سافرت في هذه الدنيا، كامرأة شرقية تتفتح مع أول انسحاب للعتمة، تتقيؤني الساعات لتسلمني بقرف سجانة للجرح الآتي، فترتب أحلامي لترحل مني إلي، وكلي شوق للانعتاق، والتحرر من أغطية الليل، فعلا ما عدت أحسب عمري من بعد السبع العجاف، وأنا التي كنت أمتطي الفرح حين أكتبه، فتبتسم الشمس لي كل شروق .
ليمنحني طيفها سلاما خفيفا، كلما اعترى الكون شحوبا قاتما، لأراه يتلاشى رويدا، رويدا، وأنا وظلي نزحف نحو الغروب، لتقع أمنياتنا بخلود اللحظة في بحر مظلم، حتى وإن تهالكت السحب من العدو، هناك نستسلم لبرودة النوم، نسلم له مفاصلنا بعد نهار من التقلب في وضوح الضوء واللهاث في مجالاته الجذابة، لا نكاد نخفي تشوهاتنا إلا بأن نستتر في حضن ظلام أبدي، كل يوم نعيد نفس الحالة المكررة، نفس اللعبة وبنفس السماجة والملل فقط لنبقى بشعور أننا على قيد الحياة هروبا من انطفاء مصابيحنا المعششة في ظلام الأبد، كلما صوب عينيه في عيني لتمضي قوارب الوجع على هدب مثقلة بالذكريات .
ويا لهذا المخاض حين ارتقبنا منه التمام…؟
من مثلي يحب حضوره؟
لم تبتسم الشمس ذاك الصباح كما المعتاد، مسها شيء من يأسي، وغمرها قليل من ضعفي، قد أكون أهذي مع هذا الصباح، فلم أستطع منها أن أطير، ولم أبصر ما تبقى لي من الأحلام، وهذا الصباح يثرثر منذ استيقظت، مثل فكرة بعيون ضيقة، وجسد كسول وأمل هش، ليصبح الهذيان متعتي عندما تتصادم الأفكار في رأسي، ها أنا أكتب ثرثرتي، وها أنت يا أنا، تنصتين لي بكل ما فيك من سذاجة، بكل كيانك الجميل، ولم تبث شوقي كعادتك، ولم ترث لحالي بإشراقتك يا أيتها الروح الواسعة، السابحة في البرازخ، تتغلغلين حتى منبت الوتين، لأولد من جديد قبل أن ارتدي وشاح الشمس، وأتكأ على شرفة الأحزان لأبكي حتى يمل مني الدمع .
فلنقل مثلا … تعال نقترف كل الخطايا لحظة جنون …
نعيد في العروق اليابسة بعضا من الحياة، وتلك الروح حرة في قبضة الرب أنت، وأنا المقيدة بسلاسل الحياة الثقيلة روحي مسجونة داخل كتلة الطين البشري أتمرغ في وحلها القديم كلما رقدت عليلة وقد جافاني الأمان وسكتت حروفي عن الكلام المباح لأدع روحي تغفو في ليلي وتتوالى فصولي فتسكنني اللظى.
أسمح لنفسي بالارتماء فوق أحضان ضُعفي، أبكي بحِرقة وأدنو صاغرة للشمس، لأخرِج كل ما في جَوفي، وجعي، صراخ جراحي وخَوفي، أترُك نفسي كي أسقط لوهلة في تلك الكوة المنسية عساني أنفذ منها للأمان، ثمّ أعود وأقف من جديد، أطير كفراشة، لا حدود لشغفي وعُلو سقفي.
فأنا لا أنتظر فوق أرض الضعف لقاء حتفي، بل أستمِد قُوّتي من الوهن وأصبح كوردة تحيطها الأشواك، تعجز أي يد على قطفي، أصبح أكثر تشبّثاً بحبي وتقديري لذاتي المطهرة بالخمر، والدموع تلك التي لا تنكسِر أمام أشد لحظات عطفي …
وإني لراحلة يوما ما …
تَتكسرُ أواني العُمر، وتَذوي بينَ الضُلوعِ رَغبةً فِي الاستمرار، تطل من خاصرة الأفق تلوح بخريطة العمر، موشاة بالتعب، لتنحني جذوة القلب للمسات البرد، والعبث .
