> بقلم: السهلي عويشي
لعل من الأسئلة العميقة التي ما فتئت تطرح في الحقل الثقافي العربي، هو سؤال الكتابة النسائية رغم ما شاب الموضوع من وجهات نظر مختلفة ومتضاربة فيما بينها، بين مؤيد ومعارض لهذه الإشكالية «التي تقوم على أساس الاختلاف الجنسي»1.
فرغم التداول البارز لسؤال الكتابة النسائية على مستوى الكتابة العربية، وعلى المستوى الإعلامي الأدبي«فهذا لا يعني أن المصطلح ذاته فلت من عقال الخلافية والجدلية والنقاشية بين أهل الاختصاص، حيث تولد عن السؤال المركزي مجموعة أسئلة علمية أخرى تبحث في الظاهرة ذاتها»2، من منطلق أن الكتابة في حد ذاتها، قد تكون غير قابلة للتصنيف، لأن ما تكتبه المرأة قد يكتبه الرجل، وما يكتبه الرجل قد تكتبه المرأة، واقتران الكتابة النسائية بما هو أنثوي، وتقسيم الكتابة عموما إلى كتابة ذكورية، وأخرى أنثوية نسوية بعيدا عن كل أشكال الخصوصيات الفنية والجمالية، يحمل الكثير من التعسف، لأن المسألة تتجاوز مثل هذه التصنيفات والتقسيمات الجافة التي ينبغي التعامل معها بحذر كبير، فليس كل ما تكتبه المرأة يدخل ضمن الكتابة النسائية، لأننا قد نجد نصوصا رجالية يمكن إدخالها ضمن هذا النوع من الكتابة، وفي المقابل قد نجد نصوصا نسائية ذات بصمات رجالية، لذا وجب تجاوز مثل هذه التقسيمات التي تنبني على أساس بيولوجي وجنسي، لأن الكتابة في الأول والأخير مرتبطة بكائن إنساني، بغض النظر عن جنسه، خاصة وأن هناك بعض الكتابات التي تعمل على تكريس الصورة النمطية للمرأة، للحد من قدراتها المعرفية والجمالية في ظل النظام البطريركي الذي يحاول اسكات المرأة وكبت تجاربها.3 لذا فالمسألة تتطلب وضع الكتابة النسائية في إطارها الصحيح، وان اعتمد في التصنيف على ما هو جنسي بيولوجي قد يعمل على فرض نفسه، «لأن هذا التصنيف لا يمكنه إلا أن يفرض نفسه علينا، إذا أردنا إعطاء هذا المفهوم بعده الأدبي والفني، والنظر إليه بعيدا عن الدلالات والإيحاءات المتعددة التي يحملها في نطاق الاستعمالات الجارية، والتي تقدمها الصحافة والإعلام الأدبي بكثير من الحماسة و الخواء»،4 فالتركيز على النص أولا هو محاولة لتلافي كل أشكال التشويه التي قد تطال الكتابة عموما، والكتابة النسائية بوجه خاص، «لأن ما تكتبه المرأة اليوم يخضع لنوع جديد من التشويه، ألا وهو التأويل أو القراءة الخاطئة للنص، فالغالبية الساحقة من النقاد يفكرون من خلال تلك الفروق الجنسية بين الجنسين، فيتعاطون مع النصوص النسائية على أساس هذا الوصف»5.
لذا وجب التعامل مع الكتابة النسائية كفعل إبداعي، بما هو أداة للتحرر وتعبير عن الكينونة «يتميز بأنه قيمة خاصة لدى المرأة الكاتبة، و يمثل وسيلة تمكنها من إثبات وجودها وتأكيد هويتها حتى تتوصل الى تحقيق كيانها وتجسيد مختلف الأدوار الاجتماعية. ومن ثم تشكل الكتابة أفق خلاص لها6.
من منطلق أن الكتابة هي السبيل «لإغناء وعيها وتعميق تجربتها بالحياة، إنه إمكانيتها الوحيدة لإقامة علاقة جمالية مع الواقع، تعطيها فرصة الاستمتاع بفرح الإبداع»7.
إلى جانب ذلك يرى البعض أن الذي ابتدع ما يسمى بالأدب النسائي، أو الأدب الأنثوي، إنما هو الرجل، متعللا بأنه يحمل خصوصيتها كأنثى كما يدعي، وهذا التخصيص يحمل الكثير من التجني من دون ريب.. بغرض استعلائه على إنسان أجبرته الظروف على الخنوع طويلا له، عندما كان العصر عصر الغاب، والقوة العضلية لا العقلية هو من يحكم الموقف8.
