تميزت المجموعة القصصية لمؤلفها القاص المغربي محمد عبد الفتاح على المستوى الدلالي بالعديد من المواضيع والتيمات، تميزت بتداخل الذاتي بالموضوعي من خلال منظورات إشكالية تعمل على الإجابة على أسئلة الواقع المتعددة من قبيل: (تمزق الذات، اهتزاز القيم، قلق الهوية، الآخر، تصوير القمع، تجارب الحب…). لكن أول ما شدني إلى المجموعة، وأثار انتباهي، هو ما تتميز به من رؤية تنبني على التحول، وهو التحول الذي يصل حد المسخ، وهو المسخ الذي يطال الشخوص، والفضاءات، والأزمنة، والقيم، كل شيء يفقد هويته وطبيعته، ويلبس لبوسا آخر لا قبل له به.
المسخ: التجلي والدلالة:
في معنى المسخ: تتفق جميع المعاجم أن فعل المسخ يعني: تحول الصورة إلى صورة أقبح، ففي معجم الرائد لـ “جبران مسعود”: مسخ يمسخ مسخا: مسخهُ: حول صورته إلى صورة قبيحة. وهو أيضا: اعتقاد بانتقال النفس من بدن الإنسان إلى بدن حيوان يناسبه في الأوصاف. ومسخ الكاتب: أكثر الخطأ في الكتابة، ومسخ الناقة: هزلها، أضعفها. ومسخ طعم اللحم أو غيره: أذهبه. ونفس المعنى نجده في تعريفات الجرجاني، ومختار الصحاح- لمحمد بن أبي بكر الرازي- مسخ: تحويل صورة إلى ما هو أقبح منها.
يحضر فعل المسخ في المجموعة باعتباره لا يشبه فعل المسخ في الكتابات التي توظف الفانطاستيك، أو في الحكاية الخرافية التي تتخذ منه عاملا محورا لتشكيل معناها ومبناها، الفرق يكمن في أن التحول في هذه الأخيرة يطال حتى الجوهر، (حتى لا يلتبس الأمر على البعض)، أما المسخ في مجموعتنا فهو يطال الأدوار فقط. والمسخ يكون في الخرافة جزاء أو عقابا، وقد يسترجع الممسوخ (من وقع عليه فعل المسخ) صورته الأولى، عندما يستوفي شرط ذلك، لكن المسخ في مجموعتنا مسخ لا يعود منه أحد؛ إنه مرتبط بموقف القاص ورؤيته: (يجلس الضفدع على كرسيه المتحرك، يختلس النظر بطرف عينيه إلى طلبته، يتقيأ درسه) قصة : الضفدع يطير في الهواء ص،9.
والمسخ يتحقق في المجموعة إما تصريحا كما في قصة: الضفدع يطير في الهواء، حيث تحول المثقف (الأستاذ الجامعي) إلى مجرد ضفدع، مثالا للسلبية، والعدمية، واللاجدوائية، كحال الضفدع: لا يكدر ماء ولا يمنع شاربا، ومن تم، فإن كل ما ينجزه هذا الضفدع (الأستاذ الجامعي)، لا يعدو أن يكون بدوره ضفدعيا، لا طائل يرجى من وراءه، فهو : سيرتجل موضوعا ضفدعيا (ص:9)، ويتفرغ لمشاريعه الضفدعية (ص10) و (يجري اتصالات ضفدعية) (ص9)، بل إن صفة الضفدعية ستنسحب على كل قطاع، أو إطار لازمته السلبية والعدمية من: (أحزاب، وكليات، ووزارة، وحكومات، وقضاء، وجمعيات، وتلفزيون…( ص 9_10_11- من قصة: الضفدع يطير في الهواء).
والمسخ يطال كل شيء، يطال الفضاءات، كما في قصة (ضحية نضالية)؛ حيث يصبح مقر الحزب، مجرد دكان حزبي: (الدكان الحزبي الذي قضى فيه زهرة عمره… بقي المسكين يرشف كؤوس الشاي في المقر الذي لا يسدد ثمن كرائه ( ص، 62). ويطال القيم، ففي قصة (وجبة حب سريعةّ) تحول الحب: القيمة الإنسانية السامية، إلى محرد: (حب الكتروني و حب من أول شات)، وبضربة ماوس كان كلاهما يبحث عن قصة حب جديدةّ) (ص: 60) .
