وضع السينما في المغرب.. من الحال الى الانحلال

 لماذا هذا المقال؟

قبل أن أقوم بشرح الأسباب التي دفعتني اليوم لكي أتحدث علنا عن هذا القطاع، أود أن أتقدم ببعض التفاصيل التي أعتبر أنها تكتسي أهمية كبرى لكي يستوعب الجميع قراري هذا.

أولا، أنا لست مهنيا في مجال السينما، ولم أعتبر يوما أن لدي هذه الصفة، عكس ما قد يعتقده البعض أو يتخيله، ورغم أني أعشق الفن السابع، فأنا لا أعيش بشكل دائم في الوسط السينمائي، كما أني لا أكسب قوت يومي من السينما. صحيح أنني عندما كنت أعمل في مجال الإشهار والتواصل، لم أخف أبدا شغفي الكبير بالكتابة والسينما. ربما كان هذا هو السبب الذي جعل كلا من المسؤولين والمهنيين في مجال السينما يتعاملون معي دائما كواحد منهم، وهو أمر جعلني أشعر بالإطراء الشديد.

أود أن أطلع القارئ أنه منذ نهاية الثمانينيات، طُلب مني عدة مرات أن أكون عضوا في لجان تحكيم العديد من المهرجانات السينمائية أو في لجان أخرى لها مهام مختلفة. فكان لي شرف عضوية لجنة صندوق دعم الإنتاج السينمائي الوطني في أربع مناسبات، حتى قبل أن تتم إعادة تسميتها بلجنة “التسبيق على المداخيل”، وكانت آخر مرة سنة 2016. بالإضافة إلى ذلك، قمت بتسيير العديد من الندوات واللقاءات الفكرية في معاهد للسينما، بل وبالتدريس في المعهد العمومي (المعهد العالي لمهن السمعي البصري والسينما). وكان كل هذا بالطبع، بالموازاة مع أنشطتي المهنية والشخصية الأخرى.

مباشرة بعد أن قررت بشكل طوعي مغادرة قطاع الإشهار، خطرت لي فكرة يمكن أن أصفها بالعادية، تتمثل في إمكانية مواصلة مسيرتي المهنية في عالم السينما، وذلك إيمانا مني بقدرات اكتسبتها من خلال تجربة طويلة في مجال الكتابة والإنتاج، فبدأت أقترح خدمتي كمؤلف وكسيناريست وكخبير في كتابة السيناريو. كنت واثقا جدا من هذه الخطوة التي أقدمت عليها لدرجة أنني أنشأت مع صديقة بلجيكية شركة خاصة بالكتابة السينمائية والسمعية البصرية. كنت أعتقد أنه مع العدد الكبير لأصدقائي وصديقاتي في المجال السينمائي، ستكون إمكانيات الاختيار متاحة أمامي. تيقنت بعدها بقليل أنني كنت ساذجا جدا، إذ أدركت بسرعة أنني لا أحظى باهتمام هؤلاء الأشخاص إلا عندما كنت أقدم خدماتي بدون مقابل بحكم أنني كنت أعمل في مجال الإشهار، حيث أعيش بشكل جيد مما كنت أكسبه. باختصار كانت خيبة الأمل كبيرة، لكنني لم أمت بسببها. بل على العكس من ذلك، كرست نفسي للعمل والانخراط بأقصى ما يمكن في هذا الوسط المليء بالشغف والإثارة، ولكن أيضا بنكران الجميل، وما زلت على هذا الحال إلى غاية اليوم. لا يمكن أن نغير تصرفاتنا..  بعد هذه التوضيحات، سأبدأ الحديث في موضوعي.

سينمانا تعيش ظروفا صعبة

كما يشهد بذلك الجميع، يمر القطاع السينمائي في المغرب حاليا بفترة أقل ما يمكن وصفها به أنها مضطربة.

لكي أكون واضحا، سأبدأ من النهاية، أي مما يحدث اليوم. من المؤكد أن الأشخاص الذين يتابعون كل جديد في قطاع السينما في بلادنا على علم بالفضائح التي طفت على السطح في الأسابيع الأخيرة. أنا لا أحب كثيرا مصطلح “الفضيحة” الذي يتم استخدامه بشكل مفرط، لكن لم أجد أفضل منه لأصف به الوضع المأساوي الذي نعيشه.