كما ترى نفس الباحثة أن الكتابة الأنثوية كما يحلو للبعض نعتها، لا تعدو إلا أن تكون نسق الكتابة الإنسانية الشاملة ليس في عموميتها فحسب، بل في أخص خصائصها التي لا تعزل عن نسق الكتابة الرجالية.
ونحن نعمل على طرح السؤال نفسه، أي سؤال الكتابة النسائية بموازاة قراءتنا للمتن الروائي المدروس للكاتبة أحلام مستغانمي، فإننا لا نتغيى من طرحه التركيز على خصوصية الكتابة النسائية، بما هي كتابة أنثوية تحاول الاشتغال بقضايا المرأة وهمومها من خلال الإبداع عندها، باعتباره «واجهة تحريرية من التصورات الجاهزة، وينظر إليه على أساس أنه مظهر من مظاهر التحرر من سلطة الأحكام الموروثة، كما أنه صيغة من صيغ الحوار مع حمولات الذاكرة العربية»9، لأننا إذا أردنا إبراز مثل هذه الخصوصية من خلال ثلاثية أحلام مستغانمي الروائية، فإننا سنصطدم برأي آخر، أو إشكالية أخرى تتعلق بكون المتن الروائي المدروس يندرج ضمن ما يمكن أن نسميه بالكتابة الرجالية، لأنه جاء بلسان سارد مذكر، بحيث نجد خالد في «ذاكرة الجسد»، و«هو» في «فوضى الحواس»، وإن تناوب على عملية السرد مع حياة، ثم المصور في رواية «عابر سرير» والرواية النسائية غالبا ما تأتي بلسان الأنا الأنثى المهووسة بالذات، لإبراز خصوصيتها النسائية، وما تعانيه من تخلف وقهر، لأن المتن الروائي المدروس هو تعبير عن الكينونة الاجتماعية، عن الوطن، عن الذاكرة المثخنة بالجروح، عن تاريخ الثورة الجزائرية في تمفصلاتها الكبرى وتطوراتها اللاحقة، عن مقاومة قادها الرجال « ففيه شيء رجالي شديد الوضوح ومسيطر تمام السيطرة على أجواء الرواية «ذاكرة الجسد» من أولها إلى آخرها».10
لتهمل الكاتبة دور المرأة الجزائرية في حرب التحرير، والتي ساهمت فيها بشكل كبير، فهي التي كانت ترفع معنويات المجاهدين، وهي أم الشهيد، وزوجته وأخته، وهي المجندة جنبا إلى جنب في صفوف المقاومة، وخنادقها في الدفاع عن الوطن وما اسم جميلة بوحيرد إلا دليل قاطع على مدى مساهمتها وعطائها في عز الثورة، لكن ونحن نقتحم ثلاثية الكاتبة فإننا سنلاحظ أنها بقيت في ثلاثيتها مسكونة بنرجسية معكوسة، إذ دفعت بشخصيتها الروائية المنمذجة عندما جعلت من السارد المتكلم أو الذاكرة الساردة إلى حدها الأقصى، لتنفذ عبرها وتعبر عن حضورها الأنثوي من خلالها».11
وبعيدا عن سؤال الخصوصية فإن الكاتبة في المتن الروائي، قد اشتغلت على الكتابة في حد ذاتها بغية المغايرة والتجدد، وتجاوز منطق الاستنساخ والتكرار، لارتياد كتابة سردية تتوخى اقتحام وغزو المناطق البكر في الإبداع، تروم التميز عبر التغيير العميق للأساليب و التقنيات الروائية من جهة، وعبر مساءلتها من جهة أخرى، من منطلق أن الرواية هي جنس أدبي دائم التطور باستمرار، تنبني على الهدم وإعادة البناء قصد تثوير النص والخروج به عن أوفاق كتابة متمركزة حول ذاتها، يقينية الاشتغال ودوغمائية الأهداف تلغي التشظي و تمجد الوحدة12.
ليحضر سؤال الكتابة في المتن الروائي بشكل يحاول أن يحدث القطيعة مع ما هو مألوف، لتبرز الكاتبة تصوراتها للكتابة وفعل الإبداع، وهو ما يمكن أن ندخله ضمن الخطاب الميطا- سردي الذي يحفل به المتن المدروس، فالكاتبة لا تكتفي بسرد الأحداث، بل تعمل على تأثيث نصوصها الروائية بمجموعة من التصورات النقدية التي تتعلق بسؤال الكتابة الروائية، ليحضر الخطاب الميطا-سردي داخل المتن « بما هو خطاب حول الطابع الروائي، و تفكير حول ذاتها وكيفية انبنائها و شكلنتها» 13.
