سياسيون وأكاديميون يقاربون اليسار المغربي بين القوة التاريخية والتراجع ويقدمون قراءات في مساره

قال محمد نبيل بنعبد الله الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية إن اليسار المغربي بمختلف تلويناته كان له الفضل في حمل أفكار ومبادئ الاستقلال الوطني والديمقراطية والحريات والعدالة الاجتماعية والرقي بالاقتصاد الوطني وبدور متطور للدولة، وغير ذلك من القيم الكبرى.
وأضاف بنعبد الله، الذي كان يتحدث في افتتاح الجامعة السنوية التي نظمها حزب التقدم والاشتراكية، أول أمس السبت بالمقر الوطني للحزب بالرباط، حول “اليسار بين الوفاء والتجديد”، أن القيم التي ناضل اليسار من أجلها هي التي استمرت وأصبحت متداولة في الحقل السياسي الوطني.
وتابع بنعبد الله “وقد كلفنا ذلك تضحيات جسام جعلتنا نقدم في ساحة النضال، آلاف الشهداء والمعتقلين والمنفيين إلى جانب العطاءات الغزيرة والغنية والجريئة للقتادة التاريخيين وللمناضلات والمناضلين في المغرب وفي جميع أنحاء البلاد”.
ويرى زعيم حزب التقدم والاشتراكية أن اليسار بصم بشكل أساسي التاريخ المعاصر للمغرب، وساهم في عدد من المحطات التاريخية، مؤكدا أن كل الإصلاحات الكبرى التي شهدها المغرب اليسار هو من دافع عنها لمدة عقود من الزمن.
وأبرز المتحدث أنه في فترات تاريخية معينة تطورت أفكار اليسار إلى إصلاحات على أرض الواقع في شتى المجالات، كما هو الأمر بالنسبة لمطلب الإصلاح الدستوري القائم على نظام الملكية البرلمانية، وتوسيع مجال القانون لتكون الدولة دولة للمؤسسات فعلية، وكذا الاعتماد على الدولة في قيادة الاقتصاد الوطني والمجهود الاستثماري إلى جانب قطاع خصوصي، وتوسيع مجال الحريات الفردية والجماعية وما يتعلق بإشاعة ثقافة حقوق الإنسان وتطوير ثقافة المساواة بين المرأة والرجل.
كما لفت بنعبد الله أن اليسار ساهم في تشييد البنية التحتية الأساسية وإعطاء توجه آخر للمشروع الاقتصادي الوطني خصوصا بعد دخول جزء من أحزاب اليسار للتدبير الحكومي، فضلا عن كونه كان وظل حاملا لمطلب العدالة الاجتماعية في المقاربة التنموية.
وذكر بنعبد الله بمواقف اليسار وقوته وفي الوقت الذي وجد فيه اليسار ولم يوجد فيه ما يسمى باليمين، حيث أوضح أن المغرب عرف أحزابا يسارية قوية بمرجعية وفكر وتصورات، في حين لم يعرف أحزابا يمينية تحمل فكرا وتوجها، مشيرا إلى أن ما وجد في ما بعد لا يعد أن يكون يمينا مصطنعا بدون أن تكون له أفكار ومرجعية وتوجه وغير ذلك، وجاء فقط لمواجهة اليسار الذي كان يهمين في الساحة السياسية والمجتمعية.
إلى جانب ذلك، قال بنعبد الله إن اليسار آمن بالرقي بفكرة التنوع الثقافي وأهمية الثقافة وأسهم في إدخال البعد الإيكولوجي في البعد التنموي، فضلا عن إسهامات أخرى متعددة، مضيفا أن التساؤل الذي يطرحه الجميع: “لماذا لم يبقى اليسار في نفس المستوى؟”.
وعاد بنعبد الله للحديث عن مجموعة من الأمور التي أدت إلى تراجع اليسار في محطات مختلفة، والتي من ضمنها أخطاء ذاتية وما وصف بالهفوات والإخفاقات والسلبيات التي طبع عليها اليسار في ممارسته وأبرزها عدم قدرته على توحيد الصفوف والاشتغال معا من أجل أن يكون اليسار المغربي هو القوة الدافعة الأساسية للمشروع الإصلاحي الوطني.
ولفت المتحدث أن من ضمن الاشياء التي أدت إلى تراجع اليسار بروز تصرفات معينة وقوى أخرى وأوساط ضغط أخرى أثرت على المسار العام للبلاد، مزامنة مع الوقت الذي كانت فيه لليسار المبادرة الأساسية وكان تأثيره كبيرا وأفكار مغروسة في الوسط المجتمعي ووسط المثقفين وفي الوسط الجامعي وفي الوسط الإعلامي وكان اليسار هو المؤثر وهو صانع الأفكار وصانع المبادئ، بالرغم من كونه حينها لم يكن يساهم في تدبير الشأن العام.
ولإرجاع اليسار إلى وهجه وجعله يعود بقوة كما كان في الماضي وإلى صدارة المشهد السياسي الوطني، يرى زعيم حزب “الكتاب” أن الطريق ينطلق بإعادة عنصر الثقة بداية، على اعتبار أن الأزمة الحالية هي أزمة السياسي.
هذه الأزمة رد بنعبد الله أسباها إلى مجموعة من الاعتبارات بما فيها الاعتبار بكون اليسار مساهم بدوره في الوصول إلى هذه الأزمة، بالإضافة إلى مسؤوليات كثيرة ومنها يقول المتحدث “مسؤوليات تعود لأوساط أرادت أن تكون السياسة هكذا وأن يكون المشهد السياسي هكذا، وأرادت عمليا أن لا تكون هناك أحزاب سياسية قوية حاملة لمشروع التغيير تتنافس فيما بينها وتختلف فيما بينها وتحمل مشاريع مختلفة وتبني بشكل أو آخر المشروع الإصلاحي والمشروع التنموي الوطني”.
وتوقف بنعبد الله عند أزمة السياسة التي قال إنها من النقاط الأساسية التي أدت إلى تراجع اليسار وتراجع الثقة بصفة عامة، منبها إلى خطورة هذا الأمر وإلى خطورة تغييب البعد السياسي في الحياة العامة وفي التنمية.
وذكر الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية بالنموذج التنموي الجديد الذي قال إنه مهم على كثير من المستويات، مردفا أن ما ينقصه هو غياب البعد السياسي فيه وكونه لا يتضمن أي مشروع لإصلاح المشهد السياسي، مشددا على أنه لا يمكن النجاح في بلورة هذا المشروع التنموي طالما ليس هناك قوى سياسية قوية قادرة على حمل هذا المشروع الإصلاحي.
وشدد بنعبد الله على أنه لن يكون هناك إصلاح بدون بعد سياسي قوي، مستدلا على ذلك بالأزمة التي تعرفها مجموعة من القطاعات وضمنها الأزمة بقطاع التربية الوطنية والمدرسة العمومية، مجددا التأكيد على أنه “يتعين أن تكون هناك إرادة قوية للدولة في أن يكون لنا مشهد سياسي حقيقي قوي بكل ما يستلزم ذلك من إصلاحات للنظام الانتخابي ولدور الأحزاب ودور المؤسسات وتفعيل للدستور وغير ذلك”، وفق تعبيره
