في بدايات ستينيات القرن الماضي، كانت بلادنا ما تزال تتلمس طريقها كدولة حديثة العهد بالاستقلال وبالممارسة البرلمانية بعد إقرار أول دستور في 1962 وتنصيصه على تشكل برلمان بغرفتين، مجلس النواب ومجلس المستشارين.
في تلك الفترة أيضا، كان الحزب الشيوعي المغربي ما يزال يعيش على إيقاع الحظر، وكان زعيمه علي يعته يعيش بدوره، مع رفاقه في الحزب، حياة القمع من قبل السلطات والمضايقات والاعتقالات والمحاكمات، ولكن ذلك لم يقعده عن النضال ولم يثنه عن اتخاذ المواقف الجريئة التي عرف بها شخصيا وعرف بها الحزب منذ نشأته.
في تلك المرحلة أيضا، كان من الطبيعي ألا تحتل قضية المرأة ومكانتها في المجتمع إلا موقعا ثانويا في المشهد السياسي الذي شرع بالكاد في تأثيثه. وعلى الرغم من الاعتراف بدور المرأة في الكفاح الوطني من أجل استقلال البلاد، إلا أن حضورها في العمل السياسي كان ما يزال غير مستساغ، خاصة في ظل الصراعات السياسية الطاحنة التي عرفتها الساحة خلال السنوات التي تلت مباشرة حصول المغرب على استقلاله.
لكن من المثير أن الحزب الشيوعي المغربي، وزعيمه علي يعته، سيعبران في تلك المرحلة المبكرة عن وعي متيقظ بأهمية استحضار دور المرأة في الحياة السياسية والاجتماعية. وظهر هذا الوعي واضحا حتى عند اتخاذ الحزب لموقف مقاطعة الاستفتاء على أول دستور مغربي، دستور 1962، حيث نص نداء المقاطعة – الذي كان مليئا بالإشارات إلى قناعة الحزب بضرورة إقرار دستور «يساهم في إرساء دولة الديمقراطية ويرفع إرادة الشعب ومطامحه» فوق مصالح المعمرين الأجانب والإقطاعيين والبورجوازيين، كما جاء في النداء- (نص) على رفض الحزب لمشروع دستور «لا يخدم المشروع الديمقراطي»، فـ «في نظام ديمقراطي، الشعب هو مصدر كل السلطات، سلطات يمارسها مجلس منتخب بالاقتراع العام، وهذا المجلس يمارس مجموع السلطة التشريعية وتطبق مقرراته حكومة يقلدها السلطة التنفيذية والقانونية». وفي نفس الاتجاه، دعا الحزب إلى رفض مشروع دستور «يعلن سيادة الأمة بينما يضع الملك فوق الأمة.. إنه يعلن الديمقراطية ولكنه يخول للملك حق تعطيل جميع الحريات بصفة استبدادية ودون استشارة البرلمان، أما حقوق المرأة فلا يعترف بها إلا في الميدان السياسي دون الميدان الاجتماعي والمدني، الشيء الذي يبقي اللامساواة سافرة بين الرجل والمرأة».
إنها إشارة سريعة لإشكالية المساواة بين المرأة والرجل في جميع الميادين، لكنها إشارة لا تخلو من دلالات عن مدى الأهمية التي أعطاها الحزب للمرأة في هذه اللحظة الحرجة من تاريخ البلاد، حيث جعل المساواة الاجتماعية والمدنية بين المرأة والرجل واحدة من أسس مكافحة الاستبداد وتكريس دولة المؤسسات والحقوق والحريات.
بعد أن تم إقرار الدستور، أُعلن عن تنظيم أول انتخابات تشريعية في سنة 1963. ورغم أن الإطار العام لم يكن ليلزم الحزب بجعل قضايا النساء محور اهتمامه خلال هذه المحطة التاريخية، خاصة أن الحزب كان يعيش فترة منع كما قلنا، إلا أن الزعيم علي يعته أبى إلا أن يترك بصمته المميزة للتاريخ هنا أيضا، معلنا عن منهجيته الاستباقية وعن فلسفة الحزب المجتمعية التي ظل وفيا لها طيلة مساره لاحقا.
