نظم مختبر السيميائيات وتحليل الخطابات الأدبية والفنية ندوة علمية تحت عنوان ‘الرواية والذاكرة” وذلك يوم الجمعة 12 ماي 2022، برحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك، بفضاء عبد الله العروي، وقد تضمن برنامج الندوة محاضرة وجلستين علميتين.
استهلت الجلسة العلمية الأولى، التي تضمنت تقديما عاما لمدير مختبر السيميائيات وتحليل الخطابات الأدبية والفنية الأستاذ عبد اللطيف محفوظ، وتضمن ترحيبه بالمشاركين والحضور، وسعادته بتنظيم هذه الندوة التي تستعيد موضوع الذاكرة والرواية الذي يعد من بين المداخل المهمة للتفاعل بين تخصصي الفلسفة والأدب.
وبعد ذلك أعطى الكلمة للأستاذ رشيد الإدريسي الذي قدم بإسهاب كتاب الأستاذ عبد الرحيم جيران “ذاكرة الحكي الروائي – الإتيان إلى الماضي من المستقبل”.
والذي استهل مقاربته للكتاب بالإشارة إلى صعوبة قراءته نظرا لعمقه وانبنائه على معارف موسوعية. وبناء على ذلك أشار إلى مجموعة من القضايا ذات صلة بما هو أدبي وفلسفي وعلمي، ورد تلك الصعوبة إلى كونه قد استعرض مختلف الآراء والنظريات السابقة عن موضوع الذاكرة، سواء أكانت هذه النظريات غربية أو عربية… كما أشار إلى الطابع التوليفي لصياغة مفهوم الذاكرة في الكتاب، من قبيل _ السرد _ التأويل_ النظرية… والتي حضرت مفعلة ومشغلة من طرف الكاتب على المستويين النظري والإجرائي، كما حضرت بوصفها عوالم من العوالم الممكنة والاعتقادية، وأحداثا يتم استدعاؤها من الماضي لاستذكارها في الحاضر لبناء الحبكة.
وانتهى الأستاذ الإدريسي، في الأخير، إلى مناقشة الكتاب، معلقا على أهم أفكاره التي بدت واضحة مثل علاقة القارئ الضمني بالقارئ الفعلي في التأويل والمحاججة من أجل التبصر بالدلالة الأقرب إلى مقصدية الكاتب؛ وتمحيص وتصويب المصطلحات عن طريق الاستشكال بكل حيثياته انطلاقا من الإحاطة بمستجدات العلوم الموازية لزمن الفكرة على المستوى الإبستيمي، مع انفتاح الفكرة على أفق الاستشراف نحو ذاكرة محينة تمكن الذهن من توسيع دائرة المعنى لمفاهيم ذات صلة بالذاكرة وتضييقها أحيانا…
ألف ليلة وليلة
بعده مرر الأستاذ محفوظ الكلمة للأستاذ المحاضر عبد الرحيم جيران الذي قدم محاضرته للحديث عن كتابه الجديد الموسوم بـ”الذاكرة المقنعة في ألف ليلة وليلة” الذي سيصدر قريبا عن دار الكتاب الجديدة المتحدة، وأكد الكاتب عبد الرحيم جيران أن هذا المشروع يتصل بألف ليلة وليلة، “الجزء الثاني” كما حاول أن يطلعنا على منهجيته العلمية التي عملت على تجزيئ كتابه إلى أقسام تتناول بالتفصيل والتحليل موضوع الذاكرة في إطارها النظري والإجرائي، مع تضمين متن الكتاب بوجهات نظر فلسفية ونقدية تروم إغناء هذا الموضوع وإكسابه تنوعا معرفيا شموليا وموسوعيا.