وبعد تجديده للتساؤل عن قوة اليسار والواجب فعله لتجاوز الأزمة المتعلقة بالفعل السياسي أكد بنعبد الله أن المنطلق يكون بالشروط بالذاتية التي تقتضي، بحسبه، القيام بتقويم موضوعي لما يجري وأن يكون هناك نوع من الإسهام الإيجابي لكل فصائل هذا اليسار بالسعي بداية إلى الاشتغال المشترك وإيجاد صيغ مشتركة للعمل وتجاوز مخلفات الماضي “التي لن تفضي إلى اي نتيجة إيجابية”، وفق تعبيره.
ولاسترجاع الوهج يرى المتحدث أن هناك حاجة لتملك اليسار القدرة على تجاوز الجدران الحالية للأحزاب السياسية كما هي، وأن يرفع السقف ويعيد العمل على كثير من الواجهات، مبرزا أن أهم ما يشكل اليسار من أفكار ومبادئ وطاقات توجد خارج جدران أحزاب اليسار من كونه يوجد داخل هذه الأحزاب، مشددا على أن العمل يجب أن يسير نحو هذه الطاقات وأن يتم العمل على إرجاعها ولو في إطار مغاير كحركة مواطنة اجتماعية واسعة تتقاسم مجموعة من الأفكار وتعمل بدورها على أن تدخل إلى فضاءات جديدة بقوة وبشعارات قوية وبمواقف قوية.
كما يرى بنعبد الله على ضرورة عودة اليسار إلى حمل المطلب السياسي عاليا، حيث لا يوجد مشروع تنموي بدون سياسة، أي بسياسة تحترم وفاعلين سياسيين لهم مكانتهم ويلعبون أدوارهم، فضلا عن توسيع فضاءات الحرية والمساواة.
وبعدما ذكر بما تحقق من مكتسبات على كثير من المستوياتـ، لفت بنعبد الله إلى أن كل المكتسبات التي تحققت جاءت في مرحلة كانت تتميز بوحدة صف القوى الوطنية والديمقراطية التي كانت تتآزر فيما بينها وتحمل مشروع وتجد نقط الالتقاء حول قضايا أساسية، داعيا إلى العودة إلى ذلك وتوحيد المواقف وتكتل اليسار.
هذا التكتل، أوضح بنعبد الله أن الغاية منه هو وجوب النضال المشترك والموحد من أجل توسيع الحريات الفردية والجماعية باعتبارها مبادئ وقيما يتعين على اليسار أن يأخذها بقوة وأن يكون له مواقف قوية ومشتركة كما هو الحال بالنسبة للقوانين التي يجري النقاش بشأنها كالقانون الجنائي وإعادة النظر في مدونة الأسرة، حقوق الإنسان، وكل ما يتعلق بهذه الجوانب.
كذلك، أورد زعيم حزب “الكتاب” أنه يتعين أن يتم الدفاع عن مشروع انتخابي ومدونة انتخابية قبل الذهاب لانتخابات 2026 لتكون مغايرة تماما وتحارب كل مصادر الفساد واستعمال المال وتتيح الإمكانية لإفراز طاقات حقيقية قادرة على تدبير شؤون البلاد من الجماعة إلى الحكومة مرورا بالبرلمان.
وشدد بنعبد الله أن عودة اليسار ضرورة لتقوية العمل السياسي وتعزيز المشهد الوطني ومن أجل الدفاع عن مشروع اقتصادي متجدد مع دولة مبادرة ودولة منظمة تلعب دورها بشكل أساسي في قيادة المشروع الاقتصادي إلى جانب دعم القطاع الخصوصي ودعم المقاولة المغربية المواطنة والقادرة على إحداث شروط التنافس الشريف وعلى إحداث فضاء جديد لشفافية المعاملات في المجال الاقتصادي والنضال الحقيقي ضد الفساد والرشوة والريع، مشيرا إلى أن هذه الأمور هي التي جرى تضمينها في وثيقة النموذج التنموي الجديد لكن لم يجري بلورتها، مشيرا إلى أن اليسار يتحمل جزءا من المسؤولية لأن حضوره في حمل هذه الشعارات تراجع.
وزاد بنعبد الله على أن الحل يكمن في إعادة هذا الوهج وعودة اليسار للاضطلاع بدوره والدفاع عن شعاراته وتوجهاته وأن يعيد النظر في علاقته بالمقاولة، وفي علاقاته مع كثير من الفضاءات التي يستوجب عليه اقتحامها بما فيها الحراكات الاجتماعية والتواجد في قلب المجتمع.
واعتبر المتحدث أنه من غير الممكن لليسار أن يقبل اليوم بأن يأتي البعض للسطو على شعاراته وعلى مطلب العدالة الاجتماعية وأن يتفرج على هذا الأمر، داعيا إلى حمل هذا الشعار قولا وفعلا وأن يعود اليسار لحمل شعار الدفاع عن المدرسة العمومية ذات الجودة وتساوي الحظوظ، وشعار المستشفى العمومي القوي وضمان الولوج إلى العلاج وقضايا أخرى أساسية.
كما لفت المتحدث إلى ضرورة أن يعود اليسار إلى الفضاء الثقافي وفضاء المثقفين، وأن يخلق مصالحة مع هذه الفئات، مشيرا إلى أن اليسار المغربي بمختلف تلويناته وتعبيراته كان هو التعبير الفكري والتعبير الموجود في الحقل الجامعي وعند الشعراء والمثقفين.
في هذا الصدد، توقف بنعبد الله عند المشاكل التي طرحها فراغ الأحزاب اليسارية من المثقفين والمفكرين، والذي نتج عنه أزمة حقيقية بالنسبة للإنتاج الفكري وبالنسبة للمفاهيم والمواقف، وأدى إلى ظهور ما وصفه بمشاهد رداءة حقيقية.
ولحل هذا المشكل يرى بنعبد الله على اليسار ومكوناته مطالب بأن ينتج وسائل عمل جديدة ووسائل تفكير جديدة مع الأوساط المثقفة من أجل إعطاء دفعة للإنتاج الفكري ولعمل المثقفين، وأن يعود بشكل فعال للفضاء الجامعي كما كان في السابق، حاضرا وسط الطلاب والأساتذة.
وإلى جانب الفضاء الجامعي، دعا الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية إلى انغماس اليسار بقوة في فضاء التربية الذي كان في وقت من الأوقات فضاء نشيطا ويشكل قاعدة كبيرة للأحزاب اليسارية، فضلا عن الانغماس والتوجه إلى كل الفضاءات المهنية والحرفية التي كان فيها اليسار فاعلا كذلك في مراحل سابقة.
بنعبد الله دعا أيضا إلى ضرورة تواجد اليسار واقتحامه للفضاء الديني، مبرزا أن المقاربة التي اشتغل بها اليسار في هذا الجانب هو التصدي عنه أو تركه، معتبرا أن الصواب اليوم هو التواجد ضمن هذه الفضاءات الهامة وملء الساحة والالتحام بالمجتمع في مختلف الفضاءات والمواقع، بما في ذلك تأكيده على ضرورة اقتحام عالم التواصل وعالم المواقع “لكون هذه الفضاءات أصبحت ساحة أساسية للتعبير وساحة للتأطير والتنظيم، وعلى اليسار أن يقتحمها بأشكال نضالية جديدة”، يقول المتحدث.
إلى ذلك، خلص زعيم حزب التقدم والاشتراكية أنه بدون التأثير بشكل أساسي في الأجيال الحالية والصاعدة من شباب وطلبة من أجل إعطاء شعلة ودفعة جديدة سيصعب أن يصل اليسار إلى نتيجة، حيث دعا اليسار ومكوناته إلى الاستيقاظ وتقوية الحضور من أجل مصلحة البلاد والوطن والشعب ومن أجل مصلحة اليسار بحد ذاته ومن أجل المثل العليا التي يناشدها دائما ويدافع عنها.