ظهر ذلك واضحا من خلال منشور حصلت بيان اليوم على نسخة منه، يعود إلى الحملة الانتخابية لاستحقاق 17 ماي 1963. لم يكن منشورا انتخابيا عاديا، بل هو نداء موجه إلى النساء المغربيات حصريا، من أجل التصويت على مرشح الحزب المحظور آنذاك، علي يعته، الذي اكتفى بالتقدم لهذه الانتخابات كمرشح تقدمي وبصفته مديرا لجريدة «المكافح» آنذاك.
اختار يعته أن يتوجه إلى النساء المغربيات تأكيدا على استقلاليتهن في حرية اختيار ممثليهن في مجلس النواب، وعلى «دورهن ومسؤوليتهن في هذه المعركة الانتخابية».
ولم يفت علي يعته أن يعبر عن تقديره لنضالات النساء وكفاحهن ضد الاستعمار في أيام المقاومة، حيث «برهن عن تضحيات جسيمة من أجل تحرير البلاد والشعب المغربي»، وهذا ما سيجعلهن، كما يقول المنشور، «يعطين صوتهن للمناضل الشعبي علي يعته الذي قضى عشر سنوات في السجن والمنفى وكرس حياته كلها لمحاربة الاستعمار والإقطاعية، وللدفاع عن مصالح المواطنين والمواطنات». وفي هذه المقابلة، تأكيد ضمني على القناعة بالمساواة بين الرجل والمرأة في النضال من أجل التحرر، وكذا عن دور رفيقة الكفاح في معركة الاستقلال التي لا يقل دورها أهمية عن دور أخيها الرجل.واحتراما للناخبات دائما وتأكيدا على استقلالية إرادتهن وقرارهن الانتخابي، لا يختفي المرشح التقدمي وراء خطاب خشبي يعزف به على أوتار المساواة ويداعب به مسامع الناخبات، بل يتقدم أمامهن ببرنامج انتخابي «مخصص» لقضاياهن وانشغالاتهن، من أجل «إقامة نظام ديمقراطي حقيقي وعدالة اجتماعية»، متعهدا ليس فقط بالعمل من أجل استكمال استقلال البلاد وتحرير الاقتصاد من أيدي الاستعمار والإقطاع، بل كذلك بالعمل على تحقيق المطالب الخاصة للنساء، وعلى رأسها تحقيق مساواة المرأة مع الرجل وتحسين وضعيتها الاجتماعية والعائلية، ومحاربة كل «عنصرية» (ربما هنا بمعنى التمييز على أساس النوع)، ومحاربة الأمية المنتشرة في أوساط النساء وتنويرهن وتكوينهن، وضمان حقهن في المعالجة الطبية المجانية، وتعميم التعليم لفائدة أطفالهن.
وبالإضافة إلى هذه الحقوق الأساسية، لم يغفل المنشور الانتخابي التأكيد على الالتزام كذلك بالدفاع عن عدد من الحقوق الاقتصادية من قبيل ضمان الحق في التكوين المهني والشغل، ورفع أجرة المرأة وتعادلها مع أجرة الرجل، وتوسيع الضمان الاجتماعي، وتخفيض ساعات العمل، والاستفادة من عطلة الولادة.
ويختم على يعته نداءه إلى المغربيات من أجل التصويت عليه بإشارة أخرى تؤكد على قناعته بالأهمية الحيوية لدور المرأة في المجتمع، من خلال تأكيده على أن تحقيق برنامجه الانتخابي يرمي إلى تحرير المرأة المغربية ومعها «المجتمع المغربي قاطبة».
إن القارئ لهذا المنشور الانتخابي، بعد أزيد من 54 سنة على صدوره، لا يمكنه إلا أن يندهش للطبيعة الاستباقية لهذا البرنامج الانتخابي في وقت كانت قضية المرأة، سواء ببلادنا أو حتى على مستوى العالم ماتزال، بعيدة عن ذلك الزخم الفكري والنضالي الذي لن تعرفه سوى لاحقا في سنوات السبعينيات، وخاصة بعد إقرار الأمم المتحدة للسنة الدولية للمرأة في 1975.
