الحلقة14
شهد مغرب ما بعد الاستقلال وقائع سياسية كبرى مست الدولة والمجتمع، وأحداثا مؤلمة ميزت التاريخ السياسي للمغرب المعاصر، ومحطات كان لها تأثير كبير على ما نحياه اليوم من حراك لا يختلف في أهدافه، برغم اختلاف الأسلوب والأدوات المستعملة فيه، عن حراك أشد وأقسى كان فاعلوه مناضلين من طينة متميزة، استماتوا من أجل حق الشعب في إسقاط الفساد وفي نظام ديمقراطي وفي عيش كريم. فظلت أعينهم على الدوام شاخصة نحو وجه مغرب مشرق وجميل.
ليس كل تاريخ هذه المرحلة من مسار الوطن مدونا. فمن المؤكد أن تفاصيل بقيت مخبأة تنتظر منا النبش في الركن الخفي من الذاكرة السياسية لرجالات رسموا بنضالاتهم أخاديد شاهدة على معلومات تفيد في إزالة بعض العتمة المحيطة بكثير من التفاصيل الغائبة.
في حياة هذا الرعيل الأول من زعماء وقادة سياسيين أحداث مختلفة، فردية وجماعية، لا يمكن الاستهانة بأهميتها، لأنها تشكل عناصر من شأن إعادة قراءتها وترتيبها تسليط أضواء كاشفة على صرح الحدث أو الأحداث التي كانوا شهودا عليها أو اعتبروا جزء لا يتجزأ منها.
لم يكن لنا من خيار للإسهام المتواضع في قراءة مرحلة ما بعد استقلال المغرب سوى طرق ذاكرة شخصية سياسية من الشخصيات التي راكمت خبرة سنين طويلة من النضال الملتزم، وما تعنيه من نضج ودراية وصدق في استحضار معطيات هامة ومثيرة يحصرها البعض في خانة «واجب التحفظ».
وقع اختيارنا على الدكتور أحمد بورة كذاكرة مفتوحة على أحداث النصف الثاني من القرن الماضي وعلى عقد من هذا القرن الجديد عاشها أو عايشها. لم يكن هذا الاختيار اعتباطيا. فالرجل لازالت شرايينه تنبض بالوطنية وبالأفكار التقدمية، يتابع عن قرب وعن كتب أخبار الوطن وقضايا الشعب. لا يختلف في ذلك عن أي قائد سياسي تمتزج بين طيات شخصيته المتناقضات والمتآلفات.
يفتح لنا الدكتور أحمد بورة، طيلة هذا الشهر الفضيل، صفحات سجل حياته بنوع من الحنين لتلك الأعوام التي عاشها أو عايشها والتي يمكن أن تشكل بالنسبة إلى الباحثين والقراء مرتعا خصبا لكل من يريد البحث عما تختزنه الذاكرة من رؤى ومواقف وآراء ومعطيات….
أحمد بورة شخصية بارزة في حزب التقدم والاشتراكية العريق. حزب ناضل، منذ أربعينات القرن الماضي، بتميز وبصدق وإصرار، رغم المنع والقمع، وذلك تحت يافطات متنوعة، فرض تغييرها صموده من أجل الأفضل للبلاد.
أحمد بورة، ابن الطبقة الشعبية التي ظل ملتصقا بها، بهمومها ونضالاتها وأحلامها، بادلا لها من ذات نفسه كل ما يستطيع أن يبذله المواطن الصالح لوطنه، وجاعلا من صدر الطبقة الكادحة، في أشد لحظات النضال قتامة، متكئا لينا يلقي رأسه عليها فيجد فيه برد الراحة والسكون.
من معين هذا المناضل، ومن تفاصيل حياته الشخصية، نقدم لقرائنا هذه الحلقات التي حاولنا صياغتها على شكل قصص وروايات وأحداث، وأحيانا طرائف ومستملحات، لتعميم الفائدة ولتسجيل أوراق شاهدة على مرحلة من تاريخ ما بعد استقلال المغرب.
*عبدالله العياشي الحامل دوما لحقيبتين واحدة للسجن وأخرى للمحاضرات الحزبية
باقتراح وبإصرار من علي يعتة، أو “السي علي” كما كان يحلو لنا تسميته، سيجد أحمد بورة نفسه، في سنة 1964، ممثلا للشبيبة الشيوعية التقدمية في موسكو ضمن مؤتمر الشباب الشيوعي. كان علي يعتة نموذجا للوطني المنفتح والسياسي المتبصر والمناضل الكبير الذي بدأ كما انتهى واحدا من رموز الحركة الوطنية وشخصية فذة تركت بصمات خالدة في سماء النضال والسياسة.