عبد الأحد الفاسي: على اليسار المغربي أن يكون قادرا على التجديد من أجل التأقلم مع التطورات المتسارعة في العالم المعاصر

وعبر عبد الأحد الفاسي الفهري، عضو المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية، ورئيس الجامعة السنوية، عن انشغال حزبه بالاحتقان الموجود اليوم في حقل التربية الوطنية والتعليم، داعيا الجميع إلى تجاوز حالة الاحتقان، من خلال الاستجابة لمطالب الشغيلة التعليمية التي وصفها بـ “المشروعة”، لأن ذلك في نظره، يعد المدخل الأساسي لأي مقاربة إصلاحية.
وفي الوقت ذاته، دعا رئيس الجامعة السنوية لحزب التقدم والاشتراكية، حكومة عزيز أخنوش إلى تحمل مسؤولياتها في اتجاه تجاوز هذا الاحتقان، مؤكدا على ضرورة الحوار المسؤول لإيجاد، وبشكل سريع، الحلول التي تمكن من تجنب توقف طويل للدراسة، بالنظر لما لذلك من تبعات وخيمة على التلاميذ وعلى المجتمع بصفة عامة.
وبحسب عبد الأحد الفاسي الفهري، فإن تخليد الذكرى الثمانون لتأسيس حزب التقدم والاشتراكية، هي أيضا مناسبة للوقوف عند بعض المراحل الأساسية من تاريخ حزب التقدم والاشتراكية ليس فقط، لتمجيد الماضي، ولكن من أجل استشراف المستقبل، ومن أجل أيضا مساءلة مستقبل الحزب، والبحث عن الشروط التي من شأنها ضمان استمراريته، مشيرا إلى أن هذه الاستمرارية ليست هدفا في حد ذاتها، وإنما الهدف هو دعم النضال والوقوف إلى جانب الشعب الكادح بمعية القوى التقدمية الأخرى.
وأوضح القيادي الحزبي، أنه من الطبيعي توسيع النقاش والحوار حول موضوع هذه الجامعة، ليمتد إلى كل مكونات اليسار المغربي الذي يعتبر العائلة الطبيعية لحزب التقدم والاشتراكية، وهو يتقاسم معها نضالات وقيم مشتركة، مما يحيل، في نظره، على حتمية المستقبل المشترك لكل عائلة اليسار المغربي، الذي عليه أن يبقى وفيا لذاته ومخلصا لمبادئه وقيمه، وفي نفس الوقت قادرا على التجديد من أجل التأقلم مع التطورات المتسارعة في العالم المعاصر.
وأعاد عبد الأحد الفاسي الفهري، طرح السؤال الذي كان مطروحا منذ سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وهو مدى مطابقة أفكار اليسار مع الحضارة العربية والإسلامية، وهو نفس السؤال الذي طرح من خلال كتابات عبد الله العروي وسمير أمين، وإدوار سعيد وأنور عبد المالك، وعزيز بلال وغيرهم من الكتاب والمفكرين، مشيرا إلى أن نفس السؤال لايزال مطروحا، اليوم، ولكن بشكل مغاير.
وفي سياق متصل، تساءل عبد الأحد الفاسي الفهري، عن كيفية مقاربة مستقبل اليسار في سياق يتميز بأزمة السياسي، وهي الأزمة التي قال “إنها تتجلى في انعدام الثقة في المؤسسات، وخاصة المؤسسات الحزبية” وهو السياق أيضا، الذي لم يعد فيه الفاعل السياسي هو الفاعل الرئيسي في الحقل السياسي، هو سياق يتميز بظهور أشكال جديدة للتعبير عن المطالب.
وفي نظر رئيس الجامعة السنوية، فإن هذا السياق يتميز أيضا، بتراجع أحزاب اليسار في العالم بصفة عامة، مع بعض الاستثناءات في أوروبا وأمريكا اللاتينية، وأن هذا التراجع يقول عبد الأحد “هو لفائدة أحزاب ليبرالية ويمينية، ويمينية متطرفة خاصة في أوروبا، ولفائدة أحزاب هوياتية أو لها مرجعية دينية”، مبرزا في الوقت ذاته، أن المفارقة هي أن الأفكار والمفاهيم التي يحملها اليسار، كمفاهيم دور الدولة، وأهمية المرفق العمومي، والعدالة الاجتماعية، والدولة الاجتماعية، والتخطيط الأيكلوجي، هي الأكثر تأهيلا لمواجهة الأزمات الناتجة عن الرأسمالية المعولمة والجائحات والاختلالات الأيكولوجية.
كما تساءل عبد الأحد الفاسي الفهري، حول ما إذا كانت المشاركة في الانتخابات بهدف التأثير على القرار، وتطوير المؤسسات من الداخل، قد أدت باليسار إلى تبني مقاربة انتخابوية ضيقة؟ أو ما إذا كانت قد أدت في بعض الأحيان إلى تغليب التكتيكي على حساب ما هو استراتيجي؟ وحول ما إذا كانت المساهمة في الحكومة، بشكل مطول، وضمن ائتلافات عريضة، قد أدت إلى نوع من الضبابية الأيديولوجية، والبراغماتية التدبيرية، التي يطغى عليها الطابع التكنوقراطي؟ ألم يؤدي ذلك، بحسب المتدخل، إلى إهمال المعركة الأيديولوجية، التي لا ينبغي أن تكون فيها هدنة، لأن هذه المعركة تتعلق بالأهداف الكبرى للمشروع المجتمعي لكل القوى السياسية؟.

