سريالية إكستازيا.. بين صراع الوجود والتحررية السلطوية

ما زالت العودة إلى الجذور الأولى للأسطورة والطقس والفضاء الكوني، ونحن نعيش الأزمنة الرقمية والتقنية، تشغل أفكار ورؤى الكثير من جماليي ومنظري الفن بشكل عام والمسرح بشكل خاص، نظراً لما تتمتع به من خصوبة فكرية وخيالية وفلسفية تناقش وتحرك وتذهب نحو حيثيات وشكل التكوين الإنساني عبر امتداده التاريخي، فكانت مصدراً استعارياً لموضوعات شخصياتها وحوادثها وبنائها الزمكاني والرمزي، لقد تعامل الأدب والمسرح مع الأسطورة واشتغالاتها بوعي ومعرفة، إذ تناغمت ومتطلبات العصور المختلفة عبر إرساء القيم والتعرف على تاريخ السلف، وما يحمله من قيم فلسفية واجتماعية وفكرية أتت ضمن البنية الدرامية للنص أو في اللوحة التشكيلية أو النص الأدبي مع بيان وتفسير وتحليل المعتقدات والخرافات التي ارتكزت على العقل الإنساني القديم، فالأسطورة تعبير عن الأشياء، وتطهير الشوائب لتنقيتها بعيداً عن نكرانها، بحسب رولان بارت، فهي تذهب إلى تفسير الكون ونظامه الكوني والإجابة عن الأسئلة الطقسية والتعبدية. فسارتر وفرويد وجيمس فريزر وأريك فروم ونيتشة بوصفه المختزل للخبرة الفكرية الإنسانية والبشرية، طرحوا وناقشوا الأسطورة والحلم والوعي عبر تحولات مختلفة ومفاهيم متعددة نتجت عنها صور وآراء وتجارب رست للحظة تاريخية محددة.
إن نظام الأسطورة، نظام منفتح على الكل، ولا لأحد محدد، بوصفها نظاماً عالمياً مشتركاً (كما في مسرحية إكستازيا) التي وظفت حضارتين مختلفتين (الإغريقية وبلاد وادي الرافدين).

إكستازيا والمتن الحكائي
تذهب مسرحية إكستازيا للكاتب والمخرج ياسين إحجام إلى الجمع ما بين حضارتين مختلفتين متشابهتين، فالاختلاف هو في الشكل والمكان والزمان ، والتشابه يأتي ضمن العقل والوعي الجمعي في حركية الأسطورة، وتعامل الفرد / البشر مع تلك المعطيات والمفاهيم وتوظيفها والتعايش معها بوصفها حياة كاملة، وترتبط بمصير الفرد وقدريته، فهنا يذهب المتن الحكائي للمسرحية لزوجين يعيشان حياة نفسية مضطربة، الزوج هو أستاذ فلسفة (آدم) يعاني من اكتئاب حاد، ويحس برتابة الأيام التي تثقل كاهله خاصة أن رغبته بإنجاب الأطفال تواجه بمعارضة قوية من طرف زوجته الرسامة (ليليث) التي تحب الحياة حتى الثمالة وتريد استكشاف أسرارها المثيرة، وبحسب المرجعيات الأسطورية والتاريخية تمثل (ليليث) الزوجة الأولى لآدم ما قبل حواء، وتذكر الأسطورة أنها المرأة الأساسية التي خلقها الله مع آدم من الأرض بيد أنها لم ترض بسيطرة آدم عليها فهربت منه وأصبحت معشوقة الشيطان. إن الأمر يتعلق بثنائي غير منسجم في الطباع ومختلف تماماً في نمط العيش، فالزوج موظف عاد ونمطي يريد بناء أسرة متوازنة ودافئة، والزوجة مهووسة بالفن ومتقلبة المزاج وتحب السهر والحفلات ومتمردة.. فهي أسطورة القوة والسلطوية، على رغم أنهما تزوجا عن حب قوي إلا أن التباعد بينهما مع مرور الأيام أصبح شيئاً حتمياً. تتوالى الأحداث فتقترح ليليث على زوجها في إحدى الليالي تناول حبة الإكستازي التي أخذتها من صديقتها المغنية في إحدى الاحتفالات الصاخبة كي يشعر بالسعادة فيبتلع هو حبة وكذلك تتناول هي الأخرى حبة أخرى فيسقطان في إدمان مميت تقود الزوج في النهاية لمصير مأساوي .

