تبدأ مسرحية «الرمود»(1) على وقع العزيف (صوت الرمال إذا هبت بها الرياح)، وتطاير حبات الرمل في صحراء قفرة يدوي صفيرها المرعب مرفوقا بصرير أبواب ترتطم بفعل تلك الرياح، ومن داخل هذه الأصوات المخيفة، وقبل رفع الستارة تلعلع أغنية هي أقرب إلى المناحة منها إلى الغناء تدعو مستمعها علانية إلى أن يكون قويا وصلبا وصارما، كما تعبر عن ذلك عبارات الزجل المستمدة شاعريتها من واقع لغة الشاوية قائلة: «كون كيف منجل الحصادة ماضي في الحشة فالح – كون سكة محراث في الأرض خطك غارق واضح – كون كيف النخلة عالي ظل واتمر..»، مقابل هذه الطلبات ترفض الأغنية من مخاطبها قبوله حكم الطغاة («لا تقبل حكام الشمايت» و»لا تحني الراس وتقول نصبر»…)؛ ولعل هذه العبارات التحريضية المفتتح بها في مستهل المسرحية تعبر عن توجه المسرحية العام كما دون حروفها الإبداعية الكاتب المسكيني الصغير، وكما نثر أدواتها الإخراجية المخرج بوسرحان الزيتوني، والتي تذكر بذلك التوجه السياسي الذي بدأنا نفتقده في مسرحنا بموجب ظروف أخرى جديدة، غير أن التمسك بها يؤكد إلحاح المسرحي المغربي على ضرورة التمسك بمسرح القضية المتسم بالجرأة وقوة المجابهة، ويذكر بالمسرح السياسي كما مورس في أبهى نماذجه عربيا ومغربيا زمن حركة مسرح الهواة، حيث المسرحيات وضمنها الأغنيات الشعبية تتضمن أشعارا لاذعة تملك طاقات نقدية تتغيا تغيير واقع الحال، وتبديل أحوال الناس. تبدأ مسرحية «الرمود»(1) على وقع العزيف (صوت الرمال إذا هبت بها الرياح)، وتطاير حبات الرمل في صحراء قفرة يدوي صفيرها المرعب مرفوقا بصرير أبواب ترتطم بفعل تلك الرياح، ومن داخل هذه الأصوات المخيفة، وقبل رفع الستارة تلعلع أغنية هي أقرب إلى المناحة منها إلى الغناء تدعو مستمعها علانية إلى أن يكون قويا وصلبا وصارما، كما تعبر عن ذلك عبارات الزجل المستمدة شاعريتها من واقع لغة الشاوية قائلة: «كون كيف منجل الحصادة ماضي في الحشة فالح – كون سكة محراث في الأرض خطك غارق واضح – كون كيف النخلة عالي ظل واتمر..»، مقابل هذه الطلبات ترفض الأغنية من مخاطبها قبوله حكم الطغاة («لا تقبل حكام الشمايت» و»لا تحني الراس وتقول نصبر»…)؛ ولعل هذه العبارات التحريضية المفتتح بها في مستهل المسرحية تعبر عن توجه المسرحية العام كما دون حروفها الإبداعية الكاتب المسكيني الصغير، وكما نثر أدواتها الإخراجية المخرج بوسرحان الزيتوني، والتي تذكر بذلك التوجه السياسي الذي بدأنا نفتقده في مسرحنا بموجب ظروف أخرى جديدة، غير أن التمسك بها يؤكد إلحاح المسرحي المغربي على ضرورة التمسك بمسرح القضية المتسم بالجرأة وقوة المجابهة، ويذكر بالمسرح السياسي كما مورس في أبهى نماذجه عربيا ومغربيا زمن حركة مسرح الهواة، حيث المسرحيات وضمنها الأغنيات الشعبية تتضمن أشعارا لاذعة تملك طاقات نقدية تتغيا تغيير واقع الحال، وتبديل أحوال الناس. والمسرحية في نهاية