صدر للكاتب المغربي محمد مهداوي رواية بعنوان(الموت في زمن كورونا)، منشورات مطبعة الرأي العربي بالمحمدية، الطبعة الأولى 2022، الإخراج الفني للفنانة السورية سامية طرابيشي، أما تصميم الغلاف فهو لكاتب الرواية. ولا غرو فهو أستاذ اللغة العربية، ومبدع تنوع إنتاجه الشعري بين الزجل والفصيح، وهو قاص صدرت له مجاميع قصصية أثبتها على ظهر الغلاف. أما صورة الغلاف فهي مختارة بعناية فائقة؛ صورة امرأة سافرة الوجه، بشرتها تميل إلى البياض، تضع إصبعها على فمها خوفا على صحتها في زمن كورونا، وتندب حظها،فهي محاصرة بوباء كورونا الجاثم في صورة وجه أخضر يتخلله الفيروس الذي قد يتسلل إلى الجسد في أية لحظة، وفي أعلى الصورة يستوي شكل هندسي أحمر كأنه فيروس كورونا المستأسد، والمغلف لفضاءات الرواية على طول وعرض مائة وسبعة عشر صفحة من الحجم المتوسط.
تتكون الرواية من أربعة وعشرين فصلا، وكل فصل يحمل عنوانا دالا ومستفزا للذخيرة الفكرية للمتلقي في زمن كورونا.ووعيا من الكاتب بسياق هذه الرواية؛ سياق الحجر الصحي أوكل للدكتور طه الهباهبة أن يضع لها تقديما. وقد فعل، فقد لخص المتن الروائي في صفحتين وستة أسطر، وعيا منه بأهمية خلخلة الذخيرة الفكرية للمتلقي المفترض، وفتح شهيته لمساءلة العوالم الروائية المندغمة في أزمنة كورونا وفضاءاتها،وعلاقاتها بالشخوص المهزوزة نفسيا، والمستعصية على الفهم، والجاثمة على صدر السارد العليم،الذي أرخى بكلكله على كل الفضاءات، فينقل كل حيثياتها، ومفارقاتها، وتناقضاتها، بلغة سردية ساخرة جدا. وهذا يدل على أن السارد راكم سجلا موسوعيا حول كورونا،ونجح إلى حد كبير في نقل صورة مثالية لزمن كورونا وزمن الحجر الصحي،إلى المتلقي الذي لم يكن مؤهلا نفسيا وفكريا وصحيا وثقافيا لتقبل هذه الفضاءات، والاقتناع بجدوى وجودها في زمن كورونا.
إن السارد نجح في جعل الفضاءات المقدسة فضاءات مدنسة على لسان البطل التراجيدي (المختار) زمن كوفيد 19، لأن هذه الشخصية هي من لحم ودم،ولها من القابلية ما يكفي لتندغم وتنسجم في فضاءات الرواية،والتي يمكن أن نجملها فيما يلي:
- فضاء المقبرة.
- فضاء الكوميساريا (مركز الشرطة).
- فضاء المحكمة.
- فضاء الحانة.
والملاحظ أن هذه الفضاءات مغلقة، لكن السارد استطاع أن ينفذ في أعماقها، وأن يتكلم بضمير الغائب، على ألسنة الشخصيات المهزوزة نفسيا، لأن شبح الموت كان يحاصرها من كل حدب وصوب.وحتى فضاءات البذخ والترف،والفضاءات المخملية لم يستو عودها في فضاءات قابلة للوصف في هذه الرواية.أما الشخصيات المهووسة بهذه الفضاءات، فقد أشار إليها السارد العليم لماما في سياق بحثها عن هذه الفضاءات المغلقة، إما بحثا عن طقس جنائزي في زمز كورونا، أو بحثا عن طقس سحري غرائبي(الشعوذة والسحر). ومن ثمة فإن الفضاءات المغلقة فقدت قدسيتها وحرمتها،فلم تعد فضاءات آمنة،ما دام الموت يحاصرها،وتحولت إلى فضاءات للسخرية، فكل فصل روائي يحيل على أحداث مجتمعية فرضتهاجائحة كوفيد 19، تتيح للبطل التراجيدي (المختار) على لسان السارد العليم الذي يتمتع بمعرفة تفوق معرفة هذا البطل، فرغم أنه صال وجال في الجندية واكتسب خبرة كبيرة في الحياة، إلا أن فقدانه لرجولته جعلت منه شخصا غير مرغوب فيه. فالمعرفة الموسوعية يمتلكها الساردبضمير الغائب، وهو لا يحظى بفرصة التعبير عن واقعه النفسي والاجتماعي في ارتباطه بواقع الحجر الصحي إلا نادرا. ومن هذه الناحية يمكن اعتباره بطلا مثاليا يبحث عن قيم أصيلة(الرجولة، الشجاعة، البسالة، الفحولة، العدالة)في مجتمع كوروني يفتقد هذه القيم، حيث إن الفضاءات المغلقة أصبحت تمارس غوايتها، ليس فقط عل البطل المثالي المتأزم نفسيا وخلقيا، وإنما كذلك على أولئك الذين كانوا يعتقدون قبل زمن كورونا أنهم يمتلكون الجاه والمالوالنفوذ وسلطة الحكي والسرد.