لا أود الخوض في الكثير من التفاصيل، لذلك سأقتصر فقط على الحدثين الأخيرين اللذين يعكسان في رأيي خطورة الوضع: يتعلق الأمر بالدورة الثانية والعشرين للمهرجان الوطني للفيلم بطنجة (شتنبر2022)، والدورة السادسة لمهرجان الفيلم الوثائقي حول الثقافة والتاريخ والمجال الصحراوي الحساني (دجنبر2022).

ما حدث قبل وخلال وبعد هاتين التظاهرتين يمكنه لوحده أن يلخص حجم المأساة التي تتخبط فيها السينما في بلادنا.

البداية من طنجة

سأبدأ بالمهرجان الوطني للفيلم بطنجة.

جدير بالتذكير أولا أنه باستثناء المهرجان الدولي للفيلم بمراكش الذي يحظى بوضع خاص، فإن المهرجان الوطني للفيلم يعتبر من قبل جميع المهنيين أكبر وأهم لقاء سينمائي وطني، من خلال كونه يجمع معظم فعاليات القطاع ولطبيعته الحميمية التي تميزه، لقد كان المهرجان الوطني للفيلم دائما فرصة للسينمائيين المغاربة ولعشاق الفن السابع بشكل عام للقاء واكتشاف أعمال سينمائية جديدة وتبادل التجارب والخبرات ومشاركة اللحظات الرائعة، كل ذلك في جو بديع وممتع. لكن هذه الأمور أضحت من الماضي، أي قبل هذه الدورة الثانية والعشرين اللعينة التي نظمت في شهر شتنبر الماضي.

لقد كانت الدورة بإجماع كل من شاركوا فيها، الأسوأ والأكثر عشوائية في تاريخ هذا المهرجان بأكمله: لم يتم اللجوء إلى اختيار مسبق للأفلام المشاركة في المسابقة، جمهور تائه لم يعرف أين يتجه، لجان تحكيم غاضبة ومقسمة وغير منسجمة، وأخيرا وليس آخرا، جوائز أثارت حولها الكثير من الجدل. أذكر أنه في اليوم الذي سبق اختتام هذه الدورة، انسحب عضوان بارزان من لجنة تحكيم مسابقة الفيلم الروائي الطويل من مداولات اللجنة وأصدرا بلاغا صحفيا في الموضوع. بعد ذلك بقليل، جاء رد فعل عضو ثالث لا يقل أهمية معبرا عن رفضه الواضح للأسباب التي قدمها زميلاه المستقيلان في بلاغهما الصحفي. ولأن حجم الفوضى كان يتطلب المزيد، كانت هناك فضيحة أخرى، فقد تمت معاقبة الفيلم الفائز بالجائزة الكبرى، ومخرجه ومنتجه أيضا، بشكل مفاجئ لسبب غريب تم اكتشافه بعد عدة أيام من اختتام المهرجان.

ومع ذلك، وبدلا من استنكار هذه الواقعة غير المسبوقة وبدل إبداء التضامن مع زميلَيهم اللذين تعرضا للعقوبة، اختار العديد من المهنيين الانزواء في صمت لا يمكن وصفه سوى بأنه صمت جبان، بينما لم يتردد آخرون في إظهار خضوعهم علنا وامتثالهم لأسيادهم الذين يتولون توزيع الريع والمكافآت. يا له من تصرف مشين!

استمرار الاندحار في العيون

الفضيحة الثانية الكبرى حدثت خلال الدورة الأخيرة لمهرجان العيون.

سأمر بسرعة على الظروف الكارثية التي حدثت فيها هذه الدورة، والتي بدت متطابقة مع تلك التي عاشها الجميع في المهرجان الوطني للفيلم بطنجة، حيث عرفت مشاركة عدد كبير من الأفلام في المسابقة، والتي مردها أيضا عدم اللجوء إلى اختيار مسبق للأفلام، وكذا الارتجال وسوء التنظيم الذي طغى على جميع المستويات.

وبعد أن تداولت لجنة التحكيم في نتائجها، وبينما بدا كل شيء جاهزا لحفل الاختتام، قررت السلطات في المدينة إيقاف فعاليات المهرجان وإلغاء ما تبقى منها. ما السبب في ذلك؟ لقد تم اكتشاف جملة غير دقيقة تتعلق بالأب الروحي لواحدة من كبريات قبائل الصحراء في فيلم وثائقي كان ضمن أفلام المسابقة، وذلك بعد عدة ساعات من عرضه الرسمي.