إلى ذلك، تساءل رئيس الجامعة السنوية، عن كيفية تعزيز التواجد الجماهيري لليسار، وفي الوقت ذاته، عن كيفية إعادة تعزيز تجدره الثقافي في مجتمع مازالت تتجاذبه تيارات محافظة عميقة، وذلك بهدف توجيهه وتطويره في اتجاه القيم الكونية للتقدم والعدالة والحقوق الإنسانية والمساواة؟، وما هو السبيل لاعتماد قراءات وتأويلات متنورة للنصوص والمراجع الدينية أثناء النقاشات المجتمعية الكبرى التي تهم قضايا المساواة والحقوق الإنسانية؟

الجامعة السنوية الجلسة الثانية

وبالموازاة مع كل ذلك، لم يغفل عبد الأحد الفاسي الفهري، إشكالية التنظيم الداخلي لأحزاب اليسار، وسبل تعزيز مناهج العمل من أجل تقوية الديمقراطية الداخلية والرفع من مصداقية هذه الأحزاب في علاقتها بالمجتمع؟ بالإضافة إلى حديثة عن ماهية السبل الكفيلة بتطوير فكرة توحيد اليسار وتقوية تأثيره على مجريات الأحداث ليصبح قوة جارفة تتجسد في حركة اجتماعية ومواطنة واسعة تساعد على فتح آفاق سياسية رحبة أمام مشروع مجتمع العدالة والتقدم؟.

علي بوعبيد: الحاجة ماسة إلى أن يتملك الشباب مبادئ وهوية اليسار المغربي

وحول سبل تجديد اليسار، محور الجلسة الثانية التي أدارها عزوز الصنهاجي عضو المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية، وكان مقررها سعيد الفكاك، عضو المكتب السياسي للحزب، أكد علي بوعبيد المندوب العام لمؤسسة عبد الرحيم بوعيد، أنه لا يمكن الحديث عن تجديد اليسار دون الوفاء إلى التاريخ، إلى تراث الحركة الوطنية التقدمية وعطائها المتميز، في المجالات الفكرية والسياسية، والنضالية، مشيرا إلى أن هذا العطاء يبقى فريدا من نوعه في العالمين العربي والإسلامي.
وتساءل علي بوعبيد حول إمكانية معالجة موضوع تجديد اليسار، وكأن المغرب يعيش ديمقراطية كاملة، وأن المطلوب، فقط، هو بلورة عرض سياسي يتماشى مع التطورات الاقتصادية والمجتمعية على شكل تقديم اقتراحات والتزامات تستجيب لتطلعات الفئات الاجتماعية المستهدفة؟، وبعبارة أدق، يتساءل بوعبيد هل حقق المغرب ما يكفي من المكتسبات لتحصين المسلسل الديمقراطي، ولم يبق سوى الاهتمام بكسب ثقة المواطنين من خلال محتوى عرض انتخابي جذاب؟ أم أنه يمكن اعتبار ما يصطلح عليه بالمكتسبات المؤسساتية، هش وأحيانا شكلي؟ وبالتالي فقواعد اللعبة السياسية والمؤسساتية لم تكتمل بعد، بل لم ترق إلى الحد الأدنى المطلوب، إن لم تعرف انتكاسة في السنوات الأخيرة؟
ومن هذا المنطلق، يقول المندوب العام لمؤسسة عبد الرحيم بوعبيد “فإن النقاش حول قواعد اللعبة يظل جزء لا يتجزأ من الخط السياسي والنضالي للأحزاب التقدمية”، مؤكدا على أن اليسار بات اليوم، مطالبا بتحيين المعادلة السياسية التي ينطوي عليها سؤال التجديد، أي يضيف المتحدث، تفكيك الخيط الناظم بين الحاضر والمستقبل، وفق معطيات الحاضر والنسق السياسي الذي نعيش فيه، وأن عملية التحيين تعني في نظره، استحضار المعنى العميق لثوابت اليسار من جهة، والمتغيرات من جهة أخرى.
ويبقى الثابت الأول الذي يتعين استحضاره، بحسب علي بوعبيد، هو الافتخار بمصدر الهوية السياسية لليسار والتي يستمدها من الماضي النضالي المليء بالتضحيات والعطاء في خدمة الشعب والوطن، من الكفاح من أجل الاستقلال إلى النضال من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان، مشيرا إلى أن هذا المعطى هو أساسي وجوهري، على اعتبار أنه يشكل نقطة تمايز بين الدكاكين الانتخابية التي لا استقلالية لها لأنها لا تستمد شرعيتها من نضال متجدر في المجتمع.
وأوضح المندوب العام لمؤسسة عبد الرحيم بوعبيد، أن استحضار هذا الثابت، اليوم، ليس من باب الحنين إلى الماضي، أو إلى ذاكرة سردية فقط، بل من باب ما يولده هذا الثابت وما يفرضه من واجبات على اليسار في تعاطيه مع الشأن السياسي.
فيما حدد الثابت الثاني، في القدرة الفائقة لليسار، والتي أبان عنها في جميع المحطات التاريخية، والمتمثلة في تغليب المصلحة العامة للبلاد على المصالح والطموحات الشخصية، مشيرا إلى أن تاريخ الأحزاب اليسارية والتقدمية هو بمثابة شهادة حية للقدرة على نهج سلوكات فردية، وجماعية، تجسد هذا التوجه الذي من دونه كان اليسار سيقبل المشاركة في المسرحية السياسية التي اقترحت عليه منذ أربعين سنة.
الثابت الثالث الذي يؤطر هوية اليسار، يضيف بوعبيد هو أن الانتماء إلى اليسار، قبل أن يكون فكرة نظرية، هو سلوك اتجاه الفاعل المركزي في المشهد السياسي، أي المؤسسة الملكية، وهو السلوك الذي يعتبر أن واجب الاحترام والتقدير للوضع الاعتباري والرمزي والفعلي لهذه المؤسسة، يقول المتحدث “هو الذي يحتم وضع مسافة ضرورية بين الأطراف، لتغليب منطق المؤسسات، على منطق الأفراد” وهي المسافة التي توفر، بحسبه، شروط الاستقلالية، أي القدرة على المبادرة بشكل مستقل.
وانطلاقا من ذلك، يرى علي بوعبيد أن اليسار فرط بشكل كبير في تلك الثوابت، وفيما يترتب عنها من سلوكيات ومواقف، وهو ما أدى إلى فقدان القدرة على التمايز، مشيرا إلى أن السبب في ذلك هوة أن اليسار لم يتحل باليقظة المطلوبة، على اعتبار أن المشاركة في تدبير الشأن العام أو المحلي ما هو إلا استمرار لعمل نضالي، وهو استمرار لمعركة، من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، بوسائل أخرى، ومن موقع آخر، لأن تولي مسؤولية تدبير الشأن العام، كان في نظره، يفرض التحلي بنفس الروح التي كان يتحلى بها عندما كان في المعارضة.
وحول سبل تجديد اليسار، أكد علي بوعبيد على ضرورة استحضار حجم التحولات السوسيوثقافية والديمغرافية في بلادنا، في ظل تطور دمقرطة المجال الرقمي الذي أصبح في نفس الوقت مصدرا للمعرفة، ومصدرا للتضبيع في نفس الوقت، بالإضافة إلى استحضار تنامي المنطق النيوليبرالي النفعي، الذي لا يمكن اختزاله في الاختيارات الاقتصادية، بل أيضا لكونه اجتاح وبشكل ملفت عقول الخاصة والعامة بما فيهم الطبقة السياسية.
ويبقى المتغير الثالث في نظر بوعبيد هو أزمة الديمقراطية كمفهوم، وكنظام والأسئلة التي تطرحها، وأيضا التراجع النسبي لنفوذ الدول الغربية التي لم تعد لها المكانة المرجعية التي كانت تحظى بها، وباتت عاجزة عن تجسيد المبادئ والقيم والمرجعيات الكونية، فيما حدد المتغير الرابع، في الضغوطات الممارسة على الطبقة الوسطى بسبب العتبة التي حددتها الحكومة في الاستفادة من الدعم المباشر.
وذكر المندوب العام لمؤسسة عبد الرحيم بوعبيد، أن أهم شيم الممارسة الديمقراطية الراقية، هو الاعتراف بالخطأ، سواء تعلق الأمر بالحاكمين أو بالمنظمات أو بالأشخاص، لأن الاعتراف بالخطأ في نظره، يتيح التصحيح، والتقدم، وأن عدم الاعتراف بالخطأ هو من مواصفات الأنظمة الاستبدادية. مؤكدا على الحاجة إلى راوية جديدة، وإعادة تسويقها بشكل مبسط وسط الشباب حتى يتملك مبادئ وهوية اليسار المغربي.