يحضر المسخ أيضا تلميحا كما في قصة : (موعظة هاي لايف )، حيث لمح فيها إلى المسخ الذي اعترى المواعظ حين نقرأ: ( أرغى مخرج البرنامج الديني … وتوعد محاولا إقناع الشيخ أن يكون أكثر إثارة في موعظته… اضطروا لإعادة المشهد (ص:62)، أما في قصة (عزلة الكاتب) فيبدأ الإفصاح عن هذه الرؤية انطلاقا من العنوان (عزلة الكاتب)، فالكاتب الذي يأخذ مادته من تجاربه، واحتكاكه مع محيطه، يتخلى عن هذا كله، ويعتزله ماضيا لحال سبيله، زاهدا في كل شيء، وهذا في حد ذاته تحول عن المعتاد، وعن الدور المنوط به، إنها عزلة اضطرارية، قسرية، في واقع استشرى فيه المسخ، ولم يعد في الإمكان أكثر مما كان.
وفي نفس القصة، نقف على مسخ آخر، ورد تلميحا، والمستهدف هو الحلم؛ ففي واقع ممسوخ، لا بد وأن تتحول فيه الأحلام، وتخيب ( تمسخ) التطلعات، فالكاتب، الذي دفعته الحاجة للاشتغال بالمحطة الطرقية، لتوفير المبلغ المطلوب، لإصدار كتابه الأول، (لما تجمع لديه مبلغ من المال يكفي للغرض، وحين أراد كتابة قصيدة وجد أن ذاكرته غزتهاّّّ أشياء غريبة، ضوضاء الحافلات، أبواق السيارات، أصوات الباعة وسائقي الحافلات… أراد تدوين أفكاره فوجد أنه أصبح يجهل الكتابةّ) (ص،17).
وإذا كان فعل المسخ في الحكاية الخرافية، لا يحدث إلا لسبب، ويأتي عاملا يساعد أو يعاكس رغبة الشخصية، فإن المسخ في المجموعة القصصية بدوره لم يحدث من فراغ، بل هيأت له شروط موضوعية، كان المسخ واحدا من نتائجها المحتومة. من هذه الشروط: فعل الترويض الذي يتخذ من أن (الغريب من فرط الألفة، يصبح مألوفا) منطلقا لتحقيقه، وهو ما تشير إليه (قصة الجبن): (تأمل العربي قطعة الجبن فوق مائدة الفطور، مد يده وتناولها في فمه، استساغ مذاقها دهور…، مد الصغير يده حيث امتدت يد والده… وجدها في غاية المرارة مجها من فمه ونظر صوب والده باحتقار) ص:59. ومن هذه الأسباب( الشروط) أيضا، ما يشير إليه قول السارد في نفس القصة: (انتشر الجهل وفسدت العقول…وانتشر الظلام) ص:55.
ثم إن المسخ يعيد إنتاج نفسه، فيصبح بدوره شرطا موضوعيا لتحققه، فالممسوخ لن ينتج إلا مسخا مثله، لذلك، كان من الطبيعي أن ينتج (الأستاذ الضفدع) (محاضرة ضفدعية)، ويكتب (قصة ضفدعية) ويأتي بـ(مشاريع ضفدعية)
هكذا تصوغ المجموعة رؤية واقعية، فهي تشكل سردا يعكس نسيج الحياة، بكل تعقيداتها النفسية، والاجتماعية، والسياسية، والجمالية، وقد جاءت مهووسة بمساءلة المجتمع، وملاحقة تناقضاته وصراعاته، وكشف المخبوء والمستتر عليه، مستثمرة في ذلك معظم إفرازاته السلبية لتأثيث عالمها القصصي، وهي رؤية انتقاديه للسائد، تحققت من خلال رسم سمات الإعاقة، وعوامل الانكسار، والنكوص لصورة واقع يبدو من المستحيل إعادة تأهيله. الأمر الذي يفضي بنا إلى استنتاج أن القصة عند الكاتب محمد عبد الفتاح وككل إبداع أصيل: “ضرب من ضروب النشاط النقدي، يتصدى للمجتمع بكل أوجهه وتحركاته المتصلة بتراكيبه البنيوية، وموروثاته التقليدية، ونوازعه العميقة الخفية منها والظاهرة، ومكان الإنسان من ذلك كله” (جبرا إبراهيم جبرا، استفتاء حول الرواية، مجلة أقلام، ع – السنة 1977.- ص: 69).
> بقلم: أحمد بوغربي