النص المسرحي وتركيبيته المتعددة
تطالعنا شخصية (تروس) في بداية النص المسرحي بوصفه صانعاً وراوياً لمجريات الأحداث فضلاً عن التحكم بها، وكأنه القدر على شكل إنسان يدخل ضمن المصير اليومي له، فشخصيته باثة لمجموعة علامات تذهب باتجاه فعل القسوة، يبدأها: (القصة التي سنحكيها لكم هي حكاية جميلة لذيذة رائعة فيها العديد من التلوينات، انعراجات، انكسارات، عثرات، تتخللها احتفالات، إنجازات، انتصارات…)؛ فتمتلك الشخصية دوافع غريزية نحو التلذذ في رؤية الآخرين، وهم منكسرون ينتابهم الخوف والقلق وعدم الاستقرار، وبعدها يبدأ باستعراض الشخصيات وهم (ليليث) و(آدم) كما أسلفنا سابقاً عن طبيعة كل شخصية منهم، أما شخصية (العازف) فيشكل ضابطاً لإيقاع العرض (موسيقياً) وهو ينسجم ويتفاعل ويتداخل بآلته مع مجريات الأحداث والشخصيات داخل فضاء العرض، لقد ذهب مؤلف النص (المُعد) على استنباط مصادر كتابته من مرجعيات متعددة (هكذا تكلم زرادشت، بوح الصعاليك) وغيرها من المصادر التي اتكأ عليها المؤلف لاستكمال بنية النص وفكرته الأساسية، وكما هو متداول أن (هكذا تكلم زرادشت) الكتاب المُلهم والقانون الوضعي لمؤلفه (نيتشه) الذي سطر فيه أهم مقولاته وأفكاره وطروحاته حول الوجود والقدر.. فهو (للكل ولا لأحد) أما المرجع الثاني فهو (بوح الصعاليك) لـ (ادهم عادل) الذي كتب فيه بأن (نصوصي ليست لكم) ولا لأحد، فهناك مقاربات فكرية ما بين الاثنين من حيث التوجه نحو اللا أحد ولكنها للكل، والأسطورة هي أيضاً لا لأحد ولكنها للكل فهي خطاب شمولي كوني للبشر، تخاطب الفكر البشري بقصدية التوحيد والانفتاح وبخاصة في زمن الآني ـ الهنا ـ الآن، عبر حبة الإكستازيا التي وظفها المؤلف في نصه عبر تداخلية الواقع / التاريخ / الأسطورة / الحلم / الرغبة / القسوة / السلطة / النشوة، أما شخصية ليليث (الأم الشيطان) التي تحاول السيطرة وإغواء الآخر (الرجل / آدم ) الذي وظفه المؤلف بوصف الاسم شاملاً / منفتحاً / لا محدداً / لا مكاناً / كونياً، يذهب نحو تفعيل مبدأ الخليقة الأولى / الخطيئة / الخوف / التردد ، بسريالية قصدية، فهناك مقاربة ما بين نيتشه والسريالية عبر تحقيق والتعبير عن الدوافع والانطباعات الداخلية لعالم الإنسان، عبر الوعي واللاوعي / الخيال والفنتازيا / المنطق واللامنطق / الشعور واللاشعور، ومغادرة الثوابت والقواعد بديونيسية تامة كما نراها في لوحات (سلفادور دالي) الذي جعل من تلك الأحلام غير المرئية مادة وصورة تدرك بصرياً ، وتعبر عن تلك المكبوتات، وهذا ما تحققه حبة المخدر (إكستازيا) عبر استخراج تلك العوالم المكبوتة / المتحررة / المخزونة في ذاكرة ومخيلة الفرد، فتلك المقاربات هي ما جعلت نص (إكستازيا) يبني نظامه السريالي / الوجودي / القدري.. عبر حركية تلك النصوص (نيتشه / أدهم عادل / المؤلف) بشاعرية الطقس وصوره المتعددة (لا أعرف تماماً كم هو عدد آيات الكتاب ولكني أعرف أن أيتام جارتنا العجوز خمسة، لا أستطيع تجويد سورة التكوير ولكني أستطيع تقليد أصوات الأرامل).. (بوح الصعاليك ص 31).