زكريا كارتي: أحزاب اليسار مدعوة إلى التجديد الأيديولوجي والفكري ولو كان ذلك على حساب المقاعد والأرقام الانتخابية

من جانبه، تحدث الفاعل الجمعوي والمحلل الاقتصادي والمالي، زكريا كارتي، عن الديمقراطية الزبائنية، كما وردت عند فرنسيس فوكوياما، والذي حدد تطور النظام السياسي في ثلاث مراحل، وهي مرحلة بناء الدولة، واحتكار مفهوم العنف المشروع، ثم مرحلة دولة الحق والقانون وصولا إلى مرحلة الديمقراطية التمثلية، ليخلص من ذلك إلى أن الديمقراطية في غياب دولة القانون هي ديمقراطية زبائنية، أي أن المواطنين يختارون في الانتخابات من يخدم مصالحهم، وهو ما يعني في نظره، أنها ديمقراطية مصالح.
وأضاف المحلل الاقتصادي والمالي، أن من يملك التصور والأفكار، من الصعب أن يفوز اليوم، في الانتخابات، سواء محلية أو برلمانية، وبالتالي يضيف المتحدث، فإن المسار الجديد اليوم في السياسي، يفرض الاختيار بين كسب مقاعد انتخابية، وبين تملك المواقف والأفكار السياسية.
وفي السياق ذاته، دعا كارتي أحزاب اليسار إلى التركيز خلال السنوات المقبلة على بناء المواقف والتصورات السياسية، وعلى التجديد الأيديولوجي والفكري، ولو كان ذلك على حساب المقاعد والأرقام الانتخابية، لأنه لا يمكن تحقيق الغايتين معا، مشيرا إلى أن ذلك من شأنه أن يساهم في بلورة أفكار جديدة، والتي تفرض، بحسبه، وجود خصم سياسي تواجهه، من أجل صياغة تموقع سياسي جديد.
ويرى زكريا كارتي، أن عدم الهدنة الأيديولوجية سيعيد لليسار توهجه ومصداقيته، مشيرا إلى أن ذلك مكلف انتخابيا وسياسيا، على اعتبار أن إعادة بناء المصداقية تحتاج إلى سنوات، وإلى الشجاعة، في المواقف الواضحة والقوية.
وبخصوص موضوع توحيد اليسار، أكد زكريا كارتي، على أن هذا الموضوع أصبح ذا أهمية، وأصبح هوسا، ربما، يكلف كثيرا من الوقت، وكثيرا من الجهد، وهو ما يحتم في نظره، إمكانية تواجد يسارات متعددة، تلتقي على قاعدة أرضيات نضالية محددة في أفق وحدة اليسار بشكل طبيعي، مشيرا إلى أن العديد من المواطنين لا يفهمون فكرة اليسار، عكس الفكرة التقدمية التي لها جمهور واسع في المغرب، ويمكن أن تكون فكرة التقدمية فكرة جاذبة عكس الفكرة اليسارية.

شرفات أفيلال: أزمة اليسار ليست أزمة فكر بقدر ما هي أزمة في آليات تصريف الفكر اليساري

من جانب آخر، دعت شرفات أفيلال عضو المكتب السياسي ورئيسة منتدى المناصفة والمساواة، إلى ضرورة الحفاظ على الموروث الحزبي اليساري والتقدمي، مع الحفاظ على توهجه، مشيرة إلى أن أعمار الأحزاب ليست هي أعمار المتحزبين.
وبحسب شرفات أفيلال، فإن أزمة اليسار ليست أزمة فكر أو أزمة هوية أو أيدويلوجية، بقدر ما هي أزمة في كيفية تصريف الفكر اليساري، لأن تاريخ أحزاب اليسار يحيلك على تجديد دائم في الفكر والممارسة، وكذا على مستوى أليات التصريف، بدء من مرحلة المواجهة حول السلطة في سبعينيات القرن الماضي، مرورا بمرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية، إلى النضال الديمقراطي من داخل المؤسسات وصولا إلى النفس الديمقراطي، وبالتالي تضيف المتحدثة، أ كان هناك، بشكل متواصل ومستمر، تجديد في الفكر بهدف التأقلم مع التطورات السياسية والمجتمعية.
في الوقت ذاته، أعربت القيادية السياسية عن أسفها، لخطاب اليسار الذي ظل متحجرا، بحيث لم يعد له إقبالا، ولم يعد يجد آليات تصريفه داخل المجتمع بمختلف روافده، سواء داخل الحركات الجماهيرية، أو وسط الطلاب والشباب، وفي نظرها، فإن أسباب هذا التراجع تعود لعوامل داخلية وأخرى خارجية، مشيرة، بهذا الخصوص إلى أن اليسار هو ضحية نفسه، بما أن تاريخه هو تاريخ ملئ بالانشقاقات والصراعات الداخلية، التي أدت إلى تفريخ أحزاب يسارية مجهرية كانت سببا في تراجع قوة اليسار وتراجع خطابه.
إلى ذلك، ذكرت أفيلال أن من بين عوامل التراجع الفكرة اليسارية، هي عملية السطو التي تعرض لها الخطاب اليساري من قبل الأحزاب اليمينية والليبرالية، والتي باتت تتغذي من مفاهيم وأفكار اليسار من قبيل العدالة الاجتماعية، والمساواة، والدولة الاجتماعية، وهي المفاهيم والأفكار التي كانت تعطي الريادة للأحزاب اليسارية.
ومن بين العوامل الداخلية التي أدت إلى تراجع أحزاب اليسار، قالت شرفات أفيلال “هناك عامل تغليب التكتيكي على الهدف الإستراتيجي، أي البحث عن التموقع الانتخابي والحصول على أصوات انتخابية دون الاكتراث، بمن سيمثل هذه الأحزاب داخل البرلمان، مما أفقدها القدرة على التأثير داخل هذه المؤسسات، وأفقدها القدرة على امتلاك طاقة بشرية قادرة على تصريف مواقف وخطاب وفكر وقيم اليسار ومشروعه المجتمعي.