ومن أهم النقاط التي ارتكز عليها المؤلف في حديثه عن الكتاب الملاحظات القيمة حول النسخ الأصلية التي صدرت عن مؤلف ألف ليلة وليلة وما شابها من تحويرات وأخطاء جسيمة، والتي كان من اللازم على كل باحث في هذا المجال أن يلتفت إليها. كما نبه الكاتب إلى جملة من الانحرافات المفتعلة منها أو غير المقصودة، فلاحظ غياب خصائص ينبغي أن تكون في النسخة الأصل لمؤلف ألف ليلة وليلة، مما دفعه إلى ابتكار مفاهيم جديدة، وإدراج تصورات تسعف في إعادة الاعتبار لكتاب ألف ليلة وليلة من منظور نقدي وازن، فيعيد قراءة ألف ليلة وليلة من جهة استشكال العناصر المكونة والفاعلة في السرد، حتى يدرك الباحث أو المتلقي حقائق مغيبة عن الذاكرة التاريخية والمؤرخة للكتاب، وبناء التحليل والبرهنة من منطق الذاكرة المعرفية والمحاجة بالمعطيات المثبتة علميا… لقد أراد الكاتب من عرضه الرصين والمطول أن يضعنا إزاء حفر معرفي ينعش ذاكرة التراث العربي من زاوية أكثر امتاعا وإقناعا…
مقاربة في رواية وادي اللبن
وبعد المحاضرة القيمة ترأس الجلسة الثانية الأستاذ رشيد بن السيد، وتدخل في بدايتها الأستاذ محمد بوعزة بورقة علمية تحت عنوان “شعرية الذاكرة في الرواية: مقاربة في رواية وادي اللبن لعبد اللطيف محفوظ”. واستهل مداخلته بعرض النقاط الأساس التي سينطلق منها في بسطه لموضوعه، حيث أشار إلى أن موضوع الذاكرة موضوع إشكالي ومتعدد المنافذ، يلزم الباحث بالتقيد بخلفية معرفية معينة للتمكن من حقله المعرفي، مع معارف مساعدة تلائم العلوم المتقاطعة مع موضوعه “الذاكرة”، مؤكدا، بذلك، على ضرورة التزود بمعارف متنوعة، تمتاح من علم الجمال والفلسفة، وتستعين بالتاريخ والإيديولوجيا… ثم انتقل إلى تحليل رواية وادي اللبن التي سجل أنها تجدل بين الذاكرة الخاصة والذاكرة الثقافية والذاكرة التاريخية، وتصهرها في خطاب منسجم يضفي عليها طابع النسبية…
ثم أخذ بعده الكلمة الأستاذ رشيد الإدريسي الذي قدم مداخلة موسومة بـ “اشتغال الذاكرة، الآليات، التقاطعات، الحدود”. وقد بدأ مداخلته بالتنبيه إلى أن ما سيطرحه هو عبارة عن أفكار وحفريات في مفهوم الذاكرة بالرجوع إلى الثقافة العربية، والتأمل في تمثلات الذاكرة خاصة في الثقافة العالمة، بوصفها المصدر الأصل الذي تمتح منه الثقافات اللغوية المتفرعة عنها؛ فقدم جردا مفصلا لمفهوم الذاكرة بالاستناد إلى قواميس ومعاجم علمية محكمة، ويمكن أن نستجمع مضامينها كما يلي:
-الذاكرة مقابل النسيان- الذاكرة لها اشتقاقات مفادها الوهم- الذاكرة تعني الذكر باللسان- الذاكرة في البعد الأسطوري- الذاكرة تعني الحافظة- الذاكرة خزان للوهم والحس المشترك…….
ثم انتقل إلى ربط الذاكرة بالتاريخ، حيث يكون المقصد منها هو الوصول إلى الحقيقة في حين يرى الذاكرة في الأدب توظف بهدف سلب عقل المتلقي والتأثير في كيانه. كما أشار إلى دور الاستعارات في وصف قوة الذاكرة أو ضعفها، فالعناوين والأسماء والأشياء… التي نستعيرها تسهم في توليد تأويلات ودلالات مركبة، وتحفز موسوعة المتلقي على التأويل…
أما المداخلة الثالثة، فكانت للأستاذ السعيد لبيب تحت عنوان “الذاكرة والهوية دراسة في وادي اللبن” وقد تحدث عن ثلاثة مداخل متضافرة لقراءة الرواية وهي المعنى، الهوية، الذاكرة. وعالج الباحث الموضوع من خلال مجموعة من الخاصيات، يمكن أن ندرجها كالآتي: الخاصية الأولى – إن الغنى المعرفي والثقافي للرواية مرده إلى تجربة صاحب الرواية في مجال النقد والسيميائيات، وقد انعكس ذلك بداهة، وبالإيجاب، على متن الرواية.