هل كان هذا السبب كافيا لتعليق أنشطة المهرجان، وهل كان لا بد من اتخاذ قرار راديكالي على النحو الذي تم اتخاذه؟ لا أعرف. لكن، وكما فعلت حينها، فأنا أحتج بأوضح الصور الممكنة على القرار التعسفي والاستبدادي والجائر وغير المبرر الذي اتُخذ في حق طارق خلامي، أحد أفضل أطر المركز السينمائي المغربي، الذي تم اختياره ككبش فداء وتحميله مسؤولية ما حدث. تم الإعلان عن هذه العقوبة في البداية بقرار اتخذه مدير المركز السينمائي المغربي بالنيابة، تلاه بلاغ صحفي أكثر وضوحا وعنفا، صدر هذه المرة عن الوزارة الوصية.

لكن الجميع كان متفقا على أن المسؤول الرئيسي عن فضيحة مهرجان العيون ليس سوى هذا المدير بالنيابة، ومع ذلك، وعلى الرغم من موجة الاحتجاجات القوية التي صدرت من قبل العديد من الأشخاص، وخاصة أصدقاء طارق الحقيقيين، فقد ظل في منصبه. واستغرق الأمر عدة أسابيع من المماطلة قبل أن يتقرر أخيرا إعادته إلى منصبه الأول ككاتب عام، واستبداله بمدير آخر بالنيابة هو المدير المالي والإداري بوزارة الاتصال.

هذا الوضع يطلق عليه الفرنسيون “لعبة القناني الخشبية”. لعبة أو ليس لعبة، المهم أنها لا تروق لأحد، حتى لو لم يحتج الكثيرمن الناس على هذه الفرجة المزيفة التي استمرت طويلا.

خروج السيد الوزير

وبما أننا في حالة من الصمت والعجز، أود أن أسرد عليكم مثالا في غاية الفصاحة.

بعد صمت دام قرابة شهر، خرج السيد الوزير أخيرا خلسة عن صمته من خلال مقابلة ليست الأولى له مع الموقع الصحفي ميديا 24.

هذه المقابلة، كما قلت، ليست لقاء صحفيا حقيقيا لأنه لا وجود فيها لأسئلة، لكن كان هناك إجابات، على الرغم من أن معظمها لا يحمل أجوبة على أية أسئلة يطرحها المهنيون منذ عدة أسابيع. في الواقع، يتعلق الأمر بنص مسترسل بعناوين وفصول في ترتيب لا يستجيب لأي منطق ولا عقلانية. 

الأمر بسيط للغاية: فبدلا من الإجابة على الأسئلة الحارقة التي تتطلب إجابات دقيقة وواضحة، مثل سبب الإبقاء على العقوبة التعسفية المتخذة في حق طارق خلامي رغم أن كل الأدلة تؤكد عدم مسؤوليته عن فضيحة العيون الأخيرة، فقد شرع السيد الوزير في حديث مطول يحمل في طياته عنوانا فخما، ربما للتخلص من: “ما الذي سيغيره إصلاح المركز السينمائي المغربي”.

لكن عن أي إصلاح يتحدثون؟ وإذا كان هناك إصلاح أو أنه سيكون مستقبلا، مع من استشار السيد الوزير من أجل صياغته؟ نعم، أعلم أنه أرسل مشروعه إلى “الغرف المهنية”، لكن هل يعلم على الأقل أن معظم هذه الغرف ليست سوى قوقعة فارغة يسيرها أشخاص أغلبهم بدون شرعية؟ إذا كان لا يعلم ذلك، فما عليه سوى التأكد من وثائق انتخابهم المزعوم لرئاستها.

اسمحوا لي في هذا السياق أن أعود إلى النقاط التي أجدها أكثر رمزية في هذا النص الذي تم اتخاذه بطريقة انفرادية.