المطاف لا تعدو أن تكون طرحا لصراعات وصدامات المجتمع المغربي نفسه، أو هي الأسئلة والإشكالات التي تمور داخل المجتمع، ولا يمثل «الرمود» فقط ذلك العدو الخارجي القادم من هناك، والمتوجس منه، ولكنه وبالأساس ذلك العدو الموجود بيننا والمختبئ فينا، يطفو على سطح واقعنا لأنه من صميم ذاتنا الجمعية وواقعنا الداخلي، وهو لذلك عدو مدمر ومرعب لأنه منا وبيننا، معلوم وغير معروف في الآن ذاته.لا غرابة إذن أن تكون موضوعة الخوف التيمة الأساس التي تخترق ثنايا النص والعرض معا مضيفة إلى حسهما الدرامي ووعيهما التراجيدي إيقاعا قويا بموجب المفارقات التي تزاوج بين الرعب والسخرية، هكذا نجد أن المسرحية تلجأ بين الفينة والأخرى إلى زرع الخوف في أجوائها حين تظهر بعض الضجات التي تربك حسابات «الراضي» و»رضوان» وتجعلهما ينهضان وهما متمسكين بسلاحهما يصوبانه في كل الاتجاهات المحتملة لقدوم «الرمود»، صوب اللامرئي، ويجريان صوب اللامحدود واللاشيء بموجب الخوف الذي ينتابهما من هذا القادم المحتمل عملا بوصية مشغلهما الخائف الأكبر من «الرمود» وما سيجره عليه هذا الأخير من متاعب إن هو استطاع الدخول إلى المدينة. في مسرحية الرمود(2) تضطلع ثلاث شخصيات بأدوار يجمع بينها قاسم مشترك يتجلى في كونها تعيش حياة محبطة ومغتربة وعاجزة عن فهم واقعها، شخصيات تطيع وتنفد الأوامر بشكل أعمى، يقتلها الزمن بأسلحة الجهل والضنك والفقر الجاثم على صدور الناس، الذين يتبنون قضايا سكان المدينة عن طريق حراسة أبوابها من «الرامود»، بل إنها لا تكف عن خوض حروب وهمية بالوكالة ونيابة عن «مول الشي» السلطة الأعلى دون أن تعي دورها، ومع ذلك فإن شخصيات «الرمود» تدين القيم السائدة، وتتشبث بالحياة والاستمرار في الوجود، من تم جرأتها الذاتية على مساءلة الواقع والنظر بعين الريبة لكل جديد يطرأ في الواقع.يثير الملفوظ اللغوي لنص «الرمود» لدى المتلقي الفكر والوجدان، ويشرع نوافذ لرؤية ما يتطارح في المجتمع وعلى أرض الواقع من هموم يعيشها الإنسان المغربي المعاصر بلغة عنيفة غير مهادنة وفي أجواء تنضح بشاعريتها الخاصة المعبرة عن صراعات سياسية وعقدية واجتماعية وثقافية عبر سلسلة من الحكايات والأحداث بعضها واقعي والآخر خيالي يمتزجان في سخرية مع ما يسود في مجتمعنا من طبقية وديماغوجية وانتهازية وبكل ما يعتمل في رحم المجتمع من أمراض.وإذا كانت الشخصيتان الرئيسيتان هما «رضوان» (لعب الدور عبد اللطيف خمولي) و»الراضي» (لعب الدور جواد العلمي) اللذان جسدا دور حارسي باب المدينة بتكليف من «مول الشي»، فإن شخصية الرمود(3) كانت الشخصية الأكثر حضورا في جل مقاطع النص رغم غيابها الجسدي والعيني، بموجب الرهبة التي تخلقها، والرعب الذي تسببه للحارسين ولسكان المدينة وإلى «مول الشي» على الخصوص. تقدم المسرحية شخصية «الرمود» كشخصية هلامية لا محددات دقيقة حول طبيعتها الجسدية وخصوصياتها