الحلقة الثالثة
شهد مغرب ما بعد الاستقلال وقائع سياسية كبرى مست الدولة والمجتمع، وأحداثا مؤلمة ميزت التاريخ السياسي للمغرب المعاصر، ومحطات كان لها تأثير كبير على ما نحياه اليوم من حراك لا يختلف في أهدافه، برغم اختلاف الأسلوب والأدوات المستعملة فيه، عن حراك أشد وأقسى كان فاعلوه مناضلين من طينة متميزة، استماتوا من أجل حق الشعب في إسقاط الفساد وفي نظام ديمقراطي وفي عيش كريم. فظلت أعينهم على الدوام شاخصة نحو وجه مغرب مشرق وجميل.
ليس كل تاريخ هذه المرحلة من مسار الوطن مدونا. فمن المؤكد أن تفاصيل بقيت مخبأة تنتظر منا النبش في الركن الخفي من الذاكرة السياسية لرجالات رسموا بنضالاتهم أخاديد شاهدة على معلومات تفيد في إزالة بعض العتمة المحيطة بكثير من التفاصيل الغائبة.
في حياة هذا الرعيل الأول من زعماء وقادة سياسيين أحداث مختلفة، فردية وجماعية، لا يمكن الاستهانة بأهميتها، لأنها تشكل عناصر من شأن إعادة قراءتها وترتيبها تسليط أضواء كاشفة على صرح الحدث أو الأحداث التي كانوا شهودا عليها أو اعتبروا جزء لا يتجزأ منها.
لم يكن لنا من خيار للإسهام المتواضع في قراءة مرحلة ما بعد استقلال المغرب سوى طرق ذاكرة شخصية سياسية من الشخصيات التي راكمت خبرة سنين طويلة من النضال الملتزم، وما تعنيه من نضج ودراية وصدق في استحضار معطيات هامة ومثيرة يحصرها البعض في خانة «واجب التحفظ».
وقع اختيارنا على الدكتور أحمد بورة كذاكرة مفتوحة على أحداث النصف الثاني من القرن الماضي وعلى عقد من هذا القرن الجديد عاشها أو عايشها. لم يكن هذا الاختيار اعتباطيا. فالرجل لازالت شرايينه تنبض بالوطنية وبالأفكار التقدمية، يتابع عن قرب وعن كتب أخبار الوطن وقضايا الشعب. لا يختلف في ذلك عن أي قائد سياسي تمتزج بين طيات شخصيته المتناقضات والمتآلفات.
يفتح لنا الدكتور أحمد بورة، طيلة هذا الشهر الفضيل، صفحات سجل حياته بنوع من الحنين لتلك الأعوام التي عاشها أو عايشها والتي يمكن أن تشكل بالنسبة إلى الباحثين والقراء مرتعا خصبا لكل من يريد البحث عما تختزنه الذاكرة من رؤى ومواقف وآراء ومعطيات….
أحمد بورة شخصية بارزة في حزب التقدم والاشتراكية العريق. حزب ناضل، منذ أربعينات القرن الماضي، بتميز وبصدق وإصرار، رغم المنع والقمع، وذلك تحت يافطات متنوعة، فرض تغييرها صموده من أجل الأفضل للبلاد.
أحمد بورة، ابن الطبقة الشعبية التي ظل ملتصقا بها، بهمومها ونضالاتها وأحلامها، بادلا لها من ذات نفسه كل ما يستطيع أن يبذله المواطن الصالح لوطنه، وجاعلا من صدر الطبقة الكادحة، في أشد لحظات النضال قتامة، متكئا لينا يلقي رأسه عليها فيجد فيه برد الراحة والسكون.
من معين هذا المناضل، ومن تفاصيل حياته الشخصية، نقدم لقرائنا هذه الحلقات التي حاولنا صياغتها على شكل قصص وروايات وأحداث، وأحيانا طرائف ومستملحات، لتعميم الفائدة ولتسجيل أوراق شاهدة على مرحلة من تاريخ ما بعد استقلال المغرب.