فصل الخزانة عن مؤسستها، ما الغاية؟

 يبدأ السيد الوزير بنقطة بدت لي غريبة بعض الشيء، ربما لأنها الأولى التي يبدأ بها نصه: مشروع فصل الخزانة السينمائية عن المركز السينمائي المغربي ليجعل منهما كيانين منفصلين ومستقلين. قلت إن هذا الأمر غريب فعلا لأنني أعتقد أنه إذا كان هذا الموضوع يبدو على أنه من أولويات السيد الوزير، فإنه بالنسبة لغالبية المهنيين المغاربة، يبدو غير ذي أهمية، ربما لأن هذه المؤسسة الموقرة ليس لها في نظرهم سوى وجود رمزي، أو حتى افتراضي. وأنا في ذلك أتفهم موقفهم!

ربما تحدث بعض الأشياء هناك في العمق، ربما كانت هناك بعض التغييرات التي تمت مؤخرا، ولكن نظرا لأنه لم يتحدث عنها أحد على الإطلاق، ولأن عدد الأنشطة المنظمة يكاد يكون منعدما، فإن لا أحد يعلم أي شيء. ومع ذلك، فقد مرت 3 أو 4 سنوات على تعيين مخرجة سينمائية لديها بالتأكيد موهبة كبيرة لا يمكن إنكارها كمخرجة وكمنتجة، لكنها لم تستطع بعد، في رأيي، أن تظهر لنا قدارتها في تدبيرو تسيير أنشطة خزانة سينمائية.

هنا بالتحديد، أود أن أتوجه للسيد الوزير بسؤالين مرتبطين ارتباطا وثيقا ببعضهما:

السؤال الأول: هل يمكن لمخرجة سينمائية أن تكون لها الكفاءة والمؤهلات لتسيير، بطريقة جادة ومستمرة، مؤسسة من حجم خزانة سينمائية وطنية، بينما لديها انشغالات أخرى؟ أليست مهنتها الحقيقية قبل كل شيء آخر هي كتابة الأفلام أو الإشراف على كتابتها، وإخراجها، وإنتاجها أو الإشراف على إنتاجها، ثم الترويج لها والسهر على مسارها تجاريا وفي المهرجانات السينمائية؟ بصراحة، متى سيكون لديها متسع من الوقت لتدبر شؤون هذه الخزانة السينمائية؟

سؤالي الثاني: أود أن أفهم ما هي الفائدة العملية والواقعية والفعلية والمهنية والفنية والسينمائية من قرار فصل المركز السينمائي المغربي عن الخزانة السينمائية المغربية؟ أو بعبارة أخرى: كيف يمكن أن يؤدي إبقاء الخزانة السينمائية تحت إدارة المركز السينمائي المغربي إلى عرقلة مهمة مديرة هذه الخزانة في تدبير هذه المؤسسة؟ وإذا اتبعنا هذا المنطق، لماذا إذن لا نقوم بجعل الأقسام الأخرى في المركز السينمائي المغربي أقساما مستقلة تابعة للمؤسسة الأم، مثل قسم الإنتاج أو القسم التقني “المختبر” على سبيل المثال كما سيكون عليه وضع الخزانة السينمائية في مشروع السيد الوزير؟

سأكون واضحا أكثر: ليس لدي أي مشكل شخصي على الإطلاق مع نرجس النجار، التي كنت دائما أعتبرها صديقة، لكنني أعتقد أنه من حقي كعاشق للسينما وكمواطن أن أحاسبها على إدارتها للخزانة السينمائية المغربية، بينما كنت أرغب في التحدث معها أكثر عن الأفلام التي قامت بإخراجها أو تلك التي هي بصدد تحضيرها.  

أعلم أنه لا أحد يجرؤ على التعبير عن رأيه علنا في هذا الموضوع، لكن على السيد الوزير أن يعلم أن الجميع يقضون وقتهم في الخوض فيه، خاصة في الحديث عن راتب شهري كبير   – قد يكون الأمر مجرد توهم – تحصل عليه نرجس. أنا متأكد أنها تعلم جيدا أن الكثيرين ينتقدون تعيينها كمديرة للخزانة السينمائية المغربية، لكنهم يفعلون ذلك خلسة خوفا من أن يتم توبيخهم، أو أن يتم على الخصوص حرمانهم مما يثير اهتمامهم أكثر: نصيبهم من “الگاميلة”.