محمد الأشعري: اليسار لم يكن يوما نهرا هادئا في تاريخ المغرب بل كان مجال صراعات واختلافات

في هذا السياق، ذكر محمد الأشعري الشاعر والوزير السابق بجيل المؤسسين ومن جاء من بعهدهم والذين رسخوا أفكار التقدم والحرية والمساواة في المغرب، معتبرا أن هؤلاء المؤسسين عاشوا مرحلتين من أقسى المراحل في المغرب، الأولى التي كانت خلال فترة الاستعمار والثانية التي حددها في مرحلة الاستبداد والنضال من أجل الديمقراطية.
وقال الأاشعري إن الجيل الأول من المؤسسين ومن جاء خلفهم من الجيل الثاني قدموا تضحيات تعد إلى حدود المرحلة الحالية من أهم التضحيات التي قُدمت في السجل السياسي للمغرب الحديث، معتبرا أنها تشكل منطلقا للنقاش ولا يمكن تجاوزها باعتبارها تضحيات مؤسسة وتشكل الفارق الأساسي الذي يجب الاحتكام إليه.
وبخصوص القطيعة مع المثقفين وغيابهم عن مكونات اليسار، لفت الاشعري إلى أن هناك عقدة أساسية تكمن في هذا الموضوع وهو أن اليسار المغربي خلق أزمة مع المثقفين لأنه لم يفتح لهم المجال بطريقة أفضل للاستماع إليهم ولم يراعي اختلافهم عن السياسي، موضحا أنه يطلب منهم التعبير عن مواقفهم وآرائهم في تبعية للسياسي وخلق نوع من التوافق مع السياسيين فيما الحال أن مهمتهم هي زعزعة اليقينيات وزرع نوع من الشك والتساؤل ونوع من التمرد على الأفكار الجاهزة والبديهية التي تساعد السياسي في عمله.
وذكر الأشعري بكون اليسار مرت عليه فترات كان فيها المثقفون قوة حقيقية داخل الأحزاب السياسية وداخل مكاتبها السياسية، مبرزا أن هذه المسألة أخذت في التراجع شيئا فشيئا، إلى أن تراجعت بشكل كلي تقريبا نتيجة التفكير السياسي الذي يحاصر المثقف.
ويرى الأشعري على مهام الأحزاب السياسية في علاقتها مع المثقفين يجب أن تعتمد على فهم هذا المثقف، مضيفا أن واحدة من المهام الأساسية لأحزاب اليسار تكمن في أن جعل فكرة اليسار ومستقبل اليسار ليس ملكا لليساريين فقط بل ملك كذلك للمفكرين والمثقفين والمبدعين والأدباء، وذلك للخروج من النفق الضيق وعدم اعتبار مسألة اليسار هي مسألة حزبية فحسب.
ودعا الوزير السابق إلى فتح ندوات ولقاءات مثل هذه الجامعة التي نظمها حزب التقدم والاشتراكية في وجه الأدباء والمفكرين ليشعروا أن هذا اليسار الذي ابتعد عنهم بشكل من الأشكال هو ملك لهم وملك لتجربتهم ويمكنهم مسائلته والتماهي معه.
وذكر الأشعري بمحطات كثيرة في مسار اليسار المغربي، حيث قال إنه كانت تمر سنوات وسنوات على اليسار المغربي ومناضليه ولم يكن مشكل الاسم مطروحا، أي سؤال “هل نحن يسار أو لسنا يسارا؟”.
وأردف المتحدث أن هذا المشكل جاء لاحقا لأن المهم حينها كان هو المضمون الذي يجري الاشتغال به، سواء في مرحلة الاستعمار والصراع من أجل الاستقلال الوطني، أو لاحقا في فترة النضال من أجل الحريات ومن أجل حقوق الإنسان وعدد من القضايا، مؤكدا على أن وهج اليسار هو العودة إلى ذلك ممارسة.
وشدد الأشعري على أنه لا يمكن أن يظل التفكير في اليسار كأنه خط متصل ومستقيم ولا يعرف هبوطا وصعودا، وليس فيه إشكالات وصراعات، مشيرا إلى أن اليسار لم يكن يوما نهرا هادئا في تاريخ المغرب بل كان مجال صراعات وانشقاقات واختلافات وكان أيضا مجالا للإبداعات السياسية.
ويؤكد الأشعري على أن جوهر المضمون التاريخي لليسار هو نوع من الانتصار للوطنية التي تغلب المصالح العليا على المصالح الفردية وكذا الدفاع عن المساواة والعدالة والدفاع عن ثقافة متعددة وعن احترام الخصوصيات الثقافية في البلد الواحد وعدم الخلط بين وحدة الأمة وإمكانيات تعددها، مردفا أن هذا الجوهر لم يكن يوزازيه في فترات تاريخية سابقة هاجس الاسم، قبل أن يتدخل، حسب تعبيره “القاموس” فيما بعد ضمن سياقات وطنية وعربية وعالمية جعلت هناك الانتماء لهذه العائلة الكبيرة التي تسمى اليسار.
وبعدما شخص تراجع اليسار ووضعيته، دعا الأشعري إلى أن عودة اليسار في مرحلة اليوم تحتاج إلى العودة إلى المضمون التاريخي، عوض العودة فقط للمقارنات بين فترات معينة، بين فترة قوة وبين فترة نعيشها والتي هي فترة ضعف والانحدار.
كما دعا الأشعري إلى التساؤل حول الربط الذي يتم بين التراجع اليساري في المرحلة الراهنة والتجربة التي أسس لها اليسار في السابق، مؤكدا على أن الأمر لا يتعلق بمحاولة لنقل ما جرى في الماضي لممارسة الحاضر، معتبرا أن هذه المقاربة تظل ضرورية لكنها يجب أن تكون لفهم الميكانيزمات التي تحكمت في هذه التجربة سواء في لحظة الصعود أو لحظة الانحدار.