وبين فراغات الأيام نخلع رداء العمر، ولم يعد يعنيني الكمال، فتذكرة السفر كانت باتجاه واحد، كي ألملمنني مني، فتلويني رقصة البجع.
وأنتَ يَا أنا …
أيتها المتعبة حد البهاء، في خريف عمرك تحتسبين أيامك، جرعة جرعة كل مساء، وتتلين عليها الاعتراف الأخير، ولا سفــرٌ في سريرك المصابِ بحمى الفقد، فمازال هناك نداء وثباتُ في القلب، كتب بيد عرافة على ذمة ريح عاصف، فأخذ من رئتي نفسا، وأنا التي لم أكُنْ هُنا، ولا هُناك …
تسكنين خلف النافذة، وتمرين بخطى متزعزعة بسيطة، تنتعلين التراب، لتسكرين من طعم الجرح في اللحظات الضائعة، فيثمل الأمس من فرط المرح ولا يضحك…
أيها الكائن السماوي الشفاف الذي أضاع طريقه فحط على حظي، واستراح، كيف تتحسس صقيع العمر، ولك في ذاكرتي ألف عرس، وألف حداد يسامر الصباح .
وفي ركن بعيد من العالم، حيث صداي يسير بي من دون حلم، فيتكور الحظ كقطعة من الليل ملساء، يخدشها الضوء، ولا يتنبأ بالثورات، ولا يقرأ الكف، يهرول عبر الأزمنة بملامح عاصفة مكسورة، فيندلق منها الوقت، ويفيض، لتفوح من مساماته ألف حمامة بيضاء، تطير لترافق بداوة الوقت، فتقد قميصه وتعلمه أن لا يغتال براءة العمر، في ذاك الأرق المسهد، ويترفق بقلبي الهزيل .
ربما أفرطت في سذاجتي، وعلى أغصان الخريف العارية، بعثرتني يد الريح، وجعلتني خرقة لجثة بالية يستحيل رتق أحلامها، التي سئمت الحضور بظلمة مساء أرمد، وغيمة لم يزهر فيها الفرح قط، وكلما فيها يشبهني .
في عيني ألف لغة أتعلمها كل يوم في رحلة الحياة، كقبلة موسيقية لا تخشى خشونة الوقت، تزداد بها معاجمي اكتنازا، وعمقا ودقة، وتصبح مذكراتي كتبا مقدسة على أطراف العزف، محملة برسائل الصدر العامر، والسر المكتوم وكل شيء فيها بات باردا يمحو ظلالي، كلما صوبت عيني في عيني .
لأراني في ذروة الانتباه، أحمل حقيبة أيامي، ونبوءة شكي تكتم أنفاس يقيني، وتمر بذاكرتي بثقلها الكئيب لتدون فصل التغيير .
كنت أفقد جزءًا مني، عند كل محاولة قرب، فأكمم أفواه العناد وأغادر وحدي لأعود إلى جسدي آخر الليل، فأطفأ نارا تزداد اتقادا، كلما قضم الصباح نهاري من أول حرف خطته يدي .
لا أحد هنا سواي …
أعاقر الريح وأخبز الوهن، أرتدي خواتمي التي انتحرت عليها الوعود، ثم أرحل تاركة قلبي على مشجب الأمنيات، أحيانا أعيد كل شيء لمكانه المنزل، لتظل الأحلام عالقةٌ فوق الخوف، واللحظات ممتلئة بالاكتئاب، والأوقات قد جف فوقها الشغف، كلما هجرت كهولة الوقت، وساعاته المرتقة بخيوط الانتظار، وعقاربها المصلوبة فوق الصدأ، فأسلط قسوة الندم على بريقَ اللجوءِ .
فكيف بالله يكونُ العمر؟
لو أنني ولدت من العدم، لكنت تفاديت لسعات الجمر، فحياتي ليس غيمة صيف، وشمس حظي ليستْ في أفول …
و كلما هل يوم جديد ولم ألتفت له …
سمعت الغياب يتمتم وقد تسمرت أيامي والروح تاهت في المدى
الفشل في الحياة: ذنب لا يغتفر.
بقلم: هند بومديان