بشأن مشروع الإصلاح

يقودني هذا الموضوع للانتقال لتناول النقطة الرئيسية الثانية التي أثارها السيد الوزير في نصه، وهي مشروع إصلاح لجان الدعم، خاصة تلك التي تدعى “لجنة التسبيق على المداخيل”.

من خلال قراءة القسم المخصص لهذه النقطة في المشروع، ندرك أن السيد الوزير يسعى لتعديل نظام الأشطر الأربعة التي يبلغ كل واحد منها نسبة  25٪ وهو النظام المطبق إلى اليوم، ليتم استبداله بأنظمة أخرى، مثل 50-50 أو  80-20وذلك “لتشجيع تصوير الإنتاجات السينمائية التي تتناول تاريخ المغرب” حسب قوله.

ما يثير الانتباه هنا هو أن السيد الوزير لا يشرح لنا كيف ستكون هذه الأنظمة الجديدة أكثر عدلا، أو أكثر إنصافا، أو كيف ستكون عملية بشكل أكبر مقارنة بالنظام المعمول به حاليا، ولماذا ستقتصر هذه الأنظمة فقط على الأفلام التي تتناول “تاريخ المغرب” دون غيرها من الأفلام الأخرى؟ ثم ماذا يقصد بـ “تاريخ المغرب”؟ هل عندما نصنع فيلما يحكي قصة حب جرت في أية منطقة من المغرب، أليس هذا “تاريخ المغرب”؟

في الواقع، أعتقد أن السيد الوزير لا يعرف بعد أن المشكلة الحقيقية ليست في نظام الأشطر الأربعة، بل ما نفعله بهذه الأشطر. وعلى الرغم من أنه لم يسألني عن أي شيء، سأسمح لنفسي أن أشرح له ما لا يريد مساعدوه شرحه له أو لأنهم لا يعرفون القيام بذلك.

عندما تختار لجنة التسبيق على المداخيل مشروع فيلم من أجل دعمه، تتم إعادة تقييم ميزانية الإنتاج من قبل الأعضاء المؤهلين في هذه اللجنة. ووفقا للقانون المعمول به، يجب أن يستفيد المشروع الذي تم اختياره من 2/3 المبلغ الذي تم تقديره، (في حدود 10.000.000 درهم كحد أقصى). بالنسبة للثلث المتبقي، يجب أن يساهم به حامل هذا المشروع، إما نقدا، أو بالمشاركة بالرواتب، كأجر كاتب السيناريو مثلا و/أو المخرج، أو من خلال مصاريف المكتب أو مصاريف أخرى، أو من خلال الجمع بين كل ذلك.

فما الذي يحدث في أكثر من  90٪ من الحالات؟ الواقع أنه لا تكاد تكون هناك أية مساهمة. بل الأسوأ من ذلك: أنه في معظم الحالات، نعتمد على ثلثي مبلغ الدعم الذي يمنحه الصندوق، إما لسداد ديون سابقة، أو لضمان دخل منتظم في الأشهر أو السنوات القادمة التي تلي تصوير هذا الفيلم، في انتظار الفيلم الموالي.

بمعنى أوضح، فإن الأفلام غالبا ما يتم إنتاجها فقط بنسبة 2/3 من مبلغ الدعم، وهو المبلغ الذي غالبا ما يتم اقتطاعه من مجموع ما تم أخذه قبل وبعد الإنتاج.

نعم، هذا الأمر ليس منطقيا. نعم، هذا أمر غير مقبول من الناحية الأخلاقية. نعم، إنه فعلا أمر محزن للغاية. بل يبدو الأمر دراماتيكيا أكثر حين نعلم أن الشطر الرابع والأخير لا يمنح للمنتج إلا بعد تقديمه للنسخة النهائية للفيلم، وهي النسخة الجاهزة للتوزيع.

ومع ذلك، فقد رفضت اللجنة أحيانا في السنوات الأخيرة منح هذا الشطر الرابع عندما اعتبرت أن الفيلم ليس جيدا أو أنه لا يتطابق مع المشروع المقدم.

لكي نفهم الأمر جيدا، سأقدم مثالا بالأرقام:

لنفترض أن مشروع فيلم تم اختياره من قبل اللجنة تم تقييم مبلغ إنجازه في مبلغ 6 مليون درهم على سبيل المثال. يتعين على اللجنة أن تعطي موافقتها لمنح صاحب المشروع المختار 2/3  هذا المبلغ، أي 4 ملايين درهم، ويبقى هذا الأخير ملزما بتوفير المبلغ المتبقي وهو 2 مليون درهم.

