب والذاكرة -الحلقة 15-

يضرب المغاربة منذ سنوات طويلة، موعدا خاصا واستثنائيا خلال شهر رمضان الأبرك، مع وجوه فنية مميزة ومتألقة تضفي طابعا خاصا على مائدة الإفطار العائلي، وتزيد من قوة الطابع الاستثنائي لهذا الشهر الفضيل، سواء عبر الشاشة من خلال الوصلات الفنية المتنوعة طيلة اليوم، أو عبر المواعيد المباشرة مع جمهور الركح أو السينما أو الحفلات…
وتتميز الساحة الفنية المغربية بصعود أسماء جديدة بشكل متواصل، إلا أن هناك وجوها فنية خاصة ألفها المغاربة وأصبح غيابها عن الساحة بشكل عام وخلال الشهر الفضيل بشكل خاص، يشعرهم بفجوة في أجواء رمضان.
ورغم أن الأسماء الجديدة منها ما تميز وأبدع ووصل إلى قلوب المغاربة، إلا أنه من الصعب جدا تعويض الوجوه التي كبر وترعرع معها جيل من المغاربة وشكلت جزءا كبيرا من ذكرياتهم، حيث إنه في الأخير يبقى للجيل الجديد دوره ومكانته في إغناء الساحة، لكن ما من أحدهم قد يعوض آخر أو يحتل مكانته، خاصة في الذاكرة والقلوب.
وحيث إننا نضرب موعدا خلال هذا الشهر الكريم مع إبداعات فنية متنوعة سواء عبر الشاشة أو المسرح والسينما وغيرهما، يساهم فيها خليط من أجيال متعددة، سنستغل هذه المناسبة بجريدة بيان اليوم، لنستحضر عددا من الوجوه الفنية المغربية التي غادرتنا إلى دار البقاء في مجالات التمثيل والغناء التمثيل والإخراج، التي بصمت الساحة الفنية الوطنية بعطاءات ظلت شاهدة على تفرد موهبتها، التي رسختها في سجل تاريخ الفن بالمغرب والعالم بمداد من ذهب.

الراحل عبد القادر عبابو.. منظر الإخراج الجدلي

غادر دنيانا، في يناير 2020، عن سن يناهز السبعين، الفنان المسرحي المغربي عبد القادر عبابو، بعد معاناة طويلة من المرض العضال.

ويعد الراحل من بين أبرز الفاعلين في الحقل المسرحي المغربي إبداعا وتنظيرا على حد سواء، كما تميز رحمة الله عليه بالتزامه السياسي ونضاله دفاعا عن حرية الإبداع.

ولد سنة 1950 ببني ملال، حصل على دبلوم معهد الدراسات التقنية، واشتغل موظفا بالمكتب الجهوي للاستثمار الفلاحي بأكادير.

كان يدير محترف أونامير للفن المسرحي، وكان كذلك عضوا في اتحاد كتاب المغرب منذ سنة 1985.

بدأ الكتابة سنة 1969 ونشر أول نص شعري له سنة 1982.

اهتم عبد القادر عبابو بالمجال المسرحي وبالكتابة الشعرية والنقدية، ونشر أعماله بمجموعة من الصحف والمجلات، من بينها جريدة بيان اليوم، وله مجموعة من الأعمال الإبداعية والتنظيرية، بعضها عرف طريقه للطبع والنشر، والبعض الآخر ينتظر..  نذكر من بينها على سبيل المثال:

“الإخراج الجدلي والمسرح الثالث / سلطة الحركة، سلطة الجدل”، “حمامة القرن” نص مسرحي، “أخضر أخضر هذا الأحمر” ديوان شعر، “الكبل” نص مسرحي غنائي، “ايت الكل” نص مسرحي، “سلام أحمر” نص مسرحي، “نوادر العبور من الزبالة إلى الطيفور”، “عوا الأصلـع”، “رسالة شاعلة إلى معشوقة قاتلة”.

