مسرحية تكنزا… قصة توده..

1 – مرجعيات الحكاية والفكرة

المرجع الأساسي للعرض، يعود لأسطورة قبائل جبال الاطلس الكبير. من حيث المكان القروي الريفي. سيدة مهووسة بأداء أحواش (وهو طقس غنائي أمازيغي) حد الجنون، تناديه فيناديها ويلتئمان روحا واحدة تصدح أنغاما في ساحة أسايس (ساحة الفرجة). وجسد أحواش، وأنغامه صدى روحها.
زوجها لم يكن راضيا عن هذا الحضور، استفزه، اشمأز منه، استشاط غضبا، سجنها ذات ليلة في غرفة صغيرة مظلمة بنافذه صغيرة لا يكاد يتسرب منها وإليها إلا مقدار يسير من الهواء.
وصادف في ليلة أن أقيم حفل زفاف في قرية بعيدة، فصدحت أنغام أحواش، وتسللت أهازيجه عبر المنفذ إلى فؤادها، يغنون فترد عليهم من نافذتها منفذها إلى الحياة، حمى وطيس أحواش، فتعالت أنغامها من الغرفة (السجن)، تعالت… تعالت… تعالت.
انفجرت فتحرر صوتها من الغرفة واصلا إلى ساحة أسايس، أدهشهم، شدهم، فسكنهم، فجاؤوا أفواجا وفرادى حتى تحلقوا حول البيت… الغرفة – السجن…
هل حرروها؟
أم استمتعوا فقط بنغمها وغادروا؟
هنا نهاية الأسطورة… وبداية مسرحيتنا، طقسنا المسرحي:
“تكنزا قصة توده”: من هذه الأسطورة نستطيع أن نمسك المفردات التالية التي توضح التقاطات المخرج وفريق العمل… وتأسيس عرض مسرحي منها وهي:
1- استلهام الأسطورة.
2- المكان قرية على الأطلس.
3- الموسيقى الأمازيغية (أحواش).
4- التماهي الروحي الطقسي في رقيه وأحواش.
5- ساحة فرجة.
6- رفض الزوج لفعل زوجته وسجنها.
7- غرفة مظلمة كالسجن بنافذة.
8- العرس في القرية والرقص على أنغام أحواش.
9- انفجرت (رقيه) وتحرر صوتها (دلالة الحرية السياسية).
10- التف حولها الجمهور دون فعل إيجابي منها.

2- الإخراج:
التقط المخرج بوعي وقصدية واضحة باستلهام الأسطورة وليس التماهي معها أو تنفيذ تفاصيلها، بل اقتبس روحها من خلال مطالبتها بالحرية والثورة والجذرية من خلال العودة إلى الأصول الاجتماعية والروحية النافذة في عالم القرية وعلاقتها الاجتماعية.
كما أنه ثبت القيمة الأمازيغية الشعبية المتوارثة من خلال اختيار الموسيقى الدالة على روح الأسطورة، التي فرغها من فضائها ومتنها الأسطوري باتجاه الإسقاط والقراءة الفولكلورية الواقعية. وقربها إلى الطقسية القريبة من الرقصات والأداء الديني الصوفي.
اعتمد على آلة الطار (تكنزا) المستخدم في الاحتفالات الدينية في أداء المناسك النبوية. وهي آلة متجذرة في الروح التطهيرية والرقص السامي وتجسد ذلك من خلال الطقس الغنائي الأمازيغي (أحواش) ثم جاء اسم البطلة (توده) وهو كذلك اسم أمازيغي وتعني (الصبورة – العاقلة).
وكانت رؤية المخرج واضحة ومنحازة إلى موقف من الشعب الأمازيغي وتطلعه الخروج من القفص بالثورة، ونشر فكرها (غنائها) إلى الشعب المحتفل بالقرية. ومهما كان القهر والسلطة قوية ويمكنها أن تضعك في القفص، لكنها لا تستطيع أن تكتم غناءك ورقصاتك وصوتك.
الطار هو رمز الحرية والثورة والتماسك الاجتماعي.. كانت المشاهد الأدائية والأغاني والحركات والرقصات تقترب إلى أسلوب العرض المسرحي الشامل، المتضمن للروح الطقوسية والسياسية.

3- التمثيل:
لم يكن هناك تمثيل بالمعنى التقليدي المتعارف عليه في المدارس المسرحية المعتادة، بل يمكن أن يوصف بأنه أداء مسرحي اعتمد على تقديم كاركترات خارجية تحمل فكراً ومضموناً روحياً واجتماعياً وسياسياً. وكان أداء اللاعبين يعرض الشخصيات المتبناة، بشكل مونتاج أدائي، يتحول فيه العارض من حالة لأخرى دون التبني والتقمص أو الانشداد إلى العالم الداخلي للشخصية الدرامية.
ولكن هذا الأداء كان منضبطا إلى حد كبير في استلام وتسليم مقاطع البناء الحسي والصوري وخاصة في بعض المشاهد التي تعتمد على التقارب والانتماء بين الشخصيات.
وكان الفريق العارض منسجما، من حيث تبني الفكرة والرسالة السياسية والثقافية التي طرحها العمل.
وجاءت تحولات الأداء مركزة بين الرقص والغناء والحوار والعزف، وهذا أعطى مساحة مهمة للتفاهم الداخلي بين طاقم العمل، وتحدى الفكر الذي لا ينسجم مع تطلعات أهداف العرض الاجتماعية.