سيتم إذن تقسيم مبلغ التسبيق المحدد من قبل اللجنة في 4 ملايين درهما على 4 أشطر يحدد مبلغ كل شطر منها في 1 مليون درهم.. وحتى دون التأكد مما إذا كان المنتج قد جمع الثلث المتبقي أم لا، أو جزء منه فقط، سيضع المركز السينمائي المغربي الدفعة الأولى رهن إشارته، قبل أسابيع قليلة من بدء التصوير، وسيتم دفع الشطرين الثاني والثالث له مع تقدم مرحلة التصوير. أما الشطر الرابع، وكما أوضحت ذلك سابقا، فيمنح، أو لا يمنح، بعد مشاهدة النسخة النهائية للفيلم.

لذلك، من الناحية النظرية، كان يجب على المنتج أن يوفر مبلغ 2 مليون درهم الذي يشكل مساهمته في الإنتاج. لكن لأنه لا ينجح في توفير ذلك في معظم الحالات، وبما أنه من أصل 3  ملايين التي حصل عليها، قد يكون قد خصص جزءا منها لأجل حاجياته الخاصة، وكنتيجة للتسابق: فإن الفيلم لا يتم إنتاجه إلا بما تبقى، في انتظار الشطر الرابع والأخير والمقدر في مليون درهم والذي أصبح افتراضيا، والذي وعد بأن يستخدمه لدفع باقي رواتب فرق العمل، والفواتير، وغيرها، وهو وعد قد لا يتم الوفاء به دائما.

وبالتالي، فإن الفيلم الذي قيمت لجنة الدعم ميزانية إنتاجه في مبلغ 6 ملايين درهما، يتم تصويره، في أفضل الأحوال، بمبلغ 4 ملايين فقط، عندما يكون منتجوه أناسا صادقين يصرفون على إنتاج هذا الفيلم كل الأموال التي حصلوا عليها من صندوق الدعم.

لذلك لا يجب أن تتفاجؤوا بالجودة المتوسطة في كثير من الأحيان، بل والمتواضعة لمعظم الأفلام الممولة من القطاع العام في السنوات الأخيرة.

لا، هذا ليس تصويرا كاريكاتوريا للوضع، بل هي الحقيقة المحزنة. 

هل أحتاج لأذكركم أن صندوق التسبيق على المداخيل يقوم كل سنة بدعم ما معدله عشرين فيلما روائيا طويلا، مما يعني أنه على مدى 10 سنوات، على سبيل المثال، تدعم الدولة المغربية إنتاج 200 فيلم على الأقل.!  فمن بين 200 عمل تم إنتاجها في السنوات العشر الماضية، من يمكنه أن يعطيني عناوين 10 أفلام فقط، أو لنكن أكثر سخاوة، عناوين 20 فيلما، أي  10٪ من الإنتاج الكلي، 20 فيلما نالت إعجاب الجمهور المحلي أو العالمي في مهرجانات كبرى، وأؤكد هنا على المهرجانات الكبرى، لا أتحدث عن المهرجانات التي لا تحظى بأدنى اهتمام أو بأية قيمة فنية والتي تكاثر عددها في جميع أنحاء العالم؟

لقد ذهب إلى غير رجعة زمن تلك الأفلام الرائعة التي ما زالت عالقة في الذاكرة، والتي تم إخراجها وإنتاجها بعد التضحيات وبالأموال الخاصة للمخرج أو تلك التي اقترضها المخرج من أصدقائه دون أن يتمكن يوما من تسديدها. من منا لا يتذكر الأعمال الكبرى في السينما المغربية أمثال “الحال”، و”وشمة”، و”حلاق درب الفقراء”، و”ألف يد ويد” وغيرها؟ نعم، لقد بات كل ذلك اليوم بعيد المنال. 