عيادة بالمجان للمحتاجين في بيت بورا الشاب
مع مرور السنوات كان يتبادر إلى ذهن الطفل أحمد بورة سؤال يتكرر باستمرار، هل كان أبوه لوحـده قادرا على إعالة أسرتنه المتعددة الأفراد لولا ما كانت تجود به أنامل الأم من ثمار ذاك المنسج العجيب؟ يتذكر والدته معتصمة دوما بالصمت، وكم كان يستهوينه منظرها وهي تملأ نولها وتؤثث إطار “منججها” خيطا تلو الخيط وضفيرة تلو الأخرى بغبطة ولطف وأناة.
كان لا يمل متابعة كل حركات يديها. ومنذ بدأ ذهنه يتفتق عما حوله، عقد العـزم على أن يعـوض أبـويه خيرا، ما أن يفتح علي الله أبواب الرزق، وكانت أول هدية قدمها إلى أمه حين استلمت أول أجر بمهنته كطبيب، منسجا عصريا بكل أدواته وملحقاته، زينت به ورشتها مفتخرة ومعتـزة..
استقبلتـه بذراعين مفتوحتين وقبلتنه على وجنته، وخاطبتنه رحمها الله ودموع حـزن تكـاد تطفـو من مقلتيها قائلة :”الله يرضي عليك أولدي، والله يبر بيك كيف ما بريتي بواليديك”.. تلك الصورة ودعوات الرضا حفرت في أعماق ذاكرته مكانا عصيا على النسيان.
حلم البر بوالدين كادحين، على غرار الفئات الكادحة والطبقات المستضعفة التي كان حالها يعصر قلبه الصغير، لازمه منذ الطفولة حين كانت تستيقظ عيونه ولا تنام مع تسابيح الفجر على صوت أمه، التي تكبّرالله أكبر استعدادًا لكل صلاة قبل العودة إلى العمل، وخطوات والده إلى المسجد إيدانا بيوم شقاء جديد، فيستيقظ عقله، وتسبّح روحه في جو إيماني روحاني، مليء بدفء الوفاء للوالد والوالدة، متطهرا برضاهما، عاقدا العزم على النضال من أجل نصرة قضايا المستضعفين.
وقد بدأت علامات النبوغ والتميز في شخصيته منذ الطفولة الأولى، أي عند أول خط تماس بين التربية والتعليم ببيـتـ الأسرة. فالوالـداـن، رحمهما الله، مهدا عند إلحــاقه بالمسيد جسرا تمتد عبره مبادئ التربية الأصيلة الوثيقة الصلة بقـوة الانتماء للدين والأرض والقبيلة بعالم الكـتـاب…الخ.
في سن الخامسة تقريـبـا، قرر الأهـل إلحاقه بكتاب الحي. كان منتهى أمل الأب الذي كان حافظا للقرآن الكريم، ومنتهى أمل الأم التي لم تـنـل أي حظ من التعليم، أن يغترف أبناءهما ما استطاعوا من الدين والعلم، وكانت الأسر المغربية حينها ميالة كل الميـل، وبشكل فطري، إلى التدين البسيط ومحبة العارفين بكتاب الله.
أقبل الطفل أحمد بورة على قراءة القرآن الكريم وتعلم الكـتـابــة. ولأن نباهته كانت لافتة فقد كان محل حظوة وامتياز لدى فقيه المسيد، وكانت أسرته مغتبطة لشدة تعلـقـه بدروسه واجتهاده في حفظ السور المقررة عليه عن ظهر قلب، وإصراره على محاكاة خط شيخه في الكتـابة، متفــوقـا على من هم في سنه –وكانوا قلـة- ومن هم أصغر منه.
ومما لا زال يعيه إلى اليوم أن جمعه بين الجـد والشغب كان من حين لآخـر يمنحنه هوا الآخـر حظه من الشتم والضرب، ونصيبه من الفلكة –الفـلـقـة- والعلقة كبـاقي أقرانه من الصبية.. رغم ذلك لم تكن مشاكساته تتبدل ولا الخوف من العقاب يتسلل إلى قلبه. وكم مرة جلد حتى كـاد يغمى عليه، فعاش فترة التحصيل في الكتاب بين ترغيب وترهيب وفتور ونفـور، أفقده مع مرور الوقت القـدرة على مواصلة رحلته مع المسيد. ومع ذلك كان هذا الفضاء القرآني مؤسسة التنشئة الاجتماعية الثانية التي ساهمت في بناء شخصيته إضافة إلى المؤسسة الأولى “الأسرة” التي عشقت أرض بني ملال، وانغرست في أعماقها لتؤسس كثيرا من القيم والثوابت التي ترسخت في شخصيته، وأكسبتها عذرية وسريرة نقية، وقدرة على التأمل والنقد.