4- الديكور:
يبدو أن التوافق التام بين رؤية المخرج ورؤية مصمم الديكور، وصلت وتلاقت إلى حد بعيد في تأليف صورة المشهد الذي تحدد في ترسيمات وحدود تعبيرية منسجمة، بدءا من الفضاء المظلم الفارغ، وهو مساحة الأداء والحركة في وسط المسرح من الأسفل إلى الأعلى موزعا عليها الكتل الديكورية الحادية والتشكيلات الحركية للمؤدين.
فهم يتحركون وسط جغرافية مكانية محسوبة بدقة… على جانبي هذه المساحة المحدودة، انسجمت كتلتان متعامدتان، لهما عدة وظائف حسب متطلبات المشاهد، مرة تكون أقفاصا لرقية، وأخرى قبرا، وبعدها شبابيك، ثم مساحات لعرض بعض الصور الساندة للفعل الحركي والمفاهيمي لما يدور من أحداث ورواية وتحولات، لغرض عرضها وتوضيح ما يدور في دواخل الشخصيات، وخاصة في مشهد انتقال توده إلى الجامعة، حيث عرض عليها صور متداخلة للحياة في المدينة وشعاراتها الاجتماعية، واضطرابها الروحي والنفسي، وتقاطعها مع جو القرية الهادئ والساكن.

5- الموسيقى:
لعبت الموسيقى دورا أساسيا ومتناميا في بناء وتأليف المشهد الصوتي من خلال جعل (التكنزا – الطار)، وهو العلامة المركزية التي تتحرك من حولها كل أطراف الحكاية، والتكنزا هو المعادل الروحي لتوده بعد أمها رقيه. وتناقلت بين الأيدي لتعلن عن وجود رابطة روحية، بين البناء الدرامي المتنامي في المشاهد، وحكاية العرض ورؤيته.
الموسيقى قادت المجاميع إلى الإحساس بالثورة والتجمع الحقيقي، لأنها عملت على إيقاظ الروح. كالأغاني الكناوية والطربية.
كذلك تم توظيف (الطقس الغنائي أحواش) الذي التف حوله كل أهالي القرية وأيقظهم بعد سبات عن هيبة الروح الأمازيغية.
يوظف الطار في أكثر من تفسير، ومنها عندما يخفي والد توده وجهه به ويضعه على رأسه.
وكذلك التحول في الآلات والعزف عندما انتقلت إلى الجامعة، وعندما جلست الفرقة الشبابية أعلى وسط المسرح، في شبه ظلام، وكأن المخرج لم يشأ يرحب بظهورها القوي على الخشبة وأمام الجمهور وحسب رؤيته الإخراجية.

6- الملابس:
إن الطراز الذي أظهره مصمم الأزياء، جاء منسجما مع رؤية المخرج، وانسجاماً كذلك مع باقي عناصر العرض السمعية والبصرية، كانت الأزياء وحدة وظيفية خضعت للبيئة والمجتمع المغربي الأمازيغي، في التصميم والألوان والاحتشام.
وخاصة في ملابس العباءات ذات القبعات، وألوان أثواب النساء المعمولة من أقمشة وأصواف وتطريزات ذات علاقة بالتراث الشعبي الأمازيغي.. ومما تجدر الإشارة إليه تلك الملابس البيضاء التي ارتدتها الأم رقية وخالها وهما يؤديان دور الأشباح. على اعتبار حياتهم في عالم آخر من النقاء والبراءة والصفاء.
كذلك جاء التحول في علامات الأزياء من القرية إلى المدينة ودخول توده إلى الجامعة واللقاء بصديقتها صوفيا، وحبيبها الغالي.
كان انسجاما موفقا بين الموسيقى والأزياء… والأداء الطقسي والروحي، الذي يقترب إلى حد كبير من أداء وحركات وأغاني جلال الدين الرومي، إنها موسيقى الداخل الوجداني والشعوري.

7- الإضاءة:
منذ المشهد الأول، يضعك اللون الأزرق الذي غسل أرضيه الخشبة ووجهها الناصع، وكأنك في بحر، وكل الكائنات المتحركة، ما هي إلا موجودات حسية تعوم على سطح الماء، وجاء فضاء الدخان الصناعي يرسم صورة وبعداً يدلان على أعماق الأطلسي ومشاويره الصعبة والمغامرة.
ثم توزعت الألوان بصورة منسجمة مع جغرافية وقوع الأحداث على خشبة المسرح، ككتل ديكوريه أو بشرية، وأعطت المشاهد جوا يعمه الظلام والسواد والحزن، الذي ينفرج أخيرا في عالم الضوء، والذي يتكامل مع رقصة المجموعة وانتصار التحول والثورة التي قادتها توده بأثر أمها رقية.
وأخيرا… شكرا لشباب فرقة فوانيس المسرحية من ورزازات في المملكة المغربية الشقيقة، التي وضعت لنا تكنزا في طريق الحرية، الذي يطرق ليوقظنا من عالم النوم والنسيان والغفلة.

بقلم: أ.د. طارق العذاري
تصوير: نور القيصر

Top