نبيلة منيب: هناك حاجة إلى إعادة تجديد النخب وإلى ترسيخ الثقافة السياسية

من جانبها، قالت نبيلة منيب البرلمانية وعضوة المكتب السياسي لحزب الاشتراكي الموحد إن اليسار كان نشيطا وكان يضم خيرة الأطر والنخب قبل الاستقلال وبعده، وكان يعمل إلى جانب القوى الوطنية، كما لفتت إلى أن المغرب كان يعرف تواجد أكبر نخبة مثقفة ومسيسة كما وكيفا في محيطه المغاربي والعربي، وكان حزب الاستقلال يضم ما يزيد عن 2 مليون منخرط، وكانت جل الأحزاب تضم مثقفين من مختلف الفئات.
هذا الوضع دفع منيب إلى التساؤل “لماذا هزمنا؟”، قبل أن تردف “عوض الوقوف والقول إنه كانت هناك فرص ضائعة وتراجعات، من الواجب القيام والبحث عن الأسباب الحقيقية التي أدت إلى ذلك ولماذا كانت هناك هذه التراجعات”.
وتابعت المتحدثة “كنا كيساريين نحن الأقوى وفاوضنا من أجل عودة الملك إبان الاستقلال لككنا هزمنا في أول محطة”، مبرزة أن اليسار كان الأقوى في المنطقة المغاربية بنخبه لكنه تراجع بسبب ما يسمى بـ “الطاعة العمياء” أو “الموروث الثقافي”، موضحة أن هذا ما يشكل الخلل البنيوي الذي أدى إلى هذه التراجعات، حيث أن اليسار وبالرغم من إيمانه بالتقدم وبالضغط وإمكانية جبر الآخر على مباشرة الإصلاحات، لجأ إلى إرجاء الأمور إلى الموروث الثقافي وإلى موازين القوى والخوف من المس ببعض الأمور وما يسمى بالمقدسات وعدم الحديث عن أمور مهمة في فترات تاريخية منها الملكية البرلمانية.
وترى منيب أن الحل يكمن في إعادة تجديد النخب وإلى ترسيخ الثقافة السياسية، موضحة أن القيام بهذه الأمور ينطلق بتأسيس مراكز بحثية داخل الأحزاب السياسية، وتكثيف البحوث ومن ضمنها كتابات علمية حول تاريخ اليسار ووضع اليد على مكامن الخلل وكل التفاصيل حتى يتم التمكن من تجاوزها في المستقبل.
ونبهت منيب إلى مجموعة من المخاطر التي تواجه العمل السياسي في المغرب والعالم خصوصا أمام التنكر للديمقراطية الذي يقع في دول عديدة وجل العالم تقريبا الذي يقوده المركب المالي والعسكري والرقمي والذي تديره المؤسسات المالية، معتبرة أن هذا التوجه أدى إلى فقدان السيادة الوطنية وبعدها فقدان السيادة الشعبية كما جرى في دول عديدة ومن ضمنها فرنسا. محذرة من المخاطر التي يتعرض لها الفعل الديمقراطي ليس بالمغرب فقط وإنما على المستوى العالمي.
يوسف بلال: أولوية اليسار هي دمقرطة الدولة وتوسيع الفضاءات الديمقراطية
من جانبه، قال يوسف بلال الباحث والدبلوماسي بالأمم المتحدة إن تجديد الفكر اليساري ينطلق من مرتكزات أساسية أربعة وهي التي تحدد من اين ينطلق اليسار في مشروع تقرير الذات وتحقيق الاستقلال الذاتي والجماعي في المجالات الاقتصادية والاجتماعية أساسا.
وأضاف بلال أن هناك حاجة إلى برنامج سياسي ليس بالمعنى الانتخابي للكلمة بل بتوجه عملي وخارطة طريق توجه عمل اليسار في المستقبل القريب عبر التمكين الجماعي والاجتماعي الذي ينطلق من أربع مرتكزات.
أول مرتكز حدده الباحث والدبلوماسي بالأمم المتحدة في حوار وطني واسع يضم كل القوى المتجذرة حاضرا أو سابقا في المجتمع وكذلك القوى غير الراضية اليوم عن الوضع السياسي والمؤسساتي الحالي والتي تسعى إلى توسيع دائرتي الشرعية والمشروعية السياسية بقدرتها على الإنصات للطبقة المتوسطة والشعبية وترجمة هذه الانتظارات إلى تصور شامل واقتراحات عملية.
هذا الحوار الوطني قد يتميز بالقواعد التالية التي حددها بلال في أن يكون أفقيا أي أن يكون بين مكونات القوى السياسية والنقابية ومنظمات المجتمع المدني بغض النظر عن الملكية، أي أن يكون حوارا بين مكونات المجتمع المغربي يتجاوز التعبير عن الموقف من الملكية كيفما كان هذا الموقف مؤيدا أو منتقدا، مشيرا إلى أن القدرة على بناء مستقبل مشترك رهين ببناء فضاء سياسي مشترك لأن الملكية ليس ببداية أو نهاية السياسية والعمل السياسي بالمغرب.
وأردف المتحدث أن ما يدل على ذلك هو مرحلة الاستعمار التي كانت فيها الحركة الوطنية هي المحتضن لمشروع الاستقلال وحماية الوطن والتي أقرت أن الملكية هي جزء من هذا المشروع الوطني.
وزاد بلال “النقاش حول المغرب الذي نريده فرصة لمناقشة دور الملكية في المغرب بدون أحكام مسبقة ومواقف معينة، بل يجب أن تكون مخرجات هذا الحوار الوطني تأتي بتصور لدور الملكية في المغرب بإيجابيتها وسلبياتها وكيف يمكن توجيه الملكية والدفع بها إلى ما هو في مصلحة الوطن ومصلحة استمرار الملكية نفسها”.
وتابع الدبلوماسي في الأمم المتحدة “وهذا الحوار لا يجب أن يقتصر على اليسار بل حتى الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية والأحزاب الممتدة من الحركة الوطنية والفاعلين الليبراليين والنقابات ومنظمات المجتمع المدني”.
والمرتكز الثاني حدده بلال في مشروع سياسي مستقبلي وهو مشروع تمكين سياسي يقتضي دمقرطة المؤسسات القائمة عن طريق توسيع دائرة القرار السياسي الخاضعة للمسائلة والمحاسبة وهذا يحتاج، بحسبه، إلى تكتلات واسعة وهنا يجب تجاوز الانقسام بين الأحزاب التي قررت المشاركة في المؤسسات البرلمانية والحكومية من جهة ومن جهة أخرى الأحزاب التي تشغل خارج هياكل الحكومة أو حتى الدولة، معتبرا أن الأمر يرافقه شروط ومعايير للمشاركة.
في هذا الإطار، لفت المتحدث إلى أن اليسار مطالب بتجنب أخطاء تجربة عبد الرحمان اليوسفي التي قدمت نفسها على أنها تسعى إلى تحقيق الانتقال الديمقراطي دون تحديد حد أدنى لمؤشرات ومعايير النجاح التي من دونها تكون تجربة فاشلة وجب إنهائها أو إعادة النظر فيها.
ويرى بلال على أن التحول الديمقراطي ليس تحولا خطيا ومستقيما بل يحتاج إلى خطة خاصة بالأنظمة المزدوجة والهجينة كما هو الحال بالنسبة للنظام السياسي المغربي، الذي يعد مزيجا من مؤسسات وفضاءات ديمقراطية وأخرى سلطوية، معتبرا أن أولوية اليسار وكل من أراد أن يتحول معه، هي دمقرطة الدولة وتوسيع الفضاءات الديمقراطية داخل المؤسسات وإضعاف الممارسات الديمقراطية التي تربط بشكل عضوي القرارات بالمسائلة والمحاسبة.