الذاتية، إلا أنه مع ذلك يمكن أن نستشف بعض مميزاتها كما وردت على لسان «راضي» و»رضوان» والتي يتبين أن له صفات إنسانية، غير أنه إنسان مخيف، فهو يدخل ويخرج من وإلى المدينة دون أن يراه أحد، وهو سبب كل أشكال الفوضى الجارية في الخارج، وهو حين يجوع يصبح مخيفا أكثر بالنسبة لـ «مول الشي»، ويكون بالتالي هجومه عنيفا لأنه يهاجم على رأس جماعته، كما أنه متلون ومتغير لا يثبت على حال، وأما سبب ثورته وغضبه وتمرده فيعود إلى الوضع المعيشي الذي يعيشه عامة الناس فهو «زاعف» لأن «مول الشي» لا يفرق «المونة» على الناس، من تم استأجر هذا الأخير من يراقبه ووضع حارسين أمام باب المدينة من أجل القضاء عليه والتصدي له بل وقتله إن دعت الضرورة إلى ذلك.إلى جانب هذه الموضوعة الأساس تحضر مجموعة من الثيمات المواكبة والمصاحبة والتي تخدم الدلالة العامة لهذا الوضع المتشظي لسكان المدينة كما يعبر عنه ملفوظ الحارسين.. والملاحظ على شخصيات «الرمود» أنها كلها تعيش القلق والارتباك والخوف وهي كلها اضطرابات سببها عدم الشعور بالراحة النفسية في وضع ملتبس كان أهم آثارها شك جميع الشخصيات فيما يودون إنجازه أو قوله، وهي الأمور التي تجعلهم جميعا يشعرون بالحيرة واليأس وانعدام الأمن والتوجس، ولم تنفع معها بندقيتا «الراضي» و»رضوان»، بل لعلي أرى تواطأ المؤلف والمخرج على تمرير الإحساس بالرعب والفزع إلى المتلقي من خلال واقعة مرتبطة بقدوم «الرمود» وما مرره «مول الشي» عن قدومه وصوره لهما.تزاوج المسرحية كما قدمها مخرجها بين عالمين متناقضين، أو لنقل إنها تمتد على طرفي مسافة زمنية تعد السخرية طرفها الأول، ويعد الرعب طرفها المقابل، وبين هذين الطرفين تنهض عوالم شتى هي نفسها عوالم الإنسان المقهور، والاستغلال البشع، والجوع، والغناء والندب والمناحات، وغير ذلك كثير مما تنضح به الحياة في المسرحية كما في واقعنا العربي عموما والمغربي منه على الخصوص. وعلى الرغم من أن طرفي هذا الواقع: السخرية والرعب، يبدوان متنافرين ومتباعدين، إلا أن المسرحية تقدم الواحد وكأنه امتداد للثاني، أو هما وجهان لعملة واحدة على اعتبار أن شر البلية ما يضحك، أو تحول الأمر إلى ضده حين يتجاوز حده المعقول. لقد ظل الإحساس بالخوف من «الرمود» ديدن العمل منذ بدايته إلى حين دخول الشخصية الثالثة التي تحمل اسمين (لعب الدور الفنان عبد الحق صالح)، الأول هو العربي والذي يرمز للإنسان العربي المتخلف حضاريا والهارب من المتحف القومي بسيفه الخشبي في زمن مدن الضنك والفقر والحريك نحو أروبا، والذي لا يزال يعيش مخدرا بأمجاد قصائد العرب ومعلقاتهم، وحكمهم المتآكلة والمكرورة، والاسم الثاني هو «محمود» الشاب المهاجر والساخط على أوضاعه، والثائر على مجتمعه والتواق إلى مستقبل مغاير. يجيب على أسئلة «الراضي» و»رضوان» بعد أن اعتقدا أنه هو «الرمود» حين التقيا به: «بلاتي خليوني نفكر باش