لذلك، فإن كل هذه الأنظمة، سواء كانت  4 × 25٪ أو 50/50 أو 80/20، قد تكون جيدة أو غير جيدة بما يكفي، لكن ليس هذا هو جوهر المشكلة. أعتقد أنه ما دمنا لا نناقش بجدية، وبدون تحيز، ولا مخادعة، ولا خوف، ولا قلق، كل الأسئلة المتعلقة بتمويل إنتاج الأفلام ومراقبة هذا التمويل، ولكن أيضا أسئلة كفاءة ومؤهلات أعضاء لجنة الدعم، فإننا سنستمر في إنتاج الكثير من الأفلام، بل الكثير جدا بالنسبة لجمهورنا السينمائي محدود العدد، لكن سينمانا ستبقى حتما بشكل عام في نفس المستوى، والذي يعد متدنيا جدا كما هو عليه الحال  اليوم.

إننا قد نسهم في إبراز بعض المخرجين الشباب الذين تتوفر فيهم موهبة الإبداع، لكن منطق التشبه سيغالبهم للأسف، وسيسعون ليصبحوا “أثرياء” بسرعة كبيرة أيضا، كما العديد من الزملاء الآخرين الذين سبقوهم، بفضل أموال دافعي الضرائب.

باختصار شديد، طالما أن أموال دافعي الضرائب لا تخضع لرقابة صارمة وحازمة وجادة، فلن نتمكن أبدا أن نرتقي بالسينما المغربية إلى درجة عالية من الجودة، لن نصل إلى سينما تتألق على الساحة الدولية، وتغذي جمهورها فكريا وفنيا، وتسطع في سماء أخرى في مهرجانات مرموقة.

أعلم أنه بعد قراءة هذا الذي كتبت، سيكرهني الكثيرون، أو بالأحرى سيكرهونني أكثر، لكنني لا أولي لذلك أي اهتمام، بدليل أنني سأستمر. بل إنني لم أنته بعد من نص مشروع السيد الوزير.

استمرار حالة الإنابة

سأتطرق بسرعة لهذه الرغبة الجامحة في أن أرى ذات يوم المجالس الجهوية وقد انخرطت في دعم الإنتاجات السينمائية التي من شأنها أن تسهم في الترويج لها وتوفير فرص الشغل لساكنتها المحلية، وسأنتقل مباشرة إلى فتح باب الترشح من أجل منصب المدير المستقبلي للمركز السينمائي المغربي الذي يعتزم السيد الوزير الإعلان عنه بحلول … يونيو  2023. لابد من القول هنا إن الجميع ينتظر هذا الإعلان منذ مدة تصل إلى سنة ونصف تقريبا، منذ أن غادر المدير السابق هذا المنصب في أكتوبر 2021. إن اعتماد صيغة “المدير بالنيابة” بحكم تسميتها تعني أنها صيغة مؤقتة، انتقالية، محدودة في الزمن، ومع ذلك فإن السيد الوزير يعمل على إعطائها صبغة الاستدامة، عن وعي أو عن غير وعي، مع كل الأضرار الجانبية التي يمكن أن تتسبب فيها. آمل ألا يكون شهر يونيو القادم هو شهر دجنبر أو العام القادم.

بالمناسبة، هناك شيء لم أفهمه جيدا في هذا النص/ الإعلان للسيد الوزير. فقد تحدث عن تعيين “مدير عام” للمركز السينمائي المغربي، لكن، حسب علمي المتواضع، فإن المركز السينمائي المغربي هو مؤسسة عمومية لم يحمل كل من كان على رأسها، منذ إنشائها إلى غاية اليوم، لقب “المدير العام”. لكن لقب “مدير”، والذي يعد لقبا مشرفا ومرموقا للغاية. ما لم يكن في مشروع التعديل الجديد يتحدث عن شيء مستجد.. من يدري؟

في الواقع، لم يكن هذا هو ما أثارني أكثر، بل الشرط الأولي الذي يعتزم السيد الوزير وضعه في إعلان تقديم طلبات الترشح لهذا المنصب والذي طال انتظاره: “يجب ألا يكون المرشح منتجا ولا مخرجا، كما يجب ألا يكون لديه أية مهنة أو وظيفة يمكن أن تضعه في موقف “تضارب المصالح”.