إن تلك التركيبية المتعددة التي سعى إليها المؤلف عبر نصه ذهبت نحو ترابطية الأفكار وطقسيتها وشاعريتها وبناء النظام الكلامي القابضة على جمرة التداعي الحر، فـ (إكستازيا) بوصفها حبة مخدر من الناحية الطبية تذهب نحو تحريك الجهاز العصبي الذي تصاحبه مجموعة من الهلوسة السمعية والبصرية، حيث كان يتم تداولها في الحفلات واللقاءات الجماعية للوصول إلى نشوة السعادة، فتناول الحبة يؤدي إلى زيادة في الدوبامين وهو المسؤول عن الحركة والنشاط مما يدخل المتعاطي حالة نشاط زائد لا يتوقف، فأصبح هناك ثلاثة مشتركات في النص (الأسطورة / السلطة النسوية / المخدر) بوصفها تركيبات متعددة للمتن الحكائي، ويطالعنا نيتشه في كتابه (هكذا تكلم زرادشت) إلى السلطة النسوية ومدى تأثيرها حتى على حياته فهو يمثل مطرقة بالنسبة للجنس الآخر لأن الإنسان الحقيقي يحب شيئين: الخطر واللعب، لذلك فهو يحب المرأة بوصفها أخطر الألعاب، وهذا ما يقدمه المتن الحكائي لنص إكستازيا الذي تسيدته الأم الشيطان على آدم بعدما امتنعت عن انجاب مولود لآدم، فهي تريد الحرية والتحرر من القيود عند إنجابها للأطفال، قائلة: (أطفالي المولودون من قوتي وإرادتي يجوبون الأرض مثلي، دليل على أني لست مجرد مخلوق خاضع – تضحك سخرية – أتذكر ذلك بوضوح شديد، اليوم الأول يوم وطأة فيه قدماي الجنة كانت أرضاً للجمال والعجب، قبل أن تمسها أيادي الإنسان القذرة.. أوغاد، أوغاد الأوغاد أيها الأوغاد…) وهنا تأخذ سلطتها وقوتها بوصفها أرضاً للإنجاب والزراعة، فهي لا تريد أن تكون عبداً لأحد ولا تتحمل مزيداً من الأخطاء من جراء الإنجاب خوفاً على الأرض والأطفال من التشرد والقتل والحروب فكلما كان هناك مولود جديد، أصبح عدواً لأخيه الإنسان، ففي كل مرة يطالبها آدم بمولود تخلق موضوعاً مختلفاً لكي لا يفكر به، فتارة تعد له لحماً وعشاءً وتارة أخرى شراباً وأخرى حبة إكستازيا، من أجل الهروب من فكرة الأطفال. إذ أصبحت الحبة هي الملاذ الدائم للعقل المغيب عن الواقع وفكرة الأطفال وإنتاج جيل جديد يبحث عن الروح والحياة واستمراريتها.

