عرفت الحرب الروسية الأوكرانية، التي بدأت منذ 24 فبراير 2022، اهتماما واسعا من قبل الرأي العام الدولي، نظرا لمكانة البلدين في الساحة العالمية، سواء على المستوى السياسي والاقتصادي والعسكري، ناهيك عن الجانب التاريخي المعقد الذي تمتد سرديته إلى التطورات الأخيرة في العلاقة المتوترة بين موسكو وكييف.
ويتوالى الهجوم الروسي على أوكرانيا الذي يصفه الكرملين بـ”العملية العسكرية” المحددة الأهداف، بتدمير المنشآت العسكرية، ونزع سلاح هذا البلد، ودفعه إلى الحياد تجاه حلف الشمال الأطلسي”النيتو”.
ولا توجد حاليا مؤشرات دالة على قرب انتهاء هذه الأزمة التي أرخت بظلالها على العالم، بفعل دمار “الغزو” الذي لحق أوكرانيا، والعقوبات المفروضة على روسيا من قبل الغرب.
وتعد هذه الحرب الدائرة رحاها فوق الأراضي الأوكرانية، والتي أدت إلى نزوح أزيد من 10 ملايين أوكراني داخل البلاد وخارجها، تطورا حتميا للعلاقات المتشنجة بين الكرملين والغرب، هذا الأخير الذي يقدم مساعدات عسكرية لفائدة القوات الأوكرانية لمواجهة الجيش الروسي، وهو ما يدفع إلى مزيد من المواجهة في الوقت الذي تسير فيه المفاوضات بشكل “ثقيل” على حد وصف وزارة الخارجية الروسية.
ومن خلال هذه الزاوية الرمضانية، سنعيد تركيب قطع “البوزل” لمحاولة فهم ما يجري بين روسيا وأوكرانيا، والوقوف عند تداعيات هذه الحرب، وما سيترتب عنها في المستقبل من إعادة لرسم خريطة العلاقات الدولية، وهو ما ظهر بشكل واضح بتحالف التنين الصيني مع الدب الروسي في وجه الغرب”أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية”.
الحلقة 1: استقلال أوكرانيا
كانت أوكرانيا، جزاء لا يتجزأ من الاتحاد السوفياتي، بقيادة الحزب الواحد عندها؛ الحزب الشيوعي السوفياتي، اعتمادا على نظام الحكم الذاتي في التسيير والتدبير الداخلي، والاحتفاظ باستراتيجية السوفيات في السياسة الخارجية للبلاد.
بيد أنه، خلال سبعينيات القرن الماضي، ظهرت في أوكرانيا حركات معارضة للنظام الشيوعي، يقودها مثقفون وحقوقيون، بنزعة محافظة، حيث تزايد نشاطها في الثمانينات، تزامنا مع الإصلاحات الاقتصادية التي دعا إليها رئيس الاتحاد السوفياتي آنذاك ميخائيل غورباتشوف.
وواجهت هذه الحركات الجديدة بداخل أوكرانيا، معارضة قوية، وهو ما أدى إلى تعرض أعضائها للسجن، والنفي، قبل أن يتم السماح لهم فيما بعد بإعادة ممارسة أنشطتهم، التي أفرزت حركتين سياسيتين، الأولى هي حركة الشعب الأوكراني، التي انبثق عنها بعد الاستقلال عدد من أحزاب اليمين والوسط، وثانيهما، حزب محافظ يسمى بالحزب الجمهور الأوكراني.
وبعد الإعلان الرسمي عن حل الاتحاد السوفياتي، أعلن البرلمان الأوكراني سنة 1990 استقلال أوكرانيا، لتعدل بذلك القوانين الداخلية للبلاد، سامحة بالتعدد السياسي والملكية الفردية.
وأواخر سنة 1991 وافق حوالي 90 في المائة من الأوكرانيين في استفتاء وطني على الاستقلال، معلنين انتخاب رئيس الجهورية وقتها، وهو زعيم الحزب الشيوعي الأوكراني ليونيد كرافتشوك، والذي اتبع سياسة خارجية منفتحة على الغرب، ومتحفظة تجاه روسيا طيلة ولايته التي امتدت إلى 1994.
مع إعلان استقلال أوكرانيا، انشق عن الحزب الشيوعي الأوكراني بعض الأعضاء، مشكلين حزبا جديدا هو الحزب الاشتراكي الأوكراني، ومع توالي السنوات ستنبثق عن هذين الحزبين جل الأحزاب اليسارية في البلاد.
ولم يستمر هذا الارتباك داخل الحزب الشيوعي الأوكراني طويلا، لأنه أعاد ترتيب صفوفه قبل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية عام 1994 ليحصد الحصة الأكبر من المقاعد البرلمانية. إلى جانب ذلك، انتخب الشيوعي ليونيد كوتشما رئيسا للجمهورية، ما يعني إحكام الشيوعيين قبضتهم على النظام السياسي الحاكم.
استمرت رئاسة ليونيد كوتشما للبلاد إلى سنة 2004، وطيلة هذه السنوات مرت أوكرانيا بمنعطفات سياسية واقتصادية حادة، لازال جزء لا بأس به من نتائجها مستمر إلى اليوم، مؤثرا في الهوية السياسية الخارجية للدولة، وهو سر من أسرار الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا حاليا.
حاول كوتشما نزع الغطاء الشيوعي عن أوكرانيا بالترويج إلى أنها بلد آسيوي-أوروبي، متمكنا من الانفتاح على الغرب، لاسيما أثناء النصف الثاني من التسعينيات، بالموازاة مع إبرام الولايات المتحدة الأمريكية، لحزمة من الاتفاقيات الاقتصادية والعسكرية.
وفي هذا العهد، بدأت التدخلات الغربية في السياسة الداخلية لأوكرانيا تتزايد، ذلك، أن تدفق الشركات بدا واضحا وجليا، كما أن رؤوس الأموال الغربية تضاعفت بشكل واضح، ما أدى إلى تراجع النفوذ الروسي بالبلاد.
وبهذا التوجه المنفتح في الاقتصاد، انتقلت أوكرانيا بعد استقلالها، من الاقتصاد الشيوعي إلى اقتصاد السوق المفتوح، والملكية الفردية لوسائل الإنتاج، وكان هذا الزخم، في سنوات خوصصة الشركات والمؤسسات العامة بين سنة 1994 و1999، حيث حظيت هذه الخطوة بدعم من الغرب، أبرزهم البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
لكن هذه الحركة الاقتصادية، أنتجت عملية “فساد مالي وسياسي واسعة”، ظهرت بسببها في التسعينيات طبقة أوليغارشية من رجال الأعمال، استولوا على الممتلكات العامة لأوكرانيا، وجعلوها في ملكيتهم الخاصة بدون دفع مقابلها المالي لفائدة خزينة الدولة.
وإلى جانب هذه الطبقة التي كانت تظم رؤساء ومدراء مؤسسات استراتيجية بالبلاد، استخدموا نفوذهم في الحصول على هذه الممتلكات بشكل غير شرعي، كانت هناك طبقة أخرى من المافيات والعصابات المتخصصة في الجرائم المنظمة التي كان لها حصتها أيضا في توزيع تركة أوكرانيا.
إعداد: يوسف الخيدر