الانطباع الأولالذي يخرج به المتابع لماراثون المناظرات التلفزيونية بين المرشحين للرئاسة في تونس، أن غالبيتهم أسهبوا في إطلاق الوعود والتعهدات، إلى درجة أنّنا بتنا حيال مؤسسة رئاسة في طور الاستيلاء على صلاحيات مؤسسة رئاسة الحكومة.
لا حدود لتعهدات المتنافسين على كرسي رئاسة الجمهورية في تونس، فمن التعليم إلى الصحة، ومن النقل إلى الاقتصاد، ومن الاستثمار إلى الديون، ومن الحقوق الفردية إلى الحريات الجماعية، ومن العلاقات الخارجية إلى صناعة دبلوماسية تونسية جديدة، وكل مرشح لا يرى غضاضة في التوسع في استباحة تطلعات شعب منتفض، وهب للطبقة السياسية حرية الكلام فوهبته جبالا من الأوهام.
المفارقة التي تعيشها الديمقراطيات التليدة في العالم، ناهيك عن الوليدة في تونس، كامنة في التطابق شبه الكلي بين البرامج الانتخابية وبين الهويات الحزبية، عقب سقوط الاتحاد السوفياتي وتحول اليسار إلى يسار ديمقراطي اجتماعي، وطغيان اليمين الليبرالي على معظم الأطروحات السياسية، إلى درجة أن المشهد السياسي في العالم وقع تشويهه، فعوضا عن المقاربات والمدارس الفكرية الكبرى بتنا حيال مجموعة من البرامج الأداتية الضيقة، والسياسي الذي كان في السابق مثقفا نقديا وثوريا متشابكا، بات اليوم موظفا لدى تقاطعات المال والإعلام والسياسة.
وعندما تتناسل المشاريع وتتشابه البرامج وتتماهى العناوين الانتخابية وتضيق البدائل بالمرشح، يصير التنافس رهين قابلية وتأييد منظومات صناعة القائد والرئيس، وهي منظومات تتشابك فيها القوى الرمزية بالقوى المادية، وعلى هذا الأساس يصاب المشهد الانتخابي بلوثات المزايدات والسباب والسخرية وحتّى حروب فيسبوك، حيث لا حدود للانتهاكات والتشويه.
فهل أن المرشحين السابحين في سماء الوعود، لم يقرؤوا القوانين المنظمة لصلاحيات الرئيس وصلاحيات رئيس الحكومة، ولم يطلعوا على حدود رئاسة الجمهورية التي حوّلها دستور 2014 إلى شبه “مؤسسة ملكية” في الديمقراطيات الملكيّة على غرار هولندا وبريطانيا.
البون الشاسع بين حدود الرئاسة ولامحدودية الوعود، يضعنا أمام افتراضين، فإما أنهم لم يقرؤوا وهذا خطأ في حقهم وخطيئة في حق الشعب، وإما أنهم يريدون استكمال الولاية الرئاسية الثانية للراحل الباجي قائد السبسي. بمعنى أدق إن المرشحين لا يريدون رئاسة كما تم تفصيلها في الدستور، بل يريدون رئاسة على هدي الراحل قائد السبسي، الذي استطاع أن يوسع من صلاحيات الرئيس وأن يتوسع في مجالات التدخل، بمقتضى القوة الرمزية التي يتملكها لدى عموم التونسيين.
المفارقة التي وقع فيها الكثير من المرشحين، أن الرئاسة عندهم لم تعد تلك المخطوطة في نص الدستور، بل باتت ذلك النموذج في الرئاسة والحكم والسلطة التي ظهرت مع الراحل قائد السبسي، حيث القدرة على إدارة الصراع الاجتماعي والاقتصادي، والتمكن من الملفات الدبلوماسية وإعادة تأثيث العلاقات الخارجية مع أكثر من دولة عربية، والتدخل في الملفات الحقوقية والمبادرة إلى مشاريع قوانين مدنية وثقافية كبرى.
وهنا إشكالية المشهد الانتخابي في تونس، فهل ينظّر هؤلاء المرشحون لرئاسة وفق القانون وحقيقة الصلاحيات الكامنة والممكنة، أم أنهم يريدون عهدة ثانية للرئيس السبسي، باسمهم ورسمهم، فيُقبل منهم ما كان يُقبل للسبسي دون غيره.
أمين بن مسعود
كاتب ومحلل سياسي تونسي