لهذا سنحاول إبراز سؤال الكتابة من وجهة نظر الكاتبة لتحديد تصورها فالروايات حسب الكاتبة:
«ليست سوى رسائل وبطاقات نكتبها خارج المناسبات المعلنة، لنعلن نشرتنا النفسية لمن يهمهم أمرنا » 14
إنها إذن رسائل نفسية تكتب في لحظة صفاء مع الذات،تود تبليغها لمن يهمهم الأمر، لا تخلو من تعنيف، و ارتكاب جرائم، و حماقات، و اشعال حرائق، ما دامت الكاتبة تكتب لتقتل الأبطال:
«إننا نكتب الروايات لنقتل الأبطال لا غير» 15
فالرواية الناجحة حسب الكاتبة دائما هي:
«جريمة ما نرتكبها تجاه ذاكرة ما، وربما تجاه شخص ما نقتله على مرأى من الجميع بكاتم صوت» 16
والكتابة حسب الروائية في مواقف أخرى تتخذ تفسيرا آخر كما في هذا المقطع:
«أذكر مقولة لروائي سئل لماذا تكتب؟ فأجاب ساخرا: لأن أبطالي في حاجة إلي، إنهم لا يملكون غيري على وجه الأرض» 17
بالإضافة إلى هذا فالرواية من منظور الكاتبة مجال لتمرير الخطابات والأفكار، يعني أنها واجهة للتعبير عما تؤمن به:
«الرواية لم تكن بالنسبة لها سوى آخر طريق لتمرير الأفكار الخطرة تحت مسميات بريئة» 18
كما أن الرواية ليست ألفاظا وكلمات بقدر ما تحمل كما هائلا من البارود والمتفجرات:
« في الواقع كنت أحب…مجازفتها في تهريب ذلك الكم الهائل من البارود في كتاب» 19
وبالإضافة إلى كل هذا فالروايات لا تعدو أن تكون تلبية لحاجة نفسية بعدما قتلت الأحلام:
« ما خلقت الروايات إلا لحاجتنا إلى مقبرة تنام فيها أحلامنا الموؤودة»
أما الروايات الفاشلة فهي تلك التي لا تستطيع أن تحقق أهدافها، يعني تلك التي لا تستطيع أن تحرق، لا تستطيع أن تدمر، لا تسطيع أن تزلزل، ولا تـستطيع أن ترتكب الحماقات و لا الجرائم:
«الروايات الفاشلة ليست سوى جرائم فاشلة» 20
لتصبح الكتابة الناجحة من منظور الكاتبة هي تلك القادرة على صنع الجرائم، بكيفية تحسن استعمال الكلمات، حتى لا تتسبب في خلق ضحايا، هي أيضا تلك القادرة على منازلة الطغاة والمفسدين وفضحهم، وهي تلك القادرة على إشعال الحرائق.
أما الوجه الآخر لوجهة نظرها في الموضوع ذاته، هي ارتباط الكتابة عندها بما هو وجودي، تتغيى تحقيق الذات والأحلام واستعادة ما سرق منها:
« نحن نكتب لنستعيد ما أضعناه وما سرق خلسة منا» 21
فما لم تستطع الكاتبة استرداده بالفعل على مستوى الواقع، فهي تحاول ذلك على مستوى الكتابة، لأنها القادرة على البقاء و على الخلود:
« إن المهم في كل ما نكتبه.. هو ما نكتبه لا غير فوحدها الكتابة هي الأدب… وهي التي ستبقى» 22
فالمقياس الحقيقي لنجاح العمل الأدبي، هو ما يحمله من ألم ومن دهشة، أي أن يأتي مشحونا بالألم ومعبرا عنه.
هذه إذن بعض الشذرات حول تصور الروائية للكتابة، والتي آثرت الكاتبة أن تؤثث بها ثلاثيتها الروائية.
ولعل أهم ما تنبني عليه الثلاثية هي«الذاكرة»، من منطلق أنها رواية منكتبة لذاكرة خالد وسيرته، في رواية «ذاكرة الجسد»، بدء من العنوان الذي يحيل على ذلك وولوجا الى عوالم النص وفضاءاته، أو ذاكرة المصور في «عابر سرير»، وإن لاحظنا حضور«الذاكرة» الباهت في« فوضى الحواس»، باستعارة شكل السيرة الذاتية، لأن السارد ينطلق من عالمه الخاص، للانفتاح على عوالم أخرى أرحب، وأوسع، والذي«لا يرى العالم إلا عبر تشكلات أناه الخاصة التي يستذكر عبرها مراحل حياته، فتغدو التذكرة مدعاة للنيل من طهرانيتها وسذاجتها السابقتين وكسرا لتلقيها الرومانتيكي»23.
ليحاول من خلال لعبة الذاكرة، أن يسجل تاريخه الطويل المليء بالشروخات والنتوءات، وهذا ما سيقوم به خالد في «ذاكرة الجسد» حين يقرر كتابة ذاكرته بدءا من علاقته بأحلام التي باءت بالفشل، باعتبارها الحافز الذي أدى به إلى مغامرة الكتابة ونبش الذاكرة، ليستيقظ الماضي داخله بين أول رصاصة سقطت في نونبر1954، وآخر رصاصة في أكتوبر1988، وبين هذا التاريخ وذاك، جراح وأحزان شتى يحاول لملمتها وكتابتها، لينسج منها ما يملأ به ثقوب ذاكرة جريحة معطوبة، تسكنه ويسكنها، لأنها ترتسم على جسده المعطوب، وبعد آخر طلقة لسنة1988 أحداث وقعت، إذ لن تكون الطلقة الأخيرة، بل بداية الطلقات، لكن هذه المرة ليس ضد المحتل، بل بين أبناء البلد الواحد، ودخول الجزائر مسلسل الإرهاب الذي أتى على الأخضر واليابس، بحيث لم يسلم من تداعياته أي أحد، هذه التداعيات والأحداث سيقوم بسردها كل من المصور، ثم حياة في الجزء الثاني والثالث من الثلاثية الروائية، ونحن بصدد دراسة المتن الروائي المدروس، لعل ما استوقفنا، هو أن انبناء العمل الروائي على الذاكرة قد تم عبر آلية التناص.
هوامش:
1-المرأة والكتابة، رشيدة بن مسعود، أفريقيا الشرق 1994 ص 75
2- سؤال الديالكتيك والهيمنة في أنسقة الكتابة النسوية نادر القنة، مجلة البيان، العدد 407 يونيو 2004 ص 42-43-
3-سؤال الديالكتيك والهيمنة في أنسقة الكتابة، مصدر سابق ص 46
4-الناقد المغربي سعيد يقطين، الأدب النسائي تسمية من خارج النص، سميحة خرسي البيان 4/ الخميس 25 يوليوز 1998 نقلا عن مجلة البيان مصدر سابق ص 46
5- التجربة الإبداعية النسائية في الجزائر، فضيلة الفاروق، نزوى، العدد 36 أكتوبر 2003 ص 260
6-قراءة في النص النسوي المغاربي الرواية أنموذجا، بشوشة بن جمعة، علامات في النقد، ج 39 م 10 مارس 2001 ص 237
7-مساهمة في الإنتاج الأدبي، يمنى العيد، مجلة الطريق، العدد 4/ أبريل 1975 ص 143
8-تطابق الصور في متوازي الأعمال الروائية للمرأة والرجل، طيبة أحمد الابراهيم، عالم الفكر، العدد الثاني، المجلد 32 أكتوبر-ديسمبر2003 ص 266
9- السرد النسائي العربي مقاربة في المفهوم والخطاب، زهور كرام، شركة النشر والتوزيع المدارس بالبيضاء، الطبعة الأولى 2004 ص 34
10- مقال لرجاء النقاش، الوطن العربي، العدد 1227، ص 47
11-نزاريات أحلام مستغانمي في «ذاكرة الجسد» ابراهيم المحمود، مجلة البحرين الثقافية، عدد35 خريف 2003 ص12
12- الرواية المغربية أسئلة الحداثة، جماعة من الباحثين، دار الثقافة البيضاء 1996 ص13
13 – مصدر نفسه ص 18
« ذاكرة الجسد» ص 311
15- م نفسه ص 18
16- ذاكرة الجسد ص 18
17 – فوضى الحواس ص 274
18-عابر سرير ص 17
19- ص 17
20- ذاكرة الجسد، ص 18
21 – ذاكرة الجسد، ص 105–
22- ذاكرة الجسد، ص 125
23 – العوالم الميتاقصية في الرواية العربية، أحمد خريس، دار الفاربي بيروت لبنان 2001 ص 120.