تزامن المؤتمر مع بداية مرحلة ليونيد بريجنيف الذي تم تعيينه، سنة 1964، أميناً عاماً للحزب الشيوعي السوفييتي فيما أصبح كوسيغن رئيساً للحكومة، وميكويان رئيساً لمجلس رئاسة الدولة حتى عام 1966 ثم خلفه في هذا المنصب بودغورني. وبذلك عاد الاتحاد السوفييتي إلى القيادة الجماعية من جديد. لكن سرعان ما انفرد بريجنيف بالسلطة عندما جمع في يده الأمانة العامة للحزب ورئاسة الدولة سنة 1977.
لم يؤد رحيل خروشوف إلى تغييرات جذرية في الخيارات السياسية والاقتصادية، ومع ذلك عرف الاتحاد السوفييتي في عهد بريجنيف بعض التحولات. ففي المجال الاقتصادي استؤنف العمل بالخطط الخمسية. وبدأ تطبيق الإصلاحات التي نادى بها ليبرمان في المصانع “إدخال مفهوم الربح في إدارة المنشآت الصناعية وإجبارها على تنظيم برنامجها الإنتاجي تبعاً لطلبات زبائنها، والتسيير الذاتي”. وأعطت هذه السياسة نتائج مرضية نسبياً. وبعد سنوات من التردد، ساعد استخدام الحوافز المادية، وتحسين تقنيات الإدارة، وتحديد الأسعار بربطها بسعر الكلفة الحقيقية للإنتاج على الحصول على نتائج مؤكدة مع الخطة الخمسية الثامنة “1966-1970”. والتاسعة “1971-1975”. وازداد إنتاج الأدوات الاستهلاكية موازياً إيقاع إنتاج الصناعة الثقيلة. وفي الميدان الأيديولوجي، تعزز في عهد بريجنيف العمل بالواقعية الاشتراكية في الوقت الذي تزايدت فيه معارضة المنشقين بدءاً من عام 1970. وفي مجال السياسة الخارجية، حقق الانفراج الدولي تقدماً مهماً بدءاً من عام 1965. فتحسنت العلاقات السوفييتية – الأمريكية ولاسيما بعد معاهدات 1972 الخاصة بالحد من الأسلحة النووية وتوقف حرب فييتنام. كما تحسنت العلاقات السوفييتية مع ألمانية الاتحادية في حين توترت العلاقات مع دول المعسكر الاشتراكي بسبب استمرار الاتحاد السوفييتي في سياسة الحفاظ على وحدة العالم الاشتراكي وفقاً للمعايير التي حددها بنفسه. وهذا ما يفسر تدخله في تشيكوسلوفاكية “1968”. واستمر الاتحاد السوفييتي ببسط نفوذه في إفريقية وأمريكة اللاتينية، وفي تدعيم موقفه في الشرق الأوسط وتأييده للبلدان العربية في مواجهة العدوان الإسرائيلي “1967”. وقد اتسمت مدة حكم بريجنيف بالجمود والمحافظة ومقاومة كل جديد. وتمثل ذلك باستقرار الأطر نفسها في أجهزة الحكم, والتمسك بالتخطيط الاقتصادي، مع الرغبة في تقريب شروط معيشة أبناء الأرياف من أبناء المدن عن طريق تطوير «المدن في الأرياف» وكذلك مواصلة الأهداف السياسية الخارجية نفسها.
كانت علاقة الحزب بالاتحاد السوفييتي قوية، وكانت التجادبات العالمية التي يؤثر فيها هذا الاتحاد، في إطار ما كان يسمى الحرب الباردة، تجد وقعها في الحزب الذي اختاره أحمد بورة بقيادة علي يعتة الذي كان هذا الزعيم منارة له وللشباب من أقرانه.
يعود أحمد بورة بمخيلته إلى الوراء، وبالضبط ما بين سنوات 1964 و1971، عندما كان مسؤول الحزب في الخلية بالحي الجامعي بالرباط، كانت العلاقة بينه وبين رفاقه قائمة ومستمرة قبل أن تخفت وتيرتها بسبب رحلته الدراسية إلى الديار الفرنسية. وستعود العلاقة إلى سابق قوتها بمجرد عودته إلى البلاد بعد إتمام تكوينه في مجال الطب والتخصص في الأمراض الجلدية والتناسلية والتجميل.