ويعد فقيد المسرح المغربي عبد القادر عبابو من بين العلامات الفارقة في المسرح المغربي وفي المشهد الثقافي بصفة عامة، حيث خلف وراءه أعمالا إبداعية ذات طابع تجريبي بالخصوص…

وكان للراحل ارتباط وطيد بالمسرح العربي، من حيث الإبداع والتنظير، وكان منتوجه مواكبا للابتكار في الأساليب الفنية، وأولى قيد حياته عناية كبيرة لتجديد التجربة المسرحية المغربية، من خلال تجريبه لقوالب فنية، دون إغفال كونه كان ملتزما في المجال السياسي، حيث كان مناضلا سياسيا يساريا ضمن صفوف حزب التقدم والاشتراكية، وبالتالي يمكن القول باختصار إنه استطاع أن يوفق في الجمع بين الإبداع الخالص والالتزام السياسي…

ولا شك أن الراحل يعد من الرواد الأوائل للتجربة المسرحية على المستوى الوطني والمحلي، وكان مهموما بالمسرح من رأسه إلى أخمص قدميه. لا يترك لنفسه فرصة للراحة.

المرحوم عبد القادر عبابو كان يجتهد في االتقنية المسرحية والإخراج، حيث قدم ورقة تتمحور حول المسرح الجدلي الذي يقوم على أساس تطبيق النظرية التي أتى بها المسرح الثالث للمسكيني الصغير.

إن الراحل عبابو يعد من الفنانين الذين يؤمنون ويصرون على أن يكون الإخلاص للمبدأ هو أساس التعامل في المسرح، لقد كان مناضلا نقابيا، يناضل من جهة مع الشغيلة في إطار الاتحاد المغربي للشغل، ومن جهة أخرى مع الفنانين والمبدعين في النقابات المهنية، كان يحرص على الحضور المتواصل في المهرجانات والندوات واللقاءات المسرحية، متحملا المرض والتعب، تجده متفائلا بمسرح مغربي ينتمي للإنسان المغربي.

لقد ترك بصمة خاصة في ما قدمه من أعمال مسرحية. أعماله تختلف عما يقدم من إنتاجات مسرحية في ساحتنا الوطنية، وهذا ليس طعنا في هذه الإنتاجات ولكنه كان متميزا في مجال الإخراج والتشخيص من خلال اعتماد دراما غرائبية وعجائبية.

للأسف عانى من التهميش من طرف الجهات المسؤولة، حيث كان يجب أن يتاح له المجال لتقديم إنتاجاته في المهرجانات التي تقام خارج المغرب، ولا تظل محصورة في نطاق محلي…

في الواجهة الأبرز، نذر عبابو نفسه للمسرح، كاتبا مخرجا ودراماتورج، وممثلا، ومكونا، وإداريا، ومؤطرا نقابيا. فكر في الممارسة المسرحية، ونحت لنفسه أسلوبا فنيا ومنظورا فكريا أطلق عليه عنوان “الإخراج الجدلي”. وهو يعرف مضمون أسلوبه هذا بالقول إن مهمة المخرج لا تنحصر في ترجمة النص الدرامي على الركح بأدوات الركح، بل تمتد لتشكل إعادة كتابة للمسرحية (ما يقربه من مهمة الدراماتورج) وفق رؤية تفاعلية بين العالم النصي والعالم الواقعي والرؤية الفنية المخرج.

بفعل انخراطه العميق في الممارسة المسرحية، لمدة تجاوزت أربعة عقود، ربط عبابو علاقات ممتدة مع عدد كبير من الفنانين المسرحيين على الصعيد الوطني، وأيضا خارج المغرب. وصار بالنسبة للحركة المسرحية المغربية رمزا وأيقونة للمسرح الأگاديري، ووجها ثقافيا انصهر مع المدينة حد التماهي، بالرغم من أن أصوله العائلية ومسقط رأسه كان من خارج أگادير. وقد عبر هو نفسه عن هذه العلاقة الانصهارية في إحدى قصائده التي ختمها بالقول: “من كان يعرف لأگادير بابا غير قلبي فليدخل…”

 عبد الصمد ادنيدن

Related posts

Top