فضاء العرض والفراغات الداخلية.. شحنات موجبة
ذهب المخرج إلى تفعيل الفراغات الداخلية للشخصيات وما تحمله من أحلام وروئ ودوافع بوصفها عوالم متشكلة من اتجاهات سريالية، فالخشبة خالية من قطع ديكورية مادية / إلا من لوحة في منتصف الخشبة لتكون ملاذا لـ (ليليث) بوصفها رسامة تعبر عن دوافعها ومكبوتاتها بطريقة تعبيرية.. حيث وظف المخرج الفضاء الرقمي في رسم وملء الفضاء المسرحي بمجموعة من اللوحات والرسومات، فيتجه المخرج إلى تفعيل تقانة الفضاء عبر شاشات متحركة عبرت عن دواخل البيت الفارغ إلا من تلك الأحلام التعبيرية، فكل شيء متحرك داخل الفضاء المسرحي، وبذات الوقت هناك ثبات نسبي لحركة الممثل داخل الفراغات الذاتية. من هنا يبدأ العرض بدخول صانعي العرض وضابطي الإيقاع (العازف وتريس) حيث للرحلة زمن الانطلاق والحقائب عبارة زمان واللامكان، فمن هناك من الأسطورة إلى الحاضر / من الواقع إلى الخيال / من الحلم إلى اليقظة، جميعها تسير ضمن حركة الممثلين وهم يحملون حقائب السفر، يغادر تريس حاملاً حقيبة ليليث بإيقاع بطيء يعتلوه الصمت الخارجي والشحنات الداخلية المعبرة عن فضاء الشخصية، يعمل الفضاء الرقمي على تعزيز الفراغات الداخلية والخارجية للمنزل، فكل شيء هو فضاء خال من الأكسسوارات وقطع الديكور، إذ يعتمد المخرج على تأثيث وتركيب الفضاء من أفعال وحركة الممثلين، تدخل ليليث وهي تسير نحو اللوحة الفارغة من الرسم، لترسم مع حركات تعبيرية وأفعال ذاتية لتكشف عن دواخلها المكبوتة، مع إيقاع الموسيقى (الكيتار) الذي صاحب الحركة، وهناك يدخل (آدم) وقد اعتلى على وجه الجمود والقلق والاكتئاب، وهنا يطرح مشكلته ورغبته في إنجاب الأطفال، بينما ليليث ترغب في السفر والحب. فهي لا تريد أطفالاً في هذا العالم الموحش، تبدأ الحكاية مرة أخرى بحبة (إكستازيا) التي تنقله إلى العوالم الأخرى مع كأس من النبيذ المعتق، فالصمت والاسترخاء والسكينة والحركة البطيئة سيدوا الفضاء، لتتجانس تلك الحالات مع الفضاء التقني وتحولاتها، فهي تعرض ما تجوب النفس به من عوالم متعددة لتملئ تلك الفراغات عبر سلسلة شحنات تنتجها الشخصية وحركاتها. تظهر (ليليث) ترتدي زيا اقترب من روح الأسطورة وهي تلعن الإنسان بعد أن غادر الجنة عبر تدنيسه لها، فيتخذ شكل الحركة دافعيته من تلك الروح ونظامها، بينما (تريس) يدخل بوصفه محركا وراويا لحبكة وصراع العرض وشخصياته، وكأنه يبث موجاته وأفكاره داخل النفس، فالشخصيات تبدء بالتحول، كلما ظهر (تريس) داخل فضاء العرض، فضلاً عن ذلك ثمة توظيف للإيقاع السريع بالتزايد مع اشتغال حبة (الإكستازيا) داخل الجسد، ليظهر اللاوعي بوصفه تداعياً لنفس الشخصية، (آدم) ذلك الأستاذ والمعلم للفلسفة، يغادر الخطاب الأرضي ليتجه نحو الملكوت جاعلاً من خطابه طقساً / عتاباً / خوفاً / فلسفةً / شعراً، لتكمل (ليليث) ذلك الطقس وهي تتبنى الخطاب السلطوي / الأنثوي / القدري / (.. أتجبر، أتجبر، متجبرة، متجبرة)، لتظهر سلطتها وسطوتها بشكل علني / مضحك / عصبي / خوف / قلق / صدمة / هدوء، وكأنها تتحرر من القيود وتفرض سلطتها على الآخر، ومازال ذلك الفضاء التقني يقدم صوراً تركيبية / شبابيك / أبواب / لوحات / مستطيلات / مربعات / تنساب مع حركة الممثلين وعوالمه، يبدأ (تريس) بهدم تلك اللحظات الشاعرية التي رسمتها الشخصيات وهي في فضاء الحب والرقص / الصوفي على الإيقاع الغربي، فهناك صراع ما بين الشخصيتين عبر تأثير (تريس) الذي لطالما كان الخط المتصل بينهم، تعود فكرة الإنجاب مرة أخرى إلى الفضاء، وهي تحاول أن تهرب تلك القدرية الحتمية، فيأخذ التكرار في الفعل / الفكرة / الفضاء / اكستازيا، من أجل نسيان تلك الفكرة، فالحفلة والمعرض.. أنا حرة / مستقلة / العيش حد الثمالة / طموحاتي، هي سمات شخصية (ليليث) وما تطرحه هو من أجل الهروب من الإنجاب وتلك الفكرة، إن سلسلة الصراعات الداخلية التي تعيشها الشخصيات انعكست على صورة الأداء الحركي والصوتي، ففيها بوح / تداع / اعتراف / مكاشفة.. فحبة (الإكستازيا) ما زالت تعمل: (آدم: لا تذهب إلى المرأة إلا وسوطك بيدك) الذي استعارها من مقولات نيتشه، وهنا تعلن (ليليث) (فلتذهب أنت ونيتشة إلى الجحيم)، فأسطورة ليليث التي تبث الموت والدمار إلى النفس ما زالت حاضرة ومتجذرة والتي عن طريقها أعلنت عن قتل (آدم) والسيطرة عليه، سريالية (ليليث) وهي ما زالت متمسكة بجماليات الحياة… ماذا لو متُ فجأةً / أحذيتي / العشاء / القهوة / اللوحة/ كيف يمكن مغادرة الوجود، هنا يعاد المشهد الأول.. الرسم / العازف / اللوحة، ما زالت منهمرة في إكمال حياتها، بينما (آدم) يصارع من أجل قول كلمته الأخيرة / فلسفته / حياته / صراعه / موته / قدريته / .. إيفاق (ليليث) بعد موت (آدم) وهي تنشد أغنيتها الأخير (فارو وي) لتتشكل أعمدة رقمية (أفقية وعمودية) وكأنها أعمدة المنزل منقسمة مهدمة، يدخل (تريس) حاملاً الحقائب ليعلن (مصير عبثي.. تراجيدي.. الزواج هو أغبى وأفشل وأحقر وأخطر علاقة اخترعها الإنسان في المرحلة الزراعية).. والزواج التعيس لا ينقصه الحب بل ينقصه الصداقة.. نيتشه. تستيقظ الشخصيات حاملةً حقائبها لتبدء رحلة جديدة في الحياة وهي تتوسط خشبة المسرح.. وكأننا نعيش تكرارية حياتية / حب / صداقة / زواج / انجاب / موت.. عودة.

بقلم: د. عقيل ماجد حامد
تصوير: نور القيصر

Top