السارد العليم يوجه الخطاب الروائي للقارئ المفترض مستغلا الثقافة العالمة حول هذا الوباء(وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، ووسائل التواصل الاجتماعي، والأخبار الصادرة عن منظمة الصحة العالمية، وزارة الصحة، الندوات التي كانت تعقد عن بعد)،ومستفيدا من التراكمات السردية التي اشتغلت على الفضاءات المغلقة. وقد نجح إلى حد بعيد فيجعل فضاء المقبرة فضاء رحبا، على المستوى النفسي لبعض الشخوص التي وجدت راحتها في إشباع غرائزها المكبوتة،لكن على حساب الراحةالنفسية للبطل التراجيدي(المختار)الذي يتذكر ماضيه التليد على لسان السارد بكثيرمن الحشرجة الجاثمة على الصدر.
يقول السارد:(لم يكن المختار يتصور يوما أن تتحول عجلة الزمان، وتغدر به بهذا الشكل المريع،خاصة وأن حساباته كانت دقيقة،التزاماته ومواعيده مرتبة أحسن ترتيب، أسرته تأتمر بإمرته وتنساق لقوانينه)ص16.
هذه السعادة التي كان يعيشها البطل التراجيدي حينما كان عسكريا في ساحة الوغى، قبل زمن كورونا لم تعد كما كانت في زمن كورونا، في فضاء يبدو مغلقا لكن الشخصيات التي يحاصرها وباء كورونا تشتاق للانسلال إلى هذا الفضاء. يقول السارد(ما يميز بعض المقابر الجميلة عن غيرها، كونها تشكل الاستثناء لعائلات موسرة أو لشخصيات سياسية بارزة تم تبليطها بالرخام الإيطالي، وصباغتها باللونين الأبيض والأخضر. . . ). ص20.
وأعتقد أن القارئ المؤهل لتأويل هذه المقاطع السردية، هو القارئ الذي راكم سجلا موسوعيا حول الحكي التراجيدي في تماهيه المقلق مع سراديب كورونا وتداعياتها الاجتماعية المعلنة والخفية،لأن السارد قد أجاد رسم ملامح الفضاءات التي تتحرك فيها الشخصيات، وأخضع المساحات السردية للمنطق التراجيدي المهيمن على فضاءات الرواية، واعتنى بالمقاطع السردية، فكل مقطع سردي يحيل على أحداث أفرزتها تداعيات كورونا(الاغتصاب، الشعوذة، الزنا، الخيانة الزوجية، السمسرة…)،تتيح للسارد العليم التعبير عن المتناقضات، والصراعات النفسية التي يحفل بها واقع كورونا في فضاءات غير مألوفة(العالم يحتاج للعزاء، العالم يحصي قتلاه، هواء للبيع، كورونا في كل مكان، رمضان في زمن كورونا، مقبرة للبيع، دعاء للوزير فقط…).
إنها فضاءات روائية بطعم كورونا العصية على الفهم، تفتح شهية القارئ للتعاون مع منتج النص/الكاتب محمد مهداوي، في إعادة بناء معمارية هذه الفضاءات، اعتمادا على ذاكرة البطل التراجيدي المندغمة في قضايا كورونا وأزمنتها الملتوية؛ذلك أن المتلقي سيشكل عليه تحديد بداية الحدث ووسطه ونهايته ما لم ينفتح على الأنساق الاجتماعية، في تعالقاتها الممكنة، مع هلاميات البطل التراجيدي المندغم هو الآخر في فضاءات كوروناالمستفزةللذخيرة الفكرية المشتركة حول وباء كورونا،وللإشارة فهي لازالت قيد التشكل. ومن هذا المنطلق فإن السارد العليم ينتظر من القارئ المفترض أن يجد أجوبة لبعض الأسئلة المستفزة للرأي العام الأدبي زمن وباء كوفيد 19.يقول السارد:(هل حقا الصين هي من سربت الفيروس من أحد مختبراتها؟أم هي مجرد كذبةاقتصادية … الكوكب الأرضي يستغيث وهل من مغيث؟)ص80.
إن رواية (الموت في زمن كورونا)بمثل هذه المقاطع السردية التي تعيش على فائض المعنى، وهي تراهن على الوظيفة الجمالية التي تترك للقارئ المبادرة التأويلية لخلخلة الفضاء الزمني؛ أي إن البعد الزمني الكوروني في الرواية يحتاج إلى من يساعده للاشتغال. والسجل الموسوعي للقارئ ينبغي أن يستضمر قوانين فضاءات الرواية لإعادة صوغ الأفعال السردية لإعادة تشكيل لغة هذه الفضاءات وعنفها السيكولوجي؛ذلك أن البطل التراجيدي(المختار) لم يتأثر فقط بالجائحة وإنما بواقعه النفسي المتأزم، وتنكر هذا الواقع له. وهذا الصراع النفسي في زمن كورونا هو الضامن لقوة السرد، وتنامي الأحداث، فالزمن هنا دائري ينطلق من الذات المتأزمة ليعود إليها من جديد في شكل حلزوني دائري. وفي هذا السياق فإن شخوص الرواية تستنجد بالبطل التراجيدي لتخفف من وطأة هذه الجائحة التي نزلت على البشرية جمعاء ضيفا ثقيلا، وهي تتوق إلى الانعتاق من تبعاتها غير المرغوب فيها، تماما كما يتوق البطل للانعتاق من عقده النفسية، ورغبته الجامحة في استرجاع فحولته.
إنها رواية تراجيدية مستفزة للذخيرة الفكرية للقارئ المفترض، وتشركه في لعبة بناء المعنى وإعادة التوازن النفسي للبطل التراجيدي في فضاءات مشيدة لسرديات الزمن الكوروني، وما يحيل عليه من تناقضات، ومفارقات، وصراعات،وفضاءات خاصة بالإنتاج والتلقي.
بقلم: امحمد امحور