والخاصية الثانية – الرواية نتاج تخييل مغربي محض، لأن فضاءها يجسد بعضا من الثقافة المغربية وتاريخها المغيب، لكنها من خلال ذلك استطاعت أن تعبر عن تواريخ منسية في أي زمن أو مكان… ثم انتقل إلى مساءلة الهوية والمعنى في علاقتهما بالذاكرة. وقد وصف المعنى بالنقصان، والهوية بالالتباس، والذاكرة بالارتباك، ليؤكد في النهاية أن الرواية نموذج للنصوص الناجحة التي تدعو إلى إعادة النظر في إمكانية اكتمال التصورات حول الهوية والذاكرة ولذلك عدها رواية معرفية…
الذاكرة والزمن
سير الجلسة الثانية الأستاذ عبد المجيد شكير، الذي أعطى الكلمة في البداية للأستاذ عبد العلي معزوز، الذي قدم مداخلة موسومة بـ “الذاكرة والزمن من منظور برغسون”، والتي ركزت تحديدا على فلسفة برغسون وتوجهه المنافي للتيار الفلسفي اللا شعوري، موضحا أن فلسفته قد تبأرت على مفهوم الوعي في ارتباطه بمفهوم الذاكرة والزمن، وأن الزمن، في نظر برغسون، داخلي ومتصل بالديمومة التي حددها بوصفها استحضار الماضي عن طريق آليات متحركة حسب الخبرة والفعل، لخدمة الفهم في الحاضر. ومن خلال ذلك أكد أن الذاكرة تتجزأ إلى مستويين – الأنا العميق، والأنا السطحي. وأنهى مداخلته بتحليل فقرات من كتاب بروست “البحث عن الزمن الضائع”، موضحا أن الذاكرة عند بورست هي السبيل إلى الديمومة والأنا العميق..
أما المتدخل الثاني الأستاذ رشيد بن السيد فقدم مداخلة تحت عنوان “الذاكرة وقدرة الذات الفاعلي عند ريكور” استهلها بجرد مقتضب لحياة بول ريكور، ثم مهد لموضوعه بالحديث عن الأدب الإنساني وأهميته في التمثيل لتجارب الأفراد والجماعات، واعتبره الأكثر نجاعة ودقة في التعبير عن الإمكانات الجمالية والفنية، وأيضا لتنشيط الذاكرة وإحيائها، من أجل الدفع بالذات الفاعلة إلى تحريك عجلة النص، علما أن النص المقصود من قبل بول ريكور هو العالم بوصفه نصا مفتوحا يمنح إحالات لا متناهية… كما وضح كيف أن الإنسان قادر على الإتيان بشيء ما، وتوليده في أشكال تعبيرية محسوسة عبر تقنيات فعل القراءة، واستحضار عناصرها، لكن بلمسة الذات التي تقترح على العالم ممكنات خاصة، ويتعلق الأمر بالنص الذي تفرزه وتؤوله الذات، سواء أكانت متلقية أم منتجة، إذن فالنص كتابة وتسجيل للذاكرة بينما الكلام هو فعل التحقق…
الذاكرة بوصفها آلية للإنتاج
المداخلة الثالثة قدمها الأستاذ عبد اللطيف محفوظ، وكانت بعنوان “الذاكرة بوصفها آلية للإنتاج” استهلها بإظهار صعوبة الإلمام بالذاكرة، وحصر مداخل معالجتها، لذلك بين أنه انحاز إلى تصور لساني يعيد قراءة تصور كرستيان كنكبوش مدعما إياه بتصور فرانسوا راستيي حول الدلالة التأليفية، وأضاف في تقديمه أن المفهوم العام للذاكرة، يجعلها نظاما معرفيا بنيويا وحسيا يساعد في تخزين المعارف واستحضارها في الحاضر، وأنها هامة في توجيه السلوك أو تعديله، كما وصف مراحلها الثلاث المتجسدة في الاكتساب الفطري والتعلمي، والتخزين والبرمجة، والتوظيف والتنشيط.
ووصف كيف تقوم بتحويل المعلومات إلى قوة روحية وذهنية مخزنة، ثم كيف تقوم، في الحاضر، بعمليات استنتاجية على الذاكرة الحافظة يقودها مبدأ الترسخ… ثم انتقل إلى وصف عمليات التداعي التي تقود الذاكرة الروحية المجردة من الراهن إلى مخزون الذاكرة الحافظة، موضحا كيف يكون من واجب منتج الخطاب الروائي متحكما في جولاته في الحافظة حتى لا يتجاوز حدود ما يتطلبه الحاضر من كم حتى لا يصير الخطاب الحاضر بلا معنى.. وقد ماثل الصنيع النموذجي بما يقوم به لاعب البلياردو قبل توجيه ضربته إلى الطابة من قياس للقوة وموقع الضربة… قياسا إلى ما تختزنه ذاكرته من مئات الضربات السابقة المبرمجة في ذاكرته… واختتمت فعاليات هذه الندوة بفتح نقاش مطول بين المتدخلين والحاضرين –وكلهم باحثون من مختلف الجامعات– وهو ما أغنى موضوع الندوة، وفتح أبواب جديدة لمعالجته في المستقبل.
<إعداد: علال بنور- رقية منظور