الفقدان

فقد المغرب، في ظرف أيام، اثنين من كباره، تركا بصمات واضحة، كل في مجالات انشغاله، وكانا معا يحملان مشاريع سياسية وفكرية وثقافية.
خسرت البلاد، والحركة الديمقراطية والتقدمية كلا من إدمون عمران المالح وأبراهام السرفاتي، ولم يشتركا فقط في يهوديتهما، إنما معا كانا من أسماء فضائنا التقدمي والديمقراطي البارزين، وإن بمسارين متمايزين، وكانا يشتركان أيضا في  رفضهما القوي والعلني للصهيونية ومناصرتهما للقضية الفلسطينية…
السرفاتي والمالح، لم يكونا إذن ظهورا عابرا في حياة المغرب، ولم يكونا مجرد ظهور ولا مجرد عبور، بل كانا بمثابة الحضور الذي لا يعرف للغياب حضورا…
معا ناضلا ضد الاستعمار، ومن أجل استقلال بلدهما المغرب، ومعا تعرضا للاعتقال والنفي خلال عهد الاستعمار…، وخاض السرفاتي في عهد الاستقلال مسارا نضاليا كلفه اعتقالات ونفي وتعذيب وكثير محن، تحملها  بإصرار…
وكلا الفقيدين كان له دور في معركة شعبنا من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وتقييم الأدوار والمسارات والمواقف مشاع للمؤرخين ولمن جايل الراحلين، لكن في كل الأحوال البلاد فقدت رمزين كبيرين..
فبفضل السرفاتي والمالح، وأيضا شمعون ليفي وسيون أسيدون وآخرين، كان المغرب يقبض على  استثنائية هويته، وعلى ثراء تعدده الحضاري والثقافي، وعلى تسامحه وقوة شعبه..
وبفضل أمثال هؤلاء المناضلين المغاربة، كان التمييز واضحا في الصراع العربي الإسرائيلي، بين الصهيونية وبين الديانة اليهودية، ولهذا فالسرفاتي والمالح لم يفقدهما المغرب وحده، إنما خسرتهما القضية الفلسطينية أيضا، وخسرتهما القوى المناهضة للاستعمار وللتعصب الديني وللظلم…
وسواء أثناء تشييع جثمان المالح في الصويرة، أو خلال حفل تأبينه في الرباط، أو أثناء دفن السرفاتي في الدار البيضاء، فإن الأكثر دلالة كان هو حضور المغاربة، يهود ومسلمين، والتفاف الجميع حول فداحة الخسارة، وكان الكل يعزي الكل …
الصورة تجعل الرحيل بمثابة إقامة، وتجعل الراحلين الكبيرين يستقران في قلوب ووجدان وعقول كافة المغاربة.
لم يكن الموت هنا نهاية حوار، ومراسيم الدفن منحت الفقيدين حياة أخرى، وجسدت قيمة الحفاظ على هيبة وجودهما…
الدفن توج الفقيدين باحترام وحب المغاربة…
ورحيلهما اليوم يمنحنا فرصة التأمل الجدي في مسار  التجارب اليسارية المغربية، ويوجب انخراط الكل في تمرين صارم مع الذات  لقراءة التجربة، وتحليل المسار، بغاية استخراج الخلاصات، وتعبئة كل الجهود الديمقراطية والتقدمية لتعزيز نضال شعبنا من أجل الديمقراطية والتقدم والعدالة الاجتماعية.
رحيلهما أيضا يفرض علينا كلنا واجب الدفاع عن مختلف أبعاد هويتنا المغربية المتميزة، وإشعاع قيم التسامح المتجذرة في المغرب والمغاربة، ومحاربة كل أشكال التعصب والأصولية.

*

*

Top