نتفكر… أنا من اللي كا نشوف اللور (إلى الخلف) بزاف كان لقاني العربي… نوالة وجمل وسيف وراية ورمل وغبار… وملي كا نشوف في ونحقق بين رجلي كان لقاني محمود… أنا زوج… زوج أعباد الله… انا عرام بزاف (يرفع سيفه) أيها الناس أيتها الجماهير أنا هو أنا… واللي كذب عليكم يعمى. يا ألله. أمة وكانت.. أمة وضاعت أمة أمة صارت…»على الرغم من أن موضوع المسرحية جاد إلى أبعد الحدود إلا أن مبدعه وفر له من عناصر السخرية مواقف كثيرة في محطات مفصلية داخل سيرورة العمل، وقد استمتع المتلقي بلحظات وافرة من السخرية اعتمد فيها الكاتب على المفارقة اللغوية بالأساس، والتي تنبني على العطف بين معطوفات لا جامع بينها دلاليا وإن صح ذلك نحويا، ومع ذلك فالنص الدرامي نص مفتوح قادر على استيعاب أشكال كثيرة من السخريات استطاع المخرج بوسرحان الزيتوني أن يملأها مانحا بذلك العمل إمكانات أخرى ساهمت بقوة في خدمة المعنى النهائي للمسرحية. يعتبر نص «الرمود» من النصوص التي يرتبط فيها الماضي بالحاضر والحقيقة بالخيال والواقع بالرؤيا، وتلك هي نفسها الخصائص المميزة للأسطورة، والكاتب المسكيني الصغير لم يوظف في «الرمود» أي أسطورة من الأساطير المعروفة تاريخيا ولكنها أسطورة من الواقع المغربي في العصر الحاضر حين لا تملك شخصيات النص غير رؤى مشوشة بحكم انشطار وجدانها بين القديم والحديث، وهي أسطورة أيضا لأنها تملك قدرة خارقة على الإيحاء والتصوير العميق لمكنونات تلك الذوات التي تقدم صورا مشوهة عن واقع مشوه، وواقع عقيم ومشتت. في «الرمود» يعيش الإنسان حالة توتر دائم، من تم كان النص يعكس واقع الحيرة وانهيار القيم، فيه يعيش الإنسان الضياع والتشتت والحيرة الفكرية والوجدانية. لقد بدا عجز إنسان «الرمود» عن التفاعل والانسجام مع صور الواقع ولوحات التوتر والحيرة.في هذا العمل الدرامي، كما في غيره، يشدد المسكيني الصغير على المفاهيم الإنسانية الأساس كالحرية والموقف من الدين والديمقراطية والعدل والحقوق منتصرا في ذلك دوما للفقراء والمستضعفين والخانعين ضد «مول الشي» وضد التفاوت الاجتماعي والتوارث الطبقي للسلطة والثروة.هوامش 1 مسرحية «الرمود» نص: المسكيني الصغير، سينوغرافيا وإخراج: بوسرحان الزيتوني، تشخيص: عبد اللطيف خمولي وجواد العلمي وعبد الحق صالح، أنجز السينوغرافيا الفنان نور الدين غانجو، موسيقى وألحان وغناء: عبد الفتاح نكادي، تقني الصوت: أمين بوسرحان، وتقني الإضاءة: أسامة السروت.2 اعتمدنا في هذه القراءة على العرضين الأولين اللذين قدما بالمركب الثقافي مولاي رشيد بتاريخ 22 أكتوبر 2017 و15 نونبر 2017.3 تشير بعض الدراسات العلمية الى أن «الرمود» هو سوسة البازلاء la bruche du pois وهي حشرة تستقر داخل حبة البازلاء أو جلبان. والمشهور عنها أنها من الحشرات المخربة RAVAGEURS المعروفة بتوالدها المفرط وتكاثرها السريع وتخريبها للمحصول.
> بقلم: محمد لعزيز