وفي سنوات التسعينات حيث كان عنصرا نشيطا في حزب التقدم والاشتراكية، يتذكر حضوره إلى بيته بمناسبة عيد ميلاده، رفقة المرحوم الأستاذ العياشي والأستاذ عبد القادر المازيني، والأستاذ عزيز بلال، بالإضافة إلى بعض الأصدقاء من المجتمع المدني.
وأيذكر أنه قال له حينها بنبرة صوته المحبوبة وبطريقته العفوية، بأنه كان دائما يحمل معه حقيبتين خلال أيام الحماية، إحداهما بها ملابس وأدوات السجن، وذلك في حالة ما إذا ألقي عليه القبض، أما الثانية فكان يحملها إذا اضطر للسفر من أجل إلقاء المحاضرات الحزبية.
وأتذكر أني اقترحت على “السي علي” استهلال مداخلاته بكلمة “بسم الله الرحمان الرحيم” وسألته، لماذا لا تستهل مداخلاتك بالبسملة، حتى يعرف المغاربة أنك أول مناضل تقدمي مسلم؟ وأنت تعلم جيدا أن الحزب تعرض للمنع لأنه لم يكن حزبا مسلما سابقا” فالتفت إلي ضاحكا، وقال :
سأفعل ذلك في المستقبل، فالفكرة جيدة وموضوعية.
ومنذ ذلك الحين، أصبح السي علي يبدأ مداخلاته الحزبية في البرلمان بالبسملة، فلقي بذلك استحسانا لدى نواب الأمة، واعتبر يومئذ تحولا فاصلا في تاريخ الفكر الشيوعي بالمغرب.
وتحضرني ذكريات زياراته لعيادتي رفقة العديد من المرضى والمحتاجين، يقول لي بعباراته القوية :
هؤلاء زملائي وأصدقائي، فخذ بأيديهم بالمعروف كما عهدناك دوما يا بروفيسور بورة.. ولا تنسى أنك طبيب معالج، فكن خدوما لأبناء الشعب خصوصا الفقراء منهم..
وكنت أجيبه مرحبا.. سأفعل ذلك، يا رفيقي العزيز المحترم، بكل حب وتقدير.
كان علينا كطلبة جامعيين أن نطمح للتفوق أكثر من طموحنا للنجاح..وإن كنا قد وفقنا في الانتقال إلى السنة الثانية فإن نشوتنا بشبه الإنجاز هذا كانت قد اصطدمت بأقسى الظروف التي تشهدها البلاد. صحيح أن فرحتنا كانت بطعم المرارة.
كنت ذلك الطالب الذي يتشوق لانفراج سياسي يمنح المغربي حق شم نسيم الحرية الحقيقية.
مجال دراسة الطب الصعب والمعقد في آن واحد لم نكن نسير فيه على مشوار التفوق في ظل انشغالنا المتزايد بقضايا المغرب وبتقلبات الحياة السياسية. كل مسالك أحاديث الطلاب داخل مدرجات أو قاعة المحاضرات أو المطعم أو الحي الجامعي كانت متجاذبة بين أخذ ورد، لكنها كانت تعرج بالضرورة على حال البلاد.
الخلية التنظيمية للحزب بالرباط، كانت هي أيضا سابحة في بؤر تلك التوترات، وعاكفة على دراسة أسباب تناسل عددها ومدى تأثيرها على مختلف شرائح الشعب المغربي.
في ظل هذا الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الآخذ في التأزم، تنامت علاقة كل مكونات خلية الحزب بالزعيم والمناضل التاريخي علي يعته، والأستاذ البارع في مجال العلوم الاقتصادية وأحد قادة ومنظري الحزب الراحل عزيز بلال والاشتراكي التقدمي المرموق الدكتور عبد الهادي مسواك وأمين عام جبهة القوى الديمقراطية، وزير الصيد البحري، وزير الصحة الأسبق التهامي الخياري ووزير حقوق الإنسان سابقا، والنقيب السابق لهيئة المحامين بالرباط، الأمين العام للحزب الليبرالي المغربي الأستاذ محمد زيان والطبيب الجراح المقيم بباريس عمر قاشوحي.
الخلية كانت منكبة باستمرار على تهيئ العروض وتنظيم اللقاءات وتوزيع المهام وصياغة المقالات والبحوث التي تجد لها مكانا بصحيفة المكافح قبل أن يصدر أمر بحظرها منتصف سنة 1964، بعد معالجتها لمختلف تجاذبات الحراك السياسي الوطني، ذلك الحراك الذي عرف تصعيدا قويا منذ استقلال الجزائر ونشوب أولى المناوشات الحدودية مع المغرب التي تحولت إلى صراع مسلح اشتهر بحرب الرمال عام 1963.
اعداد: مصطفى السالكي