من جانب آخر، يكتسي الأمر بعض الطرافة المرة عندما نلاحظ أن القضايا التي يطرحها سي علي في منشوره الانتخابي لاستحقاق 1963 ماتزال تكتسي راهنية كبيرة. فعلى الرغم من المكتسبات المعتبرة التي تم تحقيقها خلال هذه المدة الطويلة إلا أن المغربيات ما زلن يعانين من أوجه عديدة من اللامساواة، والتي تمت الإشارة إليها في المنشور المذكور؛ وبالتالي فإننا مازلنا في حاجة إلى هكذا عقليات متشبعة بثقافة المساواة، وبتقدير حقيقي لإرادة وكيان الناخبات، ومتمثلة لدورهن ومسؤوليتهن في التغيير المجتمعي، كما تمثَله علي يعته لدى ترشحه لأول انتخابات تشريعية ببلادنا.
قد يقول قائل إن الأمر لا يعدو أن يكون خطابا لحظيا في حملة انتخابية، لكن مسار الزعيم الاشتراكي يؤكد قناعته بعمق الخطاب وجوهر القضية، وهي القناعة المتمثلة – كما يقول رشيد روكبان، عضو المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية، في أطروحة الدكتوراه التي أنجزها حول «الفكر السياسي لعلي يعته»- في دعوة يعته إلى «اعتبار معركة الكفاح من أجل النهوض بأوضاع النساء وتحريرهن والاعتراف بحقوقهن جبهة أساسية من جبهات (المعركة العامة ضد الإمبريالية والرجعية وفي سبيل مغرب ديمقراطي ومزدهر)». وأن «نضال النساء وسيلة ناجعة لمضاعفة القوى الاجتماعية التقدمية التي تكافح من أجل ازدهار ديمقراطية وطنية تفتح الطريق نحو الاشتراكية وتتحقق من خلالها المساواة التامة».رشيدة الطاهري، وهي عضوة المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية والمناضلة النسائية المعروفة، تؤكد بدورها هذا الطرح قائلة، في تصريح أدلت به لبيان اليوم، إن فكر علي يعته الزعيم الكبير والسياسي المحنك الذي يستشرف المستقبل، لا يمكن فصله عن تحاليل وأطروحات الحزب ومواقفه، وذلك في مختلف مراحل وجوده منذ الحزب الشيوعي إلى حزب التحرر والاشتراكية ثم حزب التقدم والاشتراكية، بحيث ظلت قضية المرأة ومسألة المساواة حاضرة بقوة، وشكلت جزءا لا يتجزأ من هويته وتراثه ونضالاته.
فحضور النساء، كما تقول الطاهري، في النضال السياسي كان مبكرا في الحزب الذي انضمت إليه نساء مغربيات وأجنبيات في مناطق متعددة من بلادنا. كما أن قضايا النساء وانشغالاتهن وعلى رأسها الانشغال بمسألة المساواة، كانت بدورها في صلب أدبيات ومواقف الحزب الذي كان أول من يحتفي بالعيد العالمي للمرأة، وأول من يضم امرأة في تشكيلة مكتبه السياسي وهي أمينة الوهابي المريني التي ترأست لاحقا – بمعية علي يعته – ندوة وطنية نظمها الحزب في بداية الثمانينات، وخصصت لقضايا المرأة. ورفعت هذه الندوة توصياتها إلى المؤتمر الوطني الثالث للحزب في سنة 1983، تحت عنوان «برنامج عملي من أجل حقوق المرأة المغربية وضرورة تطوير مكانتها ودورها في المجتمع». وهي التوصيات التي أصدر بموجبها المؤتمر قراره بإحداث منظمة موازية معنية بقضايا النساء، فكان تأسيس «الجمعية الديمقراطية لنساء المغرب» في سنة 1985، والتي احتلت موقعا بارزا منذ ذلك الحين، وماتزال، في تأطير الفعل النسائي والترافع عن حقوق المرأة في جميع المجالات، مستفيدة من مساهمات العديد من مناضلات حزب التقدم والاشتراكية، وذلك قبل أن تنفتح الجمعية على إطارات وطاقات نسائية أخرى من خارج الحزب.