لا يسعني إلا أن أتوجه بخالص التحية للسيد الوزير على حرصه الشديد فيما يتعلق بهذه النقطة التي تكتسي أهمية أخلاقية أكيدة، لكني أتساءل لماذا لم يطبق هذا الشرط عند تعيينه للمديرة الحالية للخزانة السينمائية المغربية؟ ألا يوجد “تضارب للمصالح” في هذه الحالة؟

وبجدية أكثر، قبل أن أختم، أود أن أقول للسيد الوزير الذي قد يصدق كلامي وقد لا يصدقه: إنه ليس لي أي خلاف شخصي معه، وإني لا أتحدث باسم أي شخص، وإن الذي يدفعني للحديث هو ضميري كمواطن، وإن الدافع الوحيد لي هو شغفي بالسينما وبالثقافة.

وزراء تولوا الثقافة

 أنا لا أعتبر السيد الوزير خصما، بل على العكس تماما. فالوزير الذي يتولى شأن الثقافة، أود دائما أن أجعله صديقا وحليفا، لكي لا أقول شريكا.

لطالما كنت مقتنعا تماما أنه إذا كان هناك قطاع واحد في الحكومة يمكن أن يكون قادرا على رفع من يتولاه إلى مرتبة الشرف والاعتبار، فسيكون بلا شك هو وزير الثقافة. أذكر بعض أسماء الوزراء الذين كانوا مسؤولين عن الشأن الثقافي والذين تركوا بصمتهم في زمانهم وعصورهم. في فرنسا على سبيل المثال أذكر، دون ترتيب في سرد أسمائهم، موريس درون، وألان بيرفيت، وفرانسواز جيرو، وجاك لونگ – الذي دخل التاريخ من بابه الواسع من خلال “عيد الموسيقى” التي أنشأه هو نفسه، وفريديريك ميتيران – الذي لا ترجع مكانته فقط إلى نسبه – دون أن ننسى الكبير أندري مالرو، مؤلف” الشرط الإنساني” وبالنسبة للمغرب، سأذكر اسما واحدا فقط هو الراحل محمد الفاسي، الذي عرفته وشاهدته عن قرب عدة مرات وأنا في سن المراهقة. كان ذلك خلال عدد لا يحصى من الأنشطة المسرحية والسينمائية والموسيقية، التي كان خلالها يتجول بقامة طويلة لمفكر شغوف يرتدي جلبابه الأبيض أو الداكن اللون أو المخطط.

حل المشكلة الأولى

لا أملك أية نصيحة أخرى أقدمها للسي محمد مهدي بنسعيد، لكن لا يمكنني أن أنهي هذا المقال دون أن أذكره أن إيجاد حلول للمشاكل لا يتم بإخفائها، وأن المشكلة الأولى التي يجب على السيد الوزير حلها دون تأخير، وبدون مزيد من الانفعال، هو أن يعيد طارق خلامي إلى مهامه. أعلم أنه يعلم أنه ليست له أية مسؤولية في “قضية العيون”. كلما تأخر في إعادة الاعتبار له، كلما تضاءل الأمل الذي يحمله فيه الكثير من الناس، بمن فيهم أنا، بسرعة أكبر.

استراتيجية يجب التداول بشأنها

صحيح أنني لم أتطرق إلى جميع المواضيع التي تهم السينما في بلادنا، ومع ذلك هناك العديد من القضايا الأخرى التي لا تقل أهمية، مثل مشكلة قاعات السينما التي تغلق أبوابها في واضحة النهار، أو تلك الجديدة التي يتم التخطيط لفتحها. كما أنني لم أتمكن من التحدث عن المشكلة العويصة المرتبطة بالقاعات، وهي مشكلة الجمهور المهتم بالسينما الحقيقية والذي يقل بشكل متزايد، والعديد من القضايا الأخرى. في الحقيقة لم يكن في نيتي التطرق لكل المواضيع في هذا المقال، ولا يمكنني أن أدعي أن بإمكاني ذلك، لكنني أفكر جديا في القيام بذلك لاحقا، لأنني لا زلت واثقا من أن السينما والثقافة بشكل عام مازالت أمامهما في بلادنا أيام مشرقة، لكن شريطة أن يكون للمسؤولين رؤية استشرافية واستراتيجية حقيقية للتطوير. كما أنه لا ينبغي أن يتم إملاء هذه الرؤية والاستراتيجية من قبل أي شخص، بل يتعين مناقشتها والتداول بشأنها مع جميع الأشخاص والمنظمات المهتمة والمعنية بها. أعلم جيدا أنه مازال هناك من يسعى بجد إلى ذلك.

بقلم: محمد العروصي

Related posts

Top