رشيد روكبان: توهج اليسار يحتاج إلى وجود الإرادة السياسية القوية الجماعية والحقيقية

بدوره، قال رشيد روكبان الأستاذ الجامعي ورئيس مؤسسة علي يعتة وعضو المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية إنه لا يوجد اختلاف بشأن قراءة وتشخيص وضع اليسار في المرحلة الراهنة.
وأضاف روكبان أن هناك واقعا للضعف وأن مرحلة الراهنة تعرف يسارا متشتتا ويسارا ضعيفا، موضحا أن هذا الضعف يكمن في عدم قدرة أي مكون من مكونات اليسار في تبوء مركز الصدارة في المشهد السياسي المغربي أو في القدرة على قيادة اي تغيير منشود.
وأبرز ركبان أن اليسار أمام رهانان، الأول ويتعلق برهان تجاوز واقع التشتت والثاني تجاوز واقع الضعف، أي أن هناك رغبة وإرادة من أجل يكون اليسار متكتلا وأن يكون قويا في نفس الوقت، موضحا أن القصد من يسار متكتل لا يعني بالضرورة التكتل الحزبي الضيق بل يسار كفكرة.
ولبحث كسب هاذين الرهانين، طرح روكبان فكرة التوافق اليساري العريض من خلال قراءة في المعيقات ووضع الأصبع على مكامن الخلل والنقائص ثم شروط النهوض اليساري المطلوب.
الصعوبات والعوائق لفت المتحدث إلى أنها تتعلق بمعيقات ذات طابع موضوعي وأخرى ذات طابع ذاتي، وأخرى تتعلق ببعد عالمي ومعيقات أخرى ذات بعد وطني، مشيرا إلى أن من ضمنها ثقل إرث التجارب الاشتراكية الفاشلة وانهيار المنظومة الاشتراكية وما خلفته من تأثير نفسي على أحزاب اليسار ومناضليه وعلى سائر الشعوب.
أيضا، لفت روكبان إلى تراجع إشعاع الحركات العمالية بمختلف أشكال تعبيراتها، حتى وإن حققت بعض المكاسب الاجتماعية، مبرزا أنها لم تعد بنفس القوة، خصوصا بعد استغلال الرأسمالية لخطاب اليسار وشعاراته وأفكاره للمحافظة على استمراريتها وتواجدها.
ومن ضمن المعيقات التي أدت إلى أزمة اليسار وتراجعه، طرح روكبان مشكل تنامي وتصاعد المد اليميني المتطرف والتيارات الشعبوية والفوضوية التي أدت عالميا إلى انكماش وتراجع الأحزاب السياسية اليسارية.
وعلى الصعيد الوطني، قال روكبان إن أول معيق هو العزوف على العمل الحزبي والمشاركة السياسية الذي أضر كثيرا بقوى اليسار المغربي لأن الأصوات التي يمكن أن تحدث الفارق هي الأصوات المدعمة لقوى هذا اليسار.
وإلى جانب العزوف، يقول عضو المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية، إن من ضمن المعيقات الوطنية لليسار هو وجود توجه يرى بأولوية التنمية على الديمقراطية وسؤال جدلية التنمية والديمقراطية.
وزاد المتحدث “هذا التوجه لا يقول فقط بتغليب التنمية على الديمقراطية بل يذهب إلى حد الاكتفاء التنمية مقابل إلغاء الديمقراطية، وهو موقف سلبي من الديمقراطية”، مشيرا إلى أن ذلك في ظل دستور 2011، وفي ظل اعتبار أن الاختيار الديمقراطي كثابت من ثوابت الأمة الجامعة.
وأوضح روكبان أن إلغاء الديمقراطية يعني إلغاء الأحزاب السياسية وإلغاء الانتخابات ودوراتها، وبالتالي موقف سلبي مباشر بالأساس من أحزاب اليسار ومن صعود محتمل لها كي لا تشكل في المستقبل قوة تؤثر وتخلخل موازن القوى بالشكل الذي لا يخدم مصالح هذا التوجه المذكور الذي يعطي الأولوية للتنمية على حساب الديمقراطية.
وذهب المتحدث بالقول “إننا اليوم أمام أزمة ثقة في أحزاب اليسار التي تشغل من داخل المؤسسات في إطار الدستور وثوابت الأمة الجامعة”، مضيفا أن هذه الأحزاب تجد نفسها مطالبة بالدفاع عن نفسها وتبرير مواقفها.
ويرى المتحدث أن هناك واقعا لإضعاف اليسار من قبل التوجه الأول، تنضاف عليها معيقات ذاتية نابعة من الذات الجماعية لأحزاب اليسار والتي من ابرزها الاعتقاد بامتلاك الحقيقة، ونوع من التعالي الفكري والسياسي والفوقية الفكرية، بالإضافة إلى تضخم الأنا الحزبي لكل المكونات الحزبية اليسارية.
ودعا روكبان إلى الخروج من هذه القوقعة ومن هذه المعيقات لاسيما التعالي الفكري والتعالي السياسي وتضخم الأنا الحزبية وعدم اجترار الخطاب الذي استهلك من قبل المكونات اليسارية وتغيير المقاربات التي تنطلق من نوع من التحجر والجمود الفكري والتعصب والتمسك بالقوالب الجاهزة.
كما لفت روكبان إلى وجود التنافر بين أحزاب اليسار والذي قال إنه ليس تنافرا بين الهيئات والأحزاب بعينها بل تنافر بين أشخاص وأفراد، معتبرا أن هذا الأمر يلقي بضلاله على واقع التشتت الذي يعاني منه اليسار المغربي.
ويرى روكبان أن من شروط عودة اليسار وتجاوز هذه المعيقات ليس فقط تكتل اليسار ووحدته كما يقول بذلك البعض بل من خلال استحضار هذه المعيقات وإيجاد السبل الكفيلة للتعامل معها وتجاوزها.
كما قال روكبان إن توهج اليسار يحتاج إلى وجود الإرادة السياسية القوية الجماعية والحقيقية لتجاوز المعيقات الذاتية، والعمل على استحضار مجموعة من المؤشرات الإيجابية والاستفادة من بعض التجارب الناجحة لليسار بتعبيراته الجديدة في بعض البلدان.
روكبان دعا إلى التشبث بالأمل وتقديم البديل لما يجري في العالم عموما والمغرب خصوصا، ما يتعلق بالعدالة الاجتماعية وما يجري من متغيرات على هذا المستوى في ظل غلاء الأسعار وارتفاع التكاليف وغيرها من الأمور التي تحتاج اليوم إلى بديل، وهو ما يستطيع اليسار أن يقدمه في هذا الصدد.
وعلى المستوى الداخلي والحزبي، دعا روكبان إلى الاعتماد على مقاربات ناجحة للاضطلاع بدور تأطيري حقيقي للمواطنات والمواطنين والتوفر على آليات ملائمة ومواكبة لمتطلبات العصر واستقطاب الطاقات الجديدة والاهتمام بتكوين المناضلات والمناضلين والشباب، وصون الهوية السياسية لليسار والتمسك بالمنطلقات الفكرية والقيم والمبادئ وحماية الهوية اليسارية والاشتراكية.

< محمد حجيوي
< محمد توفيق أمزيان
< تصوير: رضوان موسى

Top