ولعل هذا الانفتاح الذي طبع فكر علي يعته وفكر الحزب منذ نشأته، كان له دور كبير كذلك في تعزيز وتفعيل القناعة بقضايا النساء، فعلي يعته الذي تزوج من سيدة إسبانية اسمها «روزاليا»، رافقت كفاحاته ونضالاته السياسية منذ زمن الاعتقالات والمنفى بالخارج، وكان (يعته) يناضل في صفوف حزب يضم المغاربة والأجانب في البداية، من المؤكد أنه تشبع بثقافة التعددية والمساواة، بشكل ظهر واضحا في مواقفه ومواقف الحزب. ونفس الثقافة هي التي جعلت مناضلات الحزب ينفتحن على الفعل النسائي بطاقاته المختلفة إيمانا بوحدة القضية النسائية وبوحدة الهدف، وتعزيز المواطنة وخدمة الوطن، كما تقول رشيدة الطاهري.
وفضلا عن حضور النساء الفعال داخل الهياكل والفروع بمختلف الربوع، أبدى الحزب أيضا، منذ مرحلة مبكرة، انخراطه في تعزيز التمثيلية السياسية للنساء، من خلال ترشيحه لعدد من أوائل النساء المغربيات اللواتي امتلكن الجرأة والشجاعة للتقدم للانتخابات التشريعية والجماعية منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي.
وعلى مستوى آخر، لعبت جوانب أخرى من شخصية سي علي دورها في تشكيل قناعته الراسخة بضرورة خدمة قضايا المرأة، فعمله على رأس صحافة الحزب ومهامه كنائب برلماني باسم الحزب لاحقا، فضلا عن عمله الحزبي التأطيري في الميدان، جعله منغمسا في الهموم اليومية للناس، حيث كان مستمعا جيدا لنبض المجتمع ولشكاوى المواطنات والمواطنين الذين كانوا يحجون بصفة يومية إلى مقرات الحزب ومقر الجريدة بالدار البيضاء، لما كانوا يتوسمون في الحزب وفي سي علي من حرص على تبليغ مطالبهم وتحسين أوضاعهم.
في مجلس النواب، حيث عرف سي علي بصولاته وجولاته وخطاباته القوية دفاعا عن قضايا الطبقات المسحوقة، ومن بينها النساء، كان ممثل حزب التقدم والاشتراكية أول من تقدم بمشروع قانون ضد تشغيل الأطفال وأول من طرح قضية تنظيم تشغيل عاملات البيوت في البرلمان. وتتذكر رشيدة الطاهري في هذا الصدد أن الطبقة السياسية لم تكن وقتذاك منشغلة بتاتا بمثل هذه القضايا، حيث واجه سي علي مقاومة حتى من قبل ممثلي الأمة في البرلمان الذين ساءلوه حينها قائلين: «كيف لسي علي بجلال قدره ومكانته في المجتمع أن ينشغل بوضعية (الخدامات حتى هوما)؟»، في وقت كانت فيه معاناة عاملات البيوت مسألة شبه طبيعية، ولم تكن بعد مطروحة للنقاش الذي سيظل يواجه مقاومة شديدة إلى عهد قريب، مما جعله يظل مجرد نقاش طوال العقود الماضية قبل أن يتم إقرار قانون تنظيم عمل عمال وعاملات البيوت الذي ينتظر أن يدخل حيز التنفيذ هذه الأيام، بعد انصرام أجل سنة على المصادقة عليه في غشت من السنة الماضية.
كما كانت جريدة «المكافح» وبعدها «البيان»، من أولى المنابر التي فتحت صدرها وصفحاتها لقضايا النساء وكتاباتهن، حيث كانت هناك صفحة خاصة بالمرأة. وعن هذه الفترة تقول سعيدة بنت العياشي، إحدى مناضلات الحزب اللواتي ساهمن بكتاباتهن على صفحات الجريدة، وهي تخاطب روح سي علي في الذكرى الماضية لوفاته: «سي علي.. يكفيني فخرا أنني تعاملت معه ويكفيني فخرا أنني كنت أحظى باحترام كبير منه، كل مقالاتي تنشر في وقتها وبدون أي تدخل.. كان لدي الضوء الأخضر في نشر العديد من الصفحات، وكان لي الشرف أن أكون أول من خصصت صفحات شهرية خاصة بالمعاقين في بداية التسعينات، وأول من كشفت أسرار ما يجري في السجون وسجن مراكش بالتحديد. تشجيعه كان يجعلنا نبتكر أساليب نضالية جديدة. في ذكراه 19 أقول له شكرا لك سي علي، لقد كنت رفيقا رائعا لنا».
سميرة الشناوي