مضت أيام الطفولة الأولى بين خيوط مناسج الأم، وما يدره علينا ضرع بقرات – تشاطر أسرته ركنا من أركان البيت- من لبن وزبدة وسمن كان يكفيهم ويكفي حتى الجيران. وكم استأنس أحمد وإخوته بجوار مدفأة الحطب التقليدية بحكايات الأم وحجايات الجدة التي تثري خيالهم الصغير وتغذي أحلام طفولتهم البريئة.
وكلما انتهت أمه من نسج هذان جديد، تقصد به السوق وتنعم على البنات المتمرنات ببعض النقـود، وحين تدخر ما يكفيها تقرر السفر بابنها أحمد إلى أضرحة الأولياء ومزارات الصالحين، ومنها زاوية سيدي أحمد بلقاسم الصومعي ببني ملال، والولي الصالح سيدي رحال البودالي، ومولاي بوعزة، وسيدي بوعبيد الشرقي.
كانت رحمها الله شديدة الإيمان بالله وقوية التوكل عليه، كما كانت مقـتـنعة بكرامات “السادات” من أوليائه الصالحين، المشهود لهم بزهدهم وصلاحهم وتقواهم، مواظبة على زياراتهم والتبرك ببركاتهم، وكم حثت ابنها أحمد على وضع رأسه فوق مراقدهم ودعوة الله أن يسهل له أمره وييسر درب دراسته ويوفقه وأسرته لما يحبه ويرضاه.
أما الوالد فـقـد كان فقيها ورعـا، مواظبا على الصلاة ومنشغلا بقراءة كتاب الله، عارفا ومحكما لطريقة الزاوية الرحالية في تلقين وتحفيظ القرآن الكريم المعتمدة على الألواح الخشبية، وأقلام القصب، والصمغ والصلصال وإحياء السنة النبوية على مذهب الإمام مالك التي تستمد جذورها من عمق تربة التصوف التباعية الجزولية الشادلية.. كما عرف بانشغاله بهداية الناس وسعيه لعمل البر وفعل الخير بين جيرانه ومعارفه وطالبي بركة أولاه الله سرها وهي الحـد من تضخم الغدة الدرقية.
مشهد ظل عالقا بذاكرة أحمد بورة منذ سنين الطفولة إلى الفترة التي أصبحت فيها طبيبا ما بين سنتي 1967 و1968. و بما أن إيمانه بالمستضعفين من أبناء وطنه ظل ملازما له، فقد كان، قبل الترخيص له بممارسة المهنة، يقوم بالكشف على المرضى مجانا بالطابق الأول من بيت الأسرة ويمـدهم بوصفات الدواء الواجب تناوله. ولم يكن طابق البيت السفلي يخلو من زبائن الوالد الذي كان يمارس به طبا صار ألشاب أحمد بورة يعتبره اشعبيا وتقليديا. وقد حدث أن توجه لأبيه بالنصح ذات مرة قائلا له :
“آلوالد هاذ النوع ديال الطب راه فات وقـتـو، واليوم حنا فعصر آخر. وهاذ التداوي الشعبي صبح متعارض مع الطب بمعناه الحقيقي”.
فأجابه والده بزهو:
“هذي بركة الله ما بعنا بيها ما شرينا، سير على عملك وخلي موالين البركة يكملوا خيرهم..”.
وكما كان بيت الأسرة لا يتوقف عن استقـبـال زيارة مرضى “الحنكورة أو الكواطر”، فإنه وعلى رأس كل شهر يتحـول إلى ملتقى أولاد سيدي رحـال، يقضون به ليلتهم في الذكـر والمديح النبوي، الموسومين ببعض كرامات جدهم ومنها جذبة المريدين السالكين وطقوس شرب الماء الساخن درجة الغليان من فوهة “المقراج”.
إعداد: مصطفى السالكي