نزل علينا النبأ الأليم كجلمود صخر سقط، بدون إنذار، من الأعالي ليدهسنا ويتركنا مشلولين، عاجزين عن الحركة، فاقدين أصواتنا وكأننا نأبى أن نصدق أن نعيمة غادرتنا إلى الأبد.. انتشر الخبر بسرعة فائقة زوال ومساء وليلة الخامس من هذا الأكتوبر القاسي، في كل المواقع والفضاءات كما تنتشر النار في الهشيم.. طبعا إنها السيدة نعيمة المتفردة لذاتها ولناسها.. عم الحزن والسواد كل خشبات ومسارح البلاد، وانطفأت أضواء كل البروجيكتورات والكشافات والكاميرات، وعم صمت رهيب في الكواليس، وسادت الدهشة في عيوننا، وغابت البسمة عن محبانا.. والحال أن الابتسامة كانت لا تفارق محيى نعيمة في كل وقت ومهما كان الظرف.. لكنها ابتعدت نحو العلا وتركتنا يتامى، أولم تكن أمنا التي لم تلدنا، وأختنا التي لم تلدها أمهاتنا، وصديقتنا الصادقة الصدوقة في السراء والضراء.. انتقلت نعيمة النواعم إلى الأعالي وهي شامخة مرفوعة الهامة بعد أن ظلت ترفع رؤوسنا إلى الفوق بكبرياء..
فقدنا نعيمة وتركت في حناجرنا غصة تجرحنا.. وفقدها الجمهور وفقدها الوطن لكنها تركت له الخلف الذي كانت تعده طوال حياتها….
الفنانة نعيمة المشرقي تنتمي للرعبل الأول المؤسس لفن التمثيل بصيغة المؤنث ببلادنا والعالم العربي، في الوقت الذي كاد أن يكون فيه التمثيل حكرا على الرجال.. فتألقت منذ شبابها على خشبات المسارح المغربية والعربية والأوروبية، واشتغلت تحت إدارة كبار مخرجي المسرح وعلى رأسهم الراحل الطيب الصديقي والفنان جواد الأسدي وزوجها الفنان عبد الرحمان الخياط وغيرهم.. وواصلت مسارها الفني باقتدار وذكاء سواء في المسرح أو السينما أو الدراما التلفزيونية.. برصانة مهنية وحب كبير وباحترافية عالية.. حيث كانت لها بصمة خاصة في كل عمل فني شاركت فيه. إذ كانت تختار أدوارها بعناية ودقة وتؤديها ببراعة ومهارة يشهد بها الجميع.. مما جعلها تحظى بحب الجماهير المغربية وتستحوذ على أفئدتهم.. وكذا جمهور الجالية المغربية بالخارج الذي يسجل لها حضورها الوازن في الحياة الثقافية للمهاجرين سواء من خلال مشاركتها في أفلام ومسلسلات أجنبية أو من خلال الفعاليات والأنشطة الاجتماعية التي تقوم بها لفائدتهم وأسرهم.. ولا يسع المجال هنا لرصد ريبرتوارها الغني والهام، يكفي التذكير، هنا، بالبرنامج التربوي التعلمي الشهير الذي كانت تقدمه على شاشة التلفزة المغربية «ألف لام» والذي يعكس النفس التربوي الذي كانت تتشبع به الراحلة والاختيار المواطن الذي يسعى لخدمة المجتمع..
ولابد أيضا من الوقوف بإجلال لهذه الفنانة المواطنة التي قادت داخل وخارج المغرب حملات تحسيسية لفائدة الوحدة الترابية المغربية، وانتصرت لقضية مواطنينا المحتجزين بتيندوف، كما قادت عمليات اجتماعية لفائدة ذوي الاحتياجات الخاصة والأسر التي تشكو من الهشاشة، وكانت لا تتردد في الاستجابة لكل استغاثة مهما بلغت درجتها. من ثمة استحقت لقب سفيرة النوايا الحسنة لدى اليونيسيف..
وبالمناسبة لابد من التذكير بأن الراحلة كانت في طليعة نخبة الفنانين الذين أسسوا النقابة المغربية لمهنيي الفنون الدرامية (النقابة الوطنية لمحترفي المسرح سابقا)، وتم انتخابها في المؤتمر التأسيسي بداية تسعينات القرن الماضي عضوة ضمن القيادة الوطنية لهذه النقابة، ما جعلها في مقدمة المناضلين المدافعين والمترافعين عن حقوق الفنانين ومهنيي المسرح، وعن ضرورة تنظيم وتحصين القطاع المهني للمسرحيين ومحترفي الدراما ببلادنا..
إلى جانب كل ذلك، كانت رحمها الله شغوفة بالعمل الجمعوي ومتضامنة ومدافعة باستماتة عن قضايا المرأة والشباب والطفولة.. وما أكثر ما قامت بمبادرات لمساندة الشبان والشابات في مختلف المجالات الثقافية والفنية والرياضية والتنموية والمقاولاتية.. كما تميزت بدعمها المطلق للممثلات والممثلين الشباب في مراحل بداياتهم الفنية والمهنية..
كانت فنانة مواطنة بكل معنى الكلمة.
تغمدها الله بواسع رحمته وأسكنها فسيح جنانه وألهمنا وذويها جميل الصبر والسلوان.. وخالص العزاء لرفيق دربها المخرج الأستاذ عبد الرحمان الخياط وابنتها الإعلامية ياسمين الخياط، ولكل أفرد أسرتها وعشاقها وزملائها الفنانات والفنانين… إنا لله وإنا إليه راجعون.
>بقلم: الحسين الشعبي