يتكون ديوان (هديل الروح) للشاعر الراحل الحسين القمري الصادر عن منشورات المكتب المركزي لاتحاد كتاب المغرب، سنة 2000 من عشرين قصيدة موزعة على مساحات نصية تتخللها بياضات ما يدل على أن المؤلف يشده الحنين إلى الحياة الخاصة وهو يتنقل بشاعريته بين أماكن مألوفة لديه (الناظور، مليلية، قرية أركمان، فاس، الرباط..) باعتبارها عوالم شعرية تتماهى مع أشواقه وأحلامه الذاتية المندغمة مع شؤون المجتمع وشجونه، متسلحا بلغة شاعرية وارفة أغنت المشهد الشعري العربي، وبوأت القصيدة الحداثية المغربية مكانة مرموقة.
إنها تجربة شعرية مغربية قل نظيرها، اختارت التنوع البنائي للقصيدة معضدا بالتشييد الدلالي الذي يشي بتعدد الأصوات، وثراء المرجعيات، والانفتاح على التراث.
تجربة ذاتية تنزع من كينونتها ذاتا موازية تسائلها باستمرار بهدف تعميق الوعي بالواقع ومساءلته لاستشراف الآفاق الممكنة، وترفض الواقع الكائن، وتحلم بواقع بديل يتدلى على سفح رؤيا شعرية مندسة بخطايا الوصول واشتهاء ثمار الحدائق الفاتنات:
“انتبهت
على ضوء أيقونة
تتدلى على سفح رؤيا
مدنسة بخطايا الوصول
اشتهيت ثمار حدائقه الفاتنات” (ص11)
إن الشاعر يتحلى بالصبر، ويلعن خطيئة الواقع الكائن، ولا يستسلم للبوصلة التي تسرق منه الوقت، فتجربته الذاتية في الكتابة والحياة ترغمه على أن يحلق شعرا عله يظفر بالحدائق والسفن، والفصول، ذلك أن شعره لا يينع في فصل واحد بل إن كل الفصول الأربعة تصلح لأن يستوي فيها عود القصيدة الشعرية الحرة.
إنها تجربة ذاتية ناطقة بالهم الإنساني، ومعرية للواقع الكئيب باحثة عن قاموس شعري خاص بها، وعن مدلولات جديدة لأسمائها، وفراشاتها، وحوريات الطيف، ودوحة العشاق، وتخوم الرمل والماء والسماء:
“لأسماء الحمام نذرت أسمائي
فأية حرقة أكلت فراشاتي
وأية هوة سرقت سمائي
فلم أخلع – غداة تنافر الأبدال – عن ألمي ردائي
ولم أسمع هديل الروح حين وقفت في أقصى
انمحائي
أسأل كاهنات الصمت
عما كنت أغزل من ربيعي أو
شتائي
وأتبع حوريات الطيف نحو مساقط الأضواء” (ص7)
إن تجربة القمري الذاتية تتناغم وتنسجم مع الشعر/الرؤيا، المتصل بالمناخ والحساسية العامة للشعرية المغربية في السبعينيات والثمانينيات، وقد عمل على صقل خصوصياتها المائزة، وهو لا يريد لهذه الرؤيا أن تخفت أو تزول، وإنما أرادها تجربة رائدة نابعة بماء الشعر والحياة، متشبعة حتى النخاع بطقوس التراث الشعري العربي المندغمة إلى حد التماهي مع أصوات لغات المهمشين والكادحين في المجتمع، فوحده هذا التماهي هو الذي يقي الكلمة الشاعرية من الاندثار والتلاشي:
“في مهب الغنـاء
الهواء إليك رسولي
دعيه يحدثك عن جسد يتضور شوقا
إليك
ليفض عنه غبار السنين
ويلهو
على سمر بابلي
يخبئ أسراره
في الصباح لينشرها في المساء
المداد إليك
طريقي
وأولى المحطات
مشرعة للفجاءات
والشعر
فالتقطي في الزحام
يدي”(ص5)
إن الكلمة الشعرية تنمو وتترعرع في أحضان التجربة الذاتية للحسين القمري الشاعر والانسان المتألم، فهي جرح لا يندمل إلا بمزيد من القول الشعري الرصين الذي ينضح بالانتماء الطبقي والفضاء المعيشي للبسطاء الكادحين، وهو لا يستسلم للحزن والكآبة والحقد متمردا على شعر صلاح عبد الصبور ومحمد الماغوط، فتجربته الذاتية وإن كانت قد أرخت بسدولها في (هديل الروح) إلا أنها سرعان ما تثور على الأوضاع الاجتماعية السائدة، وإن كانت في بعض الأحيان قد ذابت في كيمياء التصوف والزهد:
“يتخثر بين الزوايا
كما لو تشظى طريقي
ووغادت كواكبه الخادعة
ولكنه ضمني من ثمالات صحوي
وأسكرني بعناقيد من جنة الفقد
بين خدور المعاني
وأخيلة حرة سافرات” (ص12)
إن معجم هذا المقطع الشعري ينوء بحمل طاقات شعورية تتراوح بين شطحات المتصوفة والرؤيا، أضفت على هذا السجل الشعري برمته دفقات شعورية، أرخت بظلالها على الوجدان المترع بنخب القريض، والماسك بغواية اللغة، ويظل الناظم يستند على تجربته الذاتية قبل الانبراء للكتابة وبعدها، متحكما في مقصديته الخاصة في مجاراة بلاغة المتصوفة ليس إلا.
إنه يتريث في المقول الشعري تاركا الحبل على الغارب لقارئ مفترض يتمتع بذخيرة فكرية توجهه في فك شفرات هذه الشذرات والفتوحات، وقد تسعفه لتأويل دلالات اللغة المجازية التي ركبت صهو أخيلة شعرية، تتماهى مع البياضات والفجوات والفراغات:
“يا
صاحبي
نام النشيد
على ذراعي الغيب
– لما نمت –
وانسل الخياب
إلى مدارات الذهول
ورأى
السحاب طريقه البني
حلا ممكنا
ومضت
أزاهير الربى
متحجبات
نحو أودية الذبول” (ص23)
اللغة الشعرية أمدت هذه المساحات النصية بطاقات شعورية بهدف تجاوز الواقع الكائن واستشراف آفاق رحبة:
“يا سيد المرجان موعدنا القصيدة كيف تنسى غاية الياقوت عاشقها
وكيف تهدهد الأشجار طفل الليلك المولود من تعب المسافات
البعيدة كلما رحلت نوارسها وهاجرت القصائد في سلال الموت” (ص24)
إنها طاقات شعرية وارفة أرخت بظلالها على الذات الشاعرة المترعة بنخب الشعر والماسكة بغواية اللغة، ولا عجب إن وجدناه ينتصر للمقول الشعري ويستسلم أمام سيد المرجان أو الشعر سيان.
وعلى هدي المتصوفة يطرق باب حضرة محيي الدين بن عربي واقفا على عتبات الولوج وقد تبدى له شاعرا رؤيويا يتملى بطلعته على جبل من دخان، ولا عجب إن تراءى له يغزل ثوب الغيم مجازا، ويستنير بقناديل من ذهب، ورغبة في الارتواء الشاعري المجازي يرتوي هو الآخر من أباريق الرؤى وشطحات الصوفية.
إن تجربة الحسين القمري في الكتابة ومعرفته الدقيقة بأحوال المتصوفة أرغمته على رؤية ابن عربي الشاعر المتصوف وهو ينشر أوراقه بهدف استمالة حورية من بنات الضياء أو الكائنات الروحية. وعلى هدي هلوسات المتصوفة يطوع شاعريته للاقتراب من طقوس الندى والانسلال إلى دهشة اللون والكائنات:
“على عتبات الولوج
على جبل من دخان
رأيته
يغزل ثوب الغيم
وبين يديه قناديل من ذهب
وأباريق يسكب منها الرؤى الشاردات
رأيته
ينشر أوراقه
ويغني
لحورية من بنات الضباء” (ص11)
معجم شعري جزل، استبانت صفوته من رغوته واستقام منه الأود، فكان حريا بالشاعر حسين القمري أن يبني تصورا جديدا لمفهوم الشعر من خلال محاورته لمحيي الدين بن عربي الشاعر المتصوف بتوجيه رصين من إحساسه الصوفي، وحبه الشديد للحياة، حتم عليه إعادة النظر في مكونات الكتابة الشعرية، أي الحروف والكلمات والأسماء والعلامات والرسوم بحثا عن اكتشاف جديد لدلالاتها في ضوء بلاغة الباطن في علاقتها ببلاغة الظاهر. ذلك أن شعر التفعيلة يتيح له إمكانات واسعة لتجاوز البلاغة الرسمية، وإزالة اللبس عن أوائل حاله ودواخل ذاته على صهوة الاغتراف من لغة المتصوفة وبلاغة إشراقاتهم بهدف النهل من مباهج الحياة وطلاقة الوجه وسماحة الطباع .